الأحد، 9 يناير 2022

بقلم التونسية حنان مبروك

 "حمام الذهب" أسطورة تونسية من منظور روائي

رواية "حمام الذهب" جاءت بأسلوب سردي فصيح وحبكة مشوّقة تمزج الواقعي بالخرافي موظفة الحكاية الشعبية التونسية للتعمّق في حياة الأقليات.



أسطورة أبطالها نساء عازبات (لوحة للفنان نزار الحطاب)

تحمل كتب التاريخ في طياتها قصص الشعوب وأساطيرها، انتصاراتها وهزائمها، فتكون عادة ركيزة أساسية للأجيال القادمة، فمن لا يعرف ماضيه لن يدرك كيف يبني حاضره ولا كيف يخطّط لمستقبل أفضل، إلاّ أنّ التاريخ قد يصل إلى الشعوب منقوصا، بعد أن اقتطعت يد السياسة جزءا كبيرا منه، وهو ما يحاول الروائيون تعويضه.

من التاريخ وأساطيره قد يقتبس روائيون كثر مواضيع منجزاتهم الأدبية، فتكون لدى القارئ بمثابة الحكاية الحديثة لبعض من الماضي جميلا كان أو قبيحا.

وفي روايته “حمّام الذّهب.. بلاّع الصبايا” (مبتلع الصبايا)، يعود الروائي التونسي محمد عيسى المؤدب إلى أحداث الماضي التي قرّر الناس إراديا أو عن غير وعي الاتفاق عليها، وحبسها في سجن الأسطورة، وإخفاء بعض من تفاصيلها عن كتب التاريخ، متّخذا من أحد ألغاز مدينة تونس على مرّ المئات من السنين مدخلا لسرد قصص يهود تونسيين.

الأسطورة هي المركز

جاءت الرواية بأسلوب سردي فصيح وحبكة مشوّقة تمزج الواقعي بالخرافي، موظفة الحكاية الشعبية التونسية للتعمّق في حياة الأقليات ورصد تفاصيل إقامتها في أحياء مشهورة وسمت الذاكرة التونسية كالحلفاوين وباب سويقة والمدينة العتيقة وحي الحارة وسوق القرانة، وهي جميعها أماكن تحمل في تفاصيلها الكثير من تاريخ تونس الذي يتجلّى حتى في معمارها الخاص.

وتنقّل الكاتب في أمكنة كثيرة، كشفت في طياتها قبح تونس وجمالها، كأوكار المدينة الخفية وجوامعها ومزاراتها الصوفية وأحيائها الشعبية وكنائسها ومقاهيها الشهيرة.

يقول محمد عيسى المؤدب في تصريحه لـ”العرب” إنّ السرّ وراء كتابته عن حمّام الذّهب “مرتبط بالمكان القريب من حارة اليهود وسيدي محرز وارتباط شخصيّات الرّواية بالحمّام، إضافة إلى أنّ حكايات الحمّام أو خرافاته تُضفي واقعيّة سحريّة”.

■طرح تاريخي لمعاناة الأقلية اليهودية

هذه الواقعية السحرية، كما يسميها الروائي، تتجلّى في أعماله التي اشتغل عليها سابقا، مثل روايته في محور الأديان والمكان “جهاد ناعم”، التي تتناول معضلة تهريب الآثار والإرهاب والعنف وتكشف كيف يصارع تونسيون البحر فتقذفهم أمواجه إلى عصابات تجندهم وتستعبدهم، فتسلب هويتهم وكنوزهم التاريخية وتتاجر بأجسادهم في حملات دينية هدفها الاستيلاء على ثروات البلاد وهويتها.

ويقول المؤدب إنّ “حمّام الذهب مرتبط أيضا بالهويّة التونسية وبعادات وتقاليد ضاربة في القدم بقيت غامضة في ثقافتنا الشعبية، لذلك كان من وظائف الرواية إحياء الموروث الشّعبي”.

إنها رواية تنبش في التاريخ المتجذّر في الذاكرة الشفوية لأهالي مدينة تونس، بكلّ أبعاده المكانية والزمانية، لكنّها ترتكز أكثر على الأسطورة، مرورا بالطرح التاريخي لمعاناة الأقلية اليهودية، مكتفية بسرد حكايات فردية لشخصيات من ماضي أبطال الرواية، تثير في القارئ تساؤلات عن مصيرها الموجع والمتكرّر جيلا تلو آخر.

وينتقد المؤدب على لسان أبطال الرواية التجاهل غير المبرّر للتأريخ لحضور الأقلية اليهودية في مراحل مهمة من تاريخ تونس، وذكرهم في بعض المراجع القليلة بإيجاز شديد، حتى صاروا جزءا من عالم أسطوري خيالي يتداول الناس حكايته شفويا.

ويبدو أن الأسطورة أو الخرافة كما يسميها التونسيون، قد صارت ملاذ الأقليات واقعيا مثلما هي ملاذ الأغلبية خياليا، فأمام تعرّضهم للتهجير والحروب والخوف وألوان التعذيب النفسي والجسدي، لم يكن باستطاعتهم سوى التشبّث بعالم القصص الشعبية للحفاظ على ما تبقى من تاريخهم، حتى وإن تداولوه في صورة رمزية يصعب على العامة فكّ شيفراتها.

تقول الأسطورة الشعبية إنّ “حمّام الرميمي” الملقب بحمّام الذّهب ابتلع منذ المئات من السنين صبيّة بعد نزولها بإيعاز من والدتها إلى قاعه لجمع سبائك ذهبية أثرية جادت بها الأرض فجأة، وظلت الصبيّة تمدّ أمها بالذّهب صارخة أنّ الحمّام سيطبق عليها وأنّ جنيا مخيفا يسحبها بقوة تحت الأرض، ولكنّ جشع أمها حال دون إنقاذها، وأطبق الحمّام على جسد الصبيّة ولم يترك منها سوى بعض من شعرها ينبت كل أسبوع، في اليوم المصادف لذكرى ابتلاعها.

ومنذ رواج تلك الأسطورة أصبح حمّام الذهب مقتصرا على النساء المتزوّجات، بحجة أن الجان لا يظهر إلاّ في حضور الفتيات العازبات، إلى أن أصبح بعد ذلك مخصّصا للرجال فقط، ولم يستقبل النساء منذ أكثر من 400 سنة.

ولا يختلف حمّام الذهب كثيرا عن بقيّة الحمامات الشعبية الأخرى، وهو ما تظهره الرواية، التي تجول بالقارئ في مواصفات معمارية تميز الحمامات الرومانية، تلك التي تحوي ثلاث غرف: الغرفة الباردة والمتوسطة والساخنة، وتعتمد تقنيات التسخين التقليدي التي يشرف عليها عامل مختص في إحراق الخشب يدعى “الفرانقي”، المذكور أيضا في الرواية، وتعتمد تقنية الإضاءة الطبيعية عن طريق فتحات ضوء صغيرة أعلى سقف الحمّام وهي مغطاة بالبلور.

تاريخ منسي

📷الأسطورة أو الخرافة كما يسميها التونسيون صارت ملاذ الأقليات واقعيا مثلما هي ملاذ الأغلبية خياليا (لوحة: مايسة محمد)

ينبش المؤدب في تاريخ حمّام الذهب وأشهر الحكايات التي رويت عنه، والتي تثير في أحداثها قصص حب عديدة بين يهود ومسلمين، والتعايش السلمي بين أتباع الديانتين، الذي لم يعد ممكنا في تونس منذ هزيمة العرب في صراعهم مع إسرائيل في العام 1967.

ولم يكتف الروائي بكشف معاناة اليهود، بل أزاح الستار عن معاناة المدن التونسية الداخلية من الفقر والتهميش، وكيف تدفع الخصاصة سكانها إلى ارتكاب الفظائع والجرائم، والتشبّث بوهم النبش عن الكنوز الأثرية بل وحتى المتاجرة الجسدية ببعضهم.

وتمتدّ أحداث الرواية من فترة التسعينات إلى ديسمبر 2010 مع تناول لأحداث تاريخية في الأربعينات والستينات عن اليهود التونسيين، وما لاقوه من عذاب من قبل النازيين أثناء الحرب العالمية الثانية والتي كانت تونس إحدى ساحاتها ومن ثم في أواخر الستينات إثر هزيمة العرب ضد إسرائيل، واصطدامهم برفض المسلمين التونسيين لوجودهم بينهم، ما اضطر العديد منهم إلى الهجرة إلى فرنسا عبر رحلات جماعية تاركين وراءهم بيوتهم وممتلكاتهم وتاريخهم بأكمله. وتقف الرواية عند الخلط الفكري والمفاهيمي الذي “يعشّش” في عقول الشباب العربي واستبد به في مرحلة تاريخية حساسة، حتى أنه خلط بين اليهودي و“الصهيوني”، معتبرا كل يهودي “صهيونيا” يجب محاربته ورفضه واسترداد الحق المسلوب منه.

وتبحث الرواية عن التاريخ المنسي والمتجاهل الذي بقي مطمورا في نهايتها بنهاية بطلتها تحت أنقاض الحمام، أين طمرت فتاة الأسطورة، بعد أن نجحت رفقة زوجها المسلم في إيجاد كنز يتحدّث عن تاريخ أجدادها اليهود، الذين لم يسعفهم الحظ لكتابته فدفنوه واحتفظوا بخارطة يتيمة يستدلون بها عليه.

إنه جزء من التاريخ الذي لم يكتب وربما لن يكتب، وفي البحث عن الكنز عبر الأسطورة، واسترجاع أحداث شهر ديسمبر 2010 وشرارة انطلاق “ثورة الياسمين”، رمزية لثورة ضد منظومة قديمة متوارثة منذ المئات من السنين، تعطي المنتصر الحق في أن يكون الكاتب الوحيد للنسخة الوحيدة واليتيمة من التاريخ.

الرواية تنبش تاريخ أشهر الحكايات الأسطورية التونسية مثيرة في أحداثها قصص حب عديدة بين يهود ومسلمين

وعن هذا تقول إحدى شخصيات الرواية “أعتقد أنّ سبب رهبتنا هو الذاكرة المشوّشة والتّاريخ المسيّس. لقد فرضوا علينا تاريخا لم نشارك في صنعه، وعلينا أن نصنع واقعنا ونتحرّر من كلّ التأويلات. أجل، ما الذي يمنعنا من التحرّر بشكل إنسانيّ خلاّق دون أن نسيء بطبيعة الحال إلى هويّاتنا وأدياننا؟”.

وجاءت الرواية بأسلوب سلس ومحكم كتابة ورسما للشخصيات، إلاّ أن بعض القراء في مجموعات التواصل الاجتماعي يرون أن شخصياتها لم تنحت بعمق، وجاءت المادة التاريخية فيها سطحية وفي شكل سردي على غرار كتب التاريخ التعليمية، فسقطت في صفحاتها الأخيرة في التسريع الكبير للأحداث واختصارها ممّا أثر في توازنها السردي.

ويفسّر المؤدب لـ”العرب” قائلا “خاتمة الرواية مفاجئة للقارئ وأردتها أن تكون سريعة ومخيفة وصادمة، ولكنّها ليست شبيهة بنهاية الأسطورة الباحثة عن الذهب. البحث في الرواية عن الهويّة، ما إن تجد هيلين (البطلة) اليهودية القرائن الدّالة على هويّتها وجذورها حتى تبتلعها أرض الحمّام، وفي ذلك إشارة إلى الواقع التونسي اليوم الذي تطغى عليه الكراهية والحقد وإلغاء الآخر”.


حنان مبروك


صحافية تونسية


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق