الثلاثاء، 25 يناير 2022

د.رمضان الحضري

 الشعر بين الكهانة والوظيفة 


****

سـ : ماذا تعني لك الكتابة ؟

جـ : الحياة .

إذا سألت كاتبا حقيقيا فستكون إجابته هكذا ، فكلما اقتربت منه الكتابة ابتعد الموت والعكس صحيح .

فالكتابة أسدٌ شابٌ رشيقٌ يفترس سمان أفكار الموت محافظا على حياة الكاتب ، وحين تبتعد الكتابة عن الكاتب يسقط بين جبال الاكتئاب ولا يمكنه أن يخرج من بينها إلا بسلطة الموت ، فمن قُدِّرَ له أن يكون كاتبا فلا يبرحْ حدائقَ الحروف ومراتعَ الكلمات ومرابعَ المعاني ومدائنَ الدلالات فذلك طعامه وشرابه وسعادته وشبابه .

  ذا خاطر جاءني وأنا أحاول أن أكتب مقالتي تلك منذ شهر تقريبا ، أصارع فيه ما أصارع من أوهام وأحلام وكتب ومعلومات واوجاع شتى ، وما عرفت عبر التاريخ أن مقاومة حقيقية سقطت في حفرة الهزيمة ، بل كل مقاومة حقيقية وصادقة لابد أن تجني ثمار النصر حينما تبنى على المثابرة والإخلاص .

ورغم الإصابات البالغة التي أعاني منها جراء عدم صلاحية ما تعلمناه وما زلنا نعلمه لأبنائنا في وطننا العربي من خليجه العربي الصافي وحتى المحيط المشترك بيننا وبين العالم ، ومن شمال يرسل الفوضى ولايسمح للنور أن يمر عبر البحور ، ومن غرب أبى أن يعترف بما اغترف من فيض الجدود ، وأنشأ مجده وصولجانه ليسيطر على الأحفاد اليتامى ويكشف عورات نسائه الأيامى ، فلازال التاريخ غربيا بامتياز ، ولازالت الفنون شمالية باقتدار ، ولحق أقصى الشرق بأقصى الغرب ، والأمر في منتهى العجب أن يمر الضياء على بلادنا فلا ينير ، وتمر العلوم على أوطاننا ولاتنزل بساحاته ، فنحن من نؤذن الفجر ولاتطلع الشمس على ديارنا .

تقدمة حسب مزاجي الليلي ربما لاعلاقة لها بالعنوان فأضطر أن ألفق لها علاقة وألوي ذراعها لتنسجم مع مرادي المشبوه في هذه المقالة .

وجهة نظري الخاصة ان الكهانة ظهرت في وطننا العربي قبل ظهور الشعر ، وربما كانت أحد الدوافع الذي أثار حفيظة الصادقين فثاروا على الكهانة بكتابة الشعر الحقيقي ، وقد نزلت الكهانة لبلاد العرب من بلاد الصين والهند حيث كانت هذه البلاد تعتمد على الكهانة في حياتها جميعها ، وهي كهانة وثنية ، وقد انتقلت حسب التاريخ من مصر القديمة منذ الكاهن الأول ( حام نيثر ) إلى كل أقطار العالم فأخذها اهل الشرق الأقصى للسيطرة على الشعوب عن طريق الخرافات وتفسير الأحلام والدجل والسحر ، وكل هذا يصدر مرة أخرى إلى بلادنا العربية عن طريق مؤسسات إعلامية كبرى تفتح له القنوات والشبكات وتنفق عليهم ببذخ لتصبح أرض النور العربية صينية قديمة او هندية ضاربة في التاريخ ، ويزول مجد الإسلام والعروبة ( والله متم نوره ولو كره الكافرون ) .

كانت الكهانة في مصر القديمة مرتبطة بالدولة ونظام الحكم ، فالكاهن الأول قد يكون حاكما ولكنه يحكم باسم الملك الذي رحل حيث الملك بن الإله ، ويقوم الكاهن بالمحافظة على العقيدة من خلال الصلوات والإشراف على الكهنة وفرض الضرائب على الفلاحين وإرسال من يجمعها ، فكان مركزا كبيرا جدا في البلاد ، تتعدى سلطاته سلطات رئيس الوزراء في عصرنا الحالي .

وكان الكاهن في الصين أو من يسمونهم أهل ( الطاوية ) وهذه كلمة صينية تعني النسك فكانت وظيفته مجتمعية لاترتبط بالحكام ولا بالصراعات المنتشرة عبر كل بلاد وقبائل الصين ، فالكاهن يعمل بالسحر والطب والعرافة والشعوذة ووصفات إبراز الطاقة وإطالة العمر والاستمتاع بالنشوة وغيرها من الأفكار المرتبطة بالتنجيم واستشراف المستقبل وإكثار الرزق .

وحينما ظهرت الكهانة في بلاد العرب متأثرة بما نقل من بلاد الصين أو من مصر القديمة ، فالعربي عبر تاريخه خير من يصدق الغرباء ويعمل بنصحهم ، وأسرع من يبتعد عن أخيه وربما أعلن الحرب إن سمع نبأ مدسوسا ( إن جاءكم فاسق فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين ) .

كانت الكهانة في بلاد العرب تعتمد على كلمات مسجوعة لا معنى لها بالمرة ، وتحتوي على الأمر ونقيضه من باب الاحتياط ، فيقول الكاهن وهو يرى الطالع للعربي ( سيعيش أهلك فترة ظماء ولكنهم سوف يعثرون على الماء ) ، وكان الكهان في بلاد العرب أكثر المفرقين بين أبناء العائلة الواحدة ، وغالبا مايكون الكاهن يجيد العربية ولكنه ليس عربيا ونسب نفسه لقبيلة عربية نظير أنه سوف يخبرهم بما يحدث لهم خلال العام المقبل ، وهو نفسه ما يفعله التلفزيون العربي في وقتنا الحالي مع مطلع كل عام ، حيث تقوم الدول المتقدمة بوضع خطط للمخترعات وإحصاء ماتم إنجازه والإعداد لاستكمال الخطط العلمية ، ويقوم التلفزيون العربي بإحضار المنجمين من شتى بلدان العالم لمعرفة الطالع والنازل .

وتذكر لنا كتب أخبار العرب كيف استطاع كاهن خزاعي أن يفرق بين هاشم بن عبد مناف، جد النبي المصطفى وجد بني هاشم ، هذا العربي الأصيل الذي كان مثالاً للكرم والشرف ونجدة الملهوف ، لكن هذا أثار حقد الكاهن الخزاعي فوضع فتنة بينه وبين ابن أخيه أمية بن عبد شمس، حتى تطاول أمية على عمه ودعاه للمنافرة، وكانت المنافرة عند العرب قديما أن يتناظر اثنان ، فيذكر كل واحد حميد خصاله وحسن أفعاله وعلو همته ليتميز على خصمه .

ترفع هاشم عن مناظرة ابن أخيه فالبيت واحد والمجد لكليهما ، لكن الكاهن الخزاعي وسوس لأمية ليصر على المنافرة ، مما اضطر هاشم على الموافقة أمام الكاهن الخزاعي ، حيث يحكم الكاهن بينهما ، من المنتصر ؟ وماغنيمته ؟ ومن المنهزم ؟ وما عقوبته ؟

واتفقوا أن يقدم الخاسر خمسين ناقة للمنتصر ، وينفى الخاسر من مكة لمدة عشرة أعوام . 

يبدو لي أن الكاهن الخزاعي كان غربيا بنسبة كبيرة ، حيث حكم لهاشم قبل بدأ الكلام تقريبا ، وقال  ( والقمر الباهر، والكوكب الزاهر، والغمام الماطر، وما بالجو من طائر، وما اهتدى بعلم مسافر، من منجد وغائر، لقد سبق هاشم أمية إلى المآثر، أو منه وآخر ) .

فصاح أمية في وجه الكاهن الذي أوقعه بخبث ودهاء : ( من انتكاث الدهر أن رضيناك حكما ) ، ولكن الفرسان عند شروطهم فقدم أمية لعمه خمسين ناقة ، وعمه يرفض وأمية يصر على أن ينفذ الشروط حتى لو كانت جائرة ، وترك مكة متوجها لبلاد الشام ، ليصبح الأخ بعيدا عن أخيه ، وليكتب التاريخ عداوة طويلة بين بني أمية وبني هاشم ، جرَّت على العرب ما جرَّت من نكسات وحروب ودماء وقتل وتأخر .

والكهنة في كل عصر ومصر هم أكثر الناس تكسبا للمال ، لأنهم يربطون بين الاعتقاد وبين الحياة فيالدنيا والآخرة ، ولذا نجد أن أكثرهم يظهر تدينه للعامة ، ويحاول أن يغطي كذبه بغطاء سميك حتى لا تكتشفه العامة ، فتجد مايسمي نفسه شيخا ومن أسرة ضعيفة الحال وقليلة المال ، وقد تكسب أموالا تتعدى المليارات ، لأنه يتحدث في الكهانة لا في الدين ،لأن الدين بطبعه لايتطلب أجرا( قل ما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على الله ) . 

وهذا ماجعل كهنة عصر ماقبل الإسلام يبحثون عن مشتركات للقسم تصلح لكل القبائل العربية ، فكانوا يكثرون من القسم بالمجرات والنجوم والبحار والأنهار والجبال ، بل ويقسمون بكلمات لا معنى لها لإيهام السامع أنهم يمتلكون علوما لا يعرفها غيرهم ، ولا يزال الكهنة على ذلك حتى عصرنا الحالي وحتى كتابة هذه الكلمات .

فالمرء الذي يوهم الناس أنه شاعر بكلام مخادع نسميه كاهنا ، لأنه قصد التعمية والتكسب من كلامه وهو ليس شعرا ، فتكمن الفروق الجوهرية بين الشعر والكهانة في الوظيفة ، فوظيفة الكهانة هي التكسب عن طريق إيهام المتلقي بصحة مايقول الكاهن ، ويحرص الكاهن على السجع والمزاوجة والازدواج وحسن التقسيم والتفنن في الآداء والإلقاء والاعتماد على نبرات الصوت في التخييل للمتلقي .

بينما وظيفة الشاعر هي رصد حركة المجتمع والانفعال بما يدور حوله ومحاولة تصحيح وجهة نظر المجتمع وتقديم أطروحات فكرية جديدة وجمالية متفردة غايتها نشر الجمال والفكر الصواب والخير لكل مستمع ، ولأن شعرنا العربي تخلى عن وظيفته منذ الستينيات  تقريبا انصرف الناس عنه وخاصة العامة واتجهوا إلى أفكار جديدة في شعر العامية المصرية واللهجة الصعيدية أو البحراوية أو البداوية أو اختراع أغان جديدة ومعظمها لسد الفجوة وتأتي من غير متخصصين وغير مسئولين فيكون إفسادها أكثر من نفعها .

ورغم كثرة الكهنة ومدعي الشعر إلا أننا لو تفحصنا جيدا سوف نجد هناك شعراء حقيقيين في كل قطر عربي أمثال فاروق بنجر وأحمد آل مجثل وطه بخيت وفيصل آل صالح وحسن الزهراني في المملكة العربية السعودية والوحشي والجامعي والبدري والبلوشية في سلطنة عمان كذلك ، وكثرة في العراق وسوريا وفلسطين ولبنان وبلاد المغرب العربي .

وقد اخترت نصين لشاعرين كي أفرق بين الكهانة والشعر ، والنص الأول لشاعر دولة الإمارات العربية المتحدة الشاعر العربي  كريم معتوق 


وقد وسم نصه بـ ( أضداد ) ، حيث يقول :

*************

بكِ من قسوةِ جلادٍ

ومن لينِ نبيْ

ومن البحرينِ عذبٌ وأجاجْ

بكِ يا سيدةَ الوقتِ

مع الوقتِ اعوجاجْ

حين تقسينَ عليْ

وترقينَ إليْ

قتلَ اللهُ المزاجْ

***

بكِ من عزمِ الشواهينِ

ومن خوفِ الحمامْ

كلما حامتْ صقورٌ

تلدينَ الخوفَ

من نسلِكِ جاؤوا بالسلامْ

ومن الوثبةِ جاؤوا بالشرورْ

وفراغُ الروحِ قد غصَّ انتظارًا وازدحامْ

ودمي ممتلئٌ منكِ غيابًا وحضورْ

***

بكِ مما بكِ ضدانِ وبي

منهما لوعةُ ما ليس يريحْ

زاهدٌ بالعقلِ ..  يا سعدَ الغبيْ

زاهدٌ بالنثرِ والشعبيِ

والشعرِ الفصيحْ

************

بينما النص الثاني للشاعر المصري الكبير  ،عبدالعزيز جويدة 


والذي وسم نصه بـ

 ( سلمت طوعا للعيون سلاحي ) حيث يقول فيه :

**************

إني أُحبُّكِ مستبدَّة

أنا مارجوتُكِ مرَّةً

في أيِّ يومٍ تُطلقينَ سراحي

هيا استبدي واستبدي في الهوى

مادمتِ يا محبوبتي

إن تستبدِّي في الهوى ترتاحي

إياكِ أن تتخيَّلي مهما جرى

في أيِّ يومٍ بينَنا

أن ينتهي يومًا جنوني في الهوى

أو ينتهي في لحظةٍ إلحاحي

قّدَرُ الإلهِ من السماءِ

مقدَّرٌ

أن تسكني نِنَّ العيونِ حبيبتي

أن تمرحي عندَ المساءِ كطفلةٍ ببراحي

لو غلَّقوا كلَّ الدروبِ بوجهِنا

أو أظلمتْ

تبقى ابتسامةُ طُهرِنا مِفتاحي

سربُ الجروحِ العادياتِ كأنها

خيلٌ وتجري في سباقِ مواجعي

إن نامَ جرحُ داخلي

فهناكَ دومًا ألفُ جرحٍ صاحِ

متسلَّحًا بالعشقِ كنتُ

ولقَّبوني بينَ الفوارسِ في الحروبِ الماحي

حتى التقيتُكِ عندَ أولِ غزوةٍ

فعقدتُ صلحًا للأبدْ ما بينَنا

وبنظرةٍ سلَّمتُ طوعًا للعيونِ سلاحي

*************

ولايزيد نص كريم معتوق عن ثمانين كلمة ولا يجاوز نص جويدة المائة وعشر كلمات ، وهنا وجب علينا أن نفرق بين الكلمة في الكهانة والكلمة في الشعر ، وهذا ما سوف أتناوله في اللقاء القادم بعد الاستمتاع بهذين النصين قراءة دون تفسير ، فإن شم الورود يكون أجدى قبل أن نفرق أوراقها .



د.رمضان الحضري


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق