حياة النص الإبداعي
**************
دوما تتأخر مقالتي بسبب أنني لا أجد المقدمة المناسبة للقاريء ، التي توائم بين مزاج القاريء والموضوع الذي فرضت على نفسي أن أتناوله ، وهذا يعني أن المنتج للأدب يعاني معاناة كبيرة لكي يقنع من يقرأ كلماته ، فيحاول أن يجد فكرة جديدة مثيرة وغير مسبوقة عساها تبلغ رسالته للمستقبِل لهذه الرسالة ، فيملأ كأس الرسالة شهدا مفيدا وطعما رائعا ، ليستمتع المتلقي ويستفيد
، فيشترط في الرسالة الجديدة أن تكون إبداعا ، والإبداع هو الحداثة والإجادة من خلال الابتكار والنسج بشكل غير مسبوق أو مطروق ، وليس في الإبداع جديد أو قديم ، فالإبداع جديد فقط ، ومتجدد دائما ، فلم تغب لذة شعر امريء القيس والمتنبي وشوقي ونزار وجويدة وإليوت وجوتة وريلكه وأوسكار وايلد وغيرهم عن تذوقي لحظة ، ولم تتغير لذة نقد عبدالقاهر الجرجاني وطه حسين وجيرار جنيت ووليم بتلر ييتس ، ولازلت أطرب من غناء عبدالوهاب وأم كلثوم ، ولم تفقد روايات شكسبير وتشيكوف ومحفوظ وإدريس جمالياتها رغم مرور زمن طويل عليها .
حيث إن أعمال هؤلاء إبداع في زمنها ، ولازالت إبداعا لمن يتناولها حتى هذه اللحظة .
وقد وردت مفردة الإبداع في لغتنا العربية بمعنى الإيجاد على غير مثال سابق ، ولكنه ليس إيجادا من العدم ، وقد فسر المفسرون ( بديع السموات والأرض ) خالقهما الذي أنشأهما على غير مثال سابق ، (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ ۖ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ ۚ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يَصِفُونَ ، بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ ۖ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ ۖ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) ، سورة الأنعام الآيتان ( 100 ، 101 ) فحينما ادعى المدعون أن لله شركاء من الإنس ومن الجن ، أخبرهم ربنا سبحانه وتعالى أن كل المخلوقات هذه مبتدعة ومخلوقة من الله جل في علاه ، وأن الذين تتحدثون عنهم من الجن والإنس إنما هم مخلوقون مثلكم ومبتدعون على غير مثال سابق ، ولم يقصر مولانا الإبتداع على ذاته جل في علاه ، بل قال : _ (ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا ۖ فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ ۖ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ) ،
سورة الحديد ( الآية 27 ) ، فقد ابتدع الصالحون السابقون من بني إسرائيل رهبانية ماكتبها الله عليهم ، فلم فرطوا فيها عاب الله عليهم هذا التفريط ، ولذا حينما وجد أحد الصحابة ( أبي إمامة الباهلي واسمه صدى بن عجلان ) المسلمين يقيمون صلاة القيام ويحرصون عليها ، قال لهم : _ ( أحدثتم قيام الليل ولم يكتب عليكم ، فداوموا عليه ولا تتركوه ، فإن ناسا من بني إسرائيل ابتدعوا بدعا لم يكتبها الله عليهم ، ابتغوا بها رضوان الله فما رعوها حق رعايتها ، فعابهم الله بتركها فقال : ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها (.، فهناك ابتداع حسن وطيب وجميل ، ولذا نجد أن الرسول ينسبه للسنة وليس للبدعة فيقول ( من سنَّ سنة حسنة ) وأفهم من هذا أن الرسول جعل الابتداع الذي ينفع الناس سنة حسنة ، ومعروف أن السنة على إطلاقها منسوبة للرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم ، الذي نفى الله عنه أن يكون بدعا (قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ ۖ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ ) ،
الأحقاف ( آية 9 ) ، فقد كان هناك أنبياء ورسل سابقون يدعون لدين الله جل في علاه .
فالإبداع لايقبل التقليد ولا المجاراة ، لكنه فكرة جديدة للغاية ، وحينما يريد المبدع سواء كان كاتبا أو رساما أو مطربا أو نحاتا أو غيرهم أن يبدع عملا ما ، فلابد أن يترك كل ما مضى ، رغم علمه به ، وأن يستقر على نمط جديد خاص بالعمل الجديد ، وإذا فتشنا في النصوص الإبداعية على هذا النمط ، فسنجد أن الكثيرين ممن أنتجوا فنونا لم يبدعوا كثيرا ، بل إن إبداعاتهم تلخصت في قليل من أعمالهم ، وسوف نجد هناك مفارقات كبيرة في هذا الإبداع ،
وكذا مفارقات بين المبدعين ، فليس شعر حافظ كشعر شوقي في الإبداع ، وليست موسيقى السنباطي كموسيقى عبدالوهاب ، وليس غناء أم كلثوم كغناء عبدالوهاب .
وبالتالي فإن هؤلاء جميعا أوجدوا فنونا على غير مثال سابق ، وهذه الفنون مؤثرة للغاية في مجالاتهم ، رغم أن عناصر هذه الفنون موجودة من قبلهم ، لكنهم استطاعوا من خلال الموهبة التي أعطاها الله لهم أولا ، ثم استخدام العقل الاستخدام الأمثل لهذه الموهبة ، حيث إن العقل هو مركز الإبداع ومركز التفكير ، وبعبارة أخرى فإن العقل هو ذلك المصنع الذي يتم تغذيته بالمواد الخام من صور ورؤيات ومشاهد وتجارب وأفكار ومعلومات ومعارف وصيغ وأساليب ، ثم يأخذ العقل هذه الأشياء كلها ويحلله ويرتبها حسب أهميتها ، فيطفو منها مايطفو ويكمن منها مايكمن ، ويتضح ذلك من خلال مرحلة الإنجاز النصي ، فحينما تستثار خلايا العقل ، وتبدأ مرحلة الإبداع تتضح الموهبة والخبرات في النص من أول لحظة .
وحينما يظهر العمل يكون مقياس الإبداع هو النمطية أولا ، فلايقبل العمل الإبداعي أن يكون تقليديا أن نمطيا ، ثانيا الجدة للناس ، فيشترط أن يكون هذا العمل جديدا عند تقديمه للناس .
وحينما نضع هذه المقاييس أمامنا سوف نعرف ماهو الإبداع الحقيقي وماهو الإدعاء ؟!!!! .
الحياة / النص / الإبداع
*************
بعدما قدمت التعريفات للمفردات الثلاثة دون تدخل مني نهائيا ، تجدر الاشارة إلى : لاحياة بدون نص إبداعي تقدم الوعي للمجتمع ، وتحرص على توازن الشخصية في حياة الناس ، وبالتالي لاتوجد أمة في العالم ولا مجتمع من المجتمعات ولا دولة من الدول بدون نصوص إبداعية ، وكل الدنيا تعرف اسخليوس ولاتعرف الحكام في عصره ، وتعرف جاليلو ولاتعرف الأغنياء في عصره ، وتعرف امريء القيس ولاتعرف الاقتصاد في عصره.
كذلك لايمكننا أن نتصور أن هناك نص إبداعيا بدون حياة ، فحياة النص الإبداعي مرهونة بمن وصل إلهم النص حتى لو كانوا كما قال دوستوفيسكي أغبياء ، فقد كان مشهورا عنه قوله : _ لابد أن نهتم بالأغبياء في كل عصر لأنهم يشكلون الأغلبية .
وخلاصة القول :_ إن النص الحقيقي هو حياة وإبداع .
د.رمضان الحضري
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق