تقول فاطمة بصور
《ممتنة لهذه القراءة الباذخة من عبقري لبورتريهات ومطوع أدبياتها: أستاذ حسن بيريش》.
حسن بيريش
نقلت الزجل من غرفة الكتابة إلى أضواء الشاشة
(1)
"مَ تَـنْـسَـاشْ،
تَـمْـسَـحْ اٌلـدَّمْـعَـة،
دْيَـالْ دِيـكْ اٌلـشَّـمْـعَـة".
هي تنحت بإزميل، وأنا أكتب بقلم. وحين يغدو إزميلها حبرا، لا يصبح قلمي نحتا. وإذا استوى ما أبدعته جسما من جمال، لا يتحول ما كتبته إلى روح من خُلْد. إنها حين تكتب، ترسم، وأنا لما أرسم، أكتب. الفارق الشاسع بيننا: هي تتراحب لأجل أن ترمقني في كثير كليتي، بينما أنا أنحصر لكي أتملاها في قليل فلذاتها.
فكيف، يا فاطمة بصور، أعتقلك ضمن حيز كلام، أنت سيدة دواله كلها ؟! وبأي لغة سأكتبك، أنا الذي حين أقرأ ٱيات من وارف جنونك، لا يبقى لمحبرتي أي عقل ؟!
"حْـلَـفْـتْ بْ لَـحْـلُـوفْ،
نَـبْـقَـى رُوحْ،
مْـعَـلّْـقَـة فْ جُـوفْ لَـحْـرُوفْ،
ؤُ فْ زَاوْيَـةْ لَـقْـصِـيـدَة،
نَـشْـعَـلْ شْـمُـوعْ اٌلـرُّوحْ،
وَبْـلاَ هْـوَايَـا نْـبَـاتْ نْـطُـوفْ".
(2)
"حَـتَّـى فَـاقْ اٌلصّْبَـاحْ،
وَاٌللِّيـلْ رْخَـى عْـضَـامُـو بَـاشْ يَـرْتَـاحْ،
عَـادْ بَـانْ خْـيَـالَـك،
يَـتْـرَاوَجْ فْ دَاكْ لَـمْـرَاحْ".
مُذْ أشركت "اٌلصّْبَـاحْ" ب "اٌللِّيـلْ"، وأزمعت على جعل خيالها فرسا لجموح قلبها، وَهْيَ لا تَكُفُّ عن زرع بروق قصيدها في مهب رياح يدها الوَلْهَى. لَيْسَ لِلرُّوحِ، فِي سرها وعلانيتها، أي نأي، سواء ٱلت صوب القول، أو نحو الفن.
"اٌلـشَّـمْـسْ اٌللِّـي حَـرّْزَتْ اٌللِّـيـلْ،
وْشَــرْبَـتْ فَ اٌلـنّْـهَـارْ ظْـلَامُـو،
شْـعَـلْـهَـا فْ فُـمّْ اٌلـرِّيـحْ فْـتِـيـلْ،
وَطْـفَـا ضَـوّْهَـا عَـنْـوَة بِ كْـمَـامُـو".
(3)
"مَـنْ هَـدْ لْـعَـشْـقْ،
مَ بْـغِـيـتْـشْ نَـبْـرَا،
حِـيـتْ عَـشْـقْ جَـاهَـلْ،
وَعْـلَـى لُـوحْ عَـشْـقَـكْ،
بْـغِـيتُـو يَـتْـعَـلَّـمْ يَـقْـرَا".
على ركح الحياة يأتيها الصوغ الشعري، فتكتب ذواتنا بكامل ذات جسدها، لا فقط بعيني يدها. ثمة إحساس ينتابنا، حين نطالعها مرسومة على صفحة قصيدتها، ويؤول بنا إلى الظن المتيقن بأنها تمسرح الشعر، حين تنقله من غرفة الكتابة إلى خشبة الإلقاء، ومن ضيق العزلة إلى شسع الناس.
وسيروا، رويدا، في مناكب أزجالها، وتأملوا، مليا، في مداخل جهر إفضائها، وفي مخارج مزارع بوحها، وتبدو لكم وَهْيَ في أتم أدوارها، حيث مهارة إبراز الجدار الرابع في القصيدة. ثم إزالة كل حاجز بين تعبيرات اللسان وحركات الجسد. وبذلك، تنتفي الحدود المرسومة بين الكلام والتشخيص.
"خَـلِّـيـوْنِـي،
مْــغَـامْـــرَة،
طَـالْـعَـة مْـعَـافْـرَة،
مْـشَـعْـبْـطَـة فْ لَـخْـوا...".
تَقَمَّصَتْنِي، شعرا وركحا، فاطمة بصور، هذه الشاعرة التي مُذْ رَاقَصَتْنِي في حلبة ال "بانتومايم" الشعري، وأنا مأخوذ بتلك الحركات الإيحائية التي تتقنها حد إرباكي !
"مَـللِّـي كَـنْـطُـلّْ
عْـلِـيَّـا مَـنِّـي،
فِ مْـرَايْـةْ اٌلـرُّوحْ".
(4)
"مَـنٔ نْـهَـارْ،
گَـالُـو اٌخْـرَجْـتْ مَـنَّـكّْ،
وَنَـا كَـنْـتْـمَـنَّـى نَـعْـرَفْـنِـي فِـيـكْ،
اٌسْـكَـنْـتَـكْ غِـيـرْ بَـاشْ نَـقْـرَاكْ،
ؤُنُـخْـرَجْ مَـنَّـكّْ".
ثمة تشخيص تمثيلي ٱسر في نصوص فاطمة، يجعل كتابتها تتبدى كما لو أنها مشاهد متتالية، وملتقطة بمهارة من طرف عدسات كاميرا ذكية. هنا، لابد أن تعترف أن "مجنونة الركح" هذه، لا تدبلج أصوات الدخائل في مسلسلات، فقط، كما أنها لا تسلسل دبلجة سرائر الشعر، فحسب، وإنما هْيَ تنتقل بجزء الحكاية المصورة إلى كُلّ الزجل المكتوب.
"مَـللِّـي خْـيَـالَكْ،
يْـهَـرَّسْ لِـيـلْ نْـعَـاسِي،
نَـسْـرحْ اٌلـسّْـهُـو،
فَ ظْـلَامْ وَسْـوَاسِـي،
ؤُبْ زَفْـرَاتْ اٌلـتَّـنّْـهَـادْ،
عْـلَـى عَـتْـبَـةْ اٌلـضِّــيـمْ،
نَـرْسَـمْ هْـلاَلْ دِيـكْ لِـيَّـامْ...".
لما أشاهدها على الشاشة الصغيرة، باعتبارها ممثلة لها ضوء رسوخ بلا عتمة، وحين أطالعها على الورق، بحسبانها شاعرة لها أقاصي حضور بدون تخوم.
(5)
"غِـيـرْ هَـادْ لْـعَـامْ،
هْـدِيـتَـكْ سَـلَّـة مَـنْ لَـحْـلاَمْ،
وَنْـتَ مَـنْ كْـدُوبَـكْ،
هْـدِتِـيـنِـي حَـلْـمَـة كَـاشْـفَـة
فْ لَـمْـنَـامْ".
على عكس المتداول، تبرز هذه الزجالة المشاكسة. وعبر هذه المغايرة، تغادر كُلّ خطى القطيع، ثم تحجز لتحليقها مساحة الأقاصي بمنأى عن السرب. رُبَّمَا نَزَلت عَلَينا من شاهق، حتى ندرك أن الشموخ يكمن في السحائب. ورُبَّمَا عثرنا عليها دون أن نتعثر بها، لأن أفضية التقائنا الحرة كانت هناك، في أعال بها تقطن الأنا الأنثوية الفادحة.
"أَنَـا بَـعْـدَا،
مَ كَـنّْـحَـسّْ بْ رَاسِـي مْـرَا،
حَـتَّـى كَـنّْـحَـرَّشْ مْـعَـاكْ لْـهَـضْـرَا".
وهذه "البَـصُّـورِيَّـة" تحول حروف "التْـهَـلْـوِيـسَـة"، إلى لطمة على خد أي غرور يتوهم أنه مذكر. لذا، لا تخوم أمام رسوخ موقفها، وإزاء خفقان قناعتها.
"عْـلاَشْ تْـخَـلِّـيـنِـي نْـتِـيـقْ فْ رَقَّـاصَـكْ،
وَنْـدِيـرْ رَاسِـي فْ رَاسَكْ،
وَنْـتَ رَامِـي لِيَّا لَـحْـبَـلْ،
غِـيـرْ بَـاشْ اٌدِّيـرْ خَـاطَـرْ خَـنَّـاسَـكْ؟".
(6)
"مَـللِّـي طْـفِـيـنَـا
اٌلـظّْـلاَمْ،
وَشْــعَــلْــنَــا
اٌلــشَّــهْــوَة".
لغة عارية في حرقتها، مأنوسة في وحشتها، تلك التي تكتب بها، أو بالأحرى تحلم بها. ولا عجب، فهذه المبدعة تزرع نصها بالحلم، أكثر مما تؤطره باللغة. أَجْسَاد - لا جسَد - شعرها تكاد تتعرى من كُلّ حلية اجتماعية مرسومة سلفا، لكي تبوح بثقل ما يعتمل في أحشائها من تعبيرات مجازية مربكة، ومخلخلة في بلاغتها الطازجة.
"مَـللِّـي نْـتَ وَخَّ غِـيـرْ بَـلْـعَـانِـي،
كَـتْـگُـولْ أََحّْ،
أَنَـا كَـنْـتْـقَـسَّـحْ أَبْـنَـادَمْ بَـصَّـحّْ".
لَيْسَت شهوات الليل من تسير بيراعها باتجاه اللهجة الدارجة الموشومة بجروح الرغائب. بل هي صبوات النهار من يبتغيها حبرها الصوال، وهو يقتفي في الجسد عذاب القلب، ويلاحق في القلب سعير الجسد.
"اٌلـسَّـاعَـة بْـلاَ هْـوَايَـا،
اٌمْلَـكْـنِـي هْـوَاكْ،
واٌسْـكَـنِّـي جَـنَّـكْ،
وَلِّـيـتْ لِـيـكْ،
مْـتَـرّْعَـة شْـرَاجَـمْ دَاتِـي".
(7)
"أيها الحلم،
العالق بالأشواك،
هذا آخر نداء،
سارع،
قاوم،
فك عنك الوتاق".
رَاقَصَتْنِي بَـصُّـور ردحا من قصيد، وَزَفَّتْنِي كُلَّ توقيت شاشة،
ودوما تركتني إلى كف إبداعها أرنو، وبه أعجب. وتُنَادِينِي كُلَّ يَوْمٍ بِاسْمٍ جَدِيد: مرة أصبح زجلية بديعة طَوَالَ الْإِقَامَةِ فيها.
ومرة أغدو وجها سينمائيا يبدع احْتِفَالًا بنون الجدارة، وَمرة أتبدى كيانا يشع ارْتِحَالًا في سفر تاء التفوق.
"اٌنْـتَ لْـغَـلْطَـة اٌلـزّْوِيـنَـة،
اٌلِّلـي دَرْت فَ حْـيَـاتِـي".
إنها لا تخاطبني أنا، ولا تمرر رسالة إلى حبرها، هي فقط تود أن تقول بأن أروع خطأ ارتكبته، مُذْ أمسكت بضوء اختلافها، هو أنها وهبتنا قصيدة الشاشة، وسارت نحو شاشة القصيدة، وَبِأَسْمَاء شَتّى للأنثى الفخورة، الفاخرة.
"جِـيـتَـكْ،
هَـارْبَـة مَـنِّـي لِـيـكْ،
مَلِّلي اٌطْفَـى فِـيَّـا
ضَـوّْ خَـاطْـرِي،
وَشْـعَـلْ فْ ضَـوّْ عَـيْـنِـيـكْ".
(8)
وها هي (فاطمة):
تطـلّ
علي مـنِّـِي !
عساني، أنا،
أطـلّ عليها منها !
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق