الحداثة الواقعية في رواية
(ليلى والحاج)
تتكون رواية (ليلى والحاج)* لمحمد الأحمد
من مواقف وحالات وسلوك. وإذا كانت الغاية منها رسم صورة لمجتمعات الشرق، التي تتصف بالعنف والدموية، فإنها بنفس الوقت تحاول تقديم صورة مماثلة عن سوسيولوجيا الزعامة. وهذا يفترض الكلام عن تأثير المجتمع على الأفراد أو على الوعي الباطن لهم. ولذلك كانت الرواية تتابع مصائر أبطالها داخل مجتمع الدولة الافتراضية أو مجتمع الأمة استطرادا كما يقول خليل أحمد خليل في كتابه الهام عن “العرب والقيادة” **. فهي لا تحدد مكانا معينا للأحداث، ونحن نستدل عليها من الطقوس والعادات. ومنها عزل النساء عن الرجال وحجاب المرأة ومناسك الحج. وهذه إشارات واضحة عن التأسلم وعلاقته بالدولة والأمة في العصر الحديث. لذلك أنظر للرواية وكأنها أليغوري، أو مجاز عن مشروع يتطور في الظلام. وقد عبرت عنه شخصيات حاملة لفكرة، أو ما نسميه في النقد الأدبي “وظيفة”***، وهي:
1- الأب مجبل. ويبدو لنا بصورة إنسان مشعوذ يسخر الخرافة للتحكم بمصائر أفراد عائلته وأتباعه. ولذلك هو إنسان متبوع بمصطلحات الدكتور خليل مثل أي إله أو معشوق أو حاكم مرعب.
2 – وابنتاه ليلى وسلوى، وهما تابعتان ومتبوعتان في وقت واحد، وكانتا فنيا جزءا من الشكل والمضمون. الأولى شهدت على الأحداث ونقلتها لنا بحذافيرها. والثانية غابت عن الأنظار وهربت مع أول عاشق وقعت بغرامه.
3- ثم أخيرا مدير أعماله شدري الذي يتزوج من ليلى بالإكراه، وجميل حارس بيته الذي يغري سلوى. وهذا يعني أنهما تابعان من جهتين، ومشروعهما لا يهتم بتحرير النموذج وأناه الأعلى ولكن إشباع الرغبة فقط.
وعموما يمكن قراءة علاقات التبعية السابقة بضوء التحليل النفسي كما يلي:
1- الأب وهو الإله المعبود، مصدر القوانين واللغة والمعايير.
2- ثم البنتان الطامحتان بمكانة أم عظيمة أو إلهة.
3- وفي النهاية الابنان الغادران والشريران واللذان يرتكبان جريمة نحر الأب. ولذلك يستحق أحدهما صفة الجاحد والخائن والسارق ص80، والثاني تشتعل به النار وهو نائم ص94. فهما وجهان لعملة واحدة يحركها الطمع والأنانية كما تقول ليلى في آخر سطر ص94.
وهناك نتيجة منطقية واحدة لهذا السيناريو. وهي تحويل دراما الصراع على المرأة والسلطة إلى نوع من المأساة أو إلى إعادة تركيب دراما العائلة كما يرويها لنا فرويد. وبكل بساطة تتبنى الرواية هذه الحبكة. ولذلك يمكن أن نقول إنها عمل يتألف من نماذج وأنماط وليس من وقائع مجردة. ويبدو لي أن محمد الأحمد، بتحويل مربعات فرويد إلى دوائر، أسس لرواية صراع أجيال وإنما بمفهوم جديد. فهي ليست عن تناحر الماضي مع الحاضر وليست عن أزمة الحداثة ودخولها بمواجهة مباشرة مع نفسها. وإنما عن سلوك أفراد لأنماط، واستجابة كل منهم لتداعيات المرحلة التي يعيش فيها. فالخائن جميل يجد صورة عنه في الأناني شدري. وليلى تجد معادلها الموضوعي في سلوى. وباستثناء الأب، الذي لا ثاني له، تتطور بقية الشخصيات بشكل ثنائيات. كل شخصية تتكون من وعي باطن، نصف مرئي ونصف مستتر. أو جزء حاضر وجزء بعيد عن الأنظار.
وهنا يلعب محمد الأحمد لعبته. إنه يضع كل شخصية ضمن إطار حقبتها الخاصة، بمعنى أن مضمونها لا يمكن تفسيره إلا من خلال مؤثرات مرحلته أو طوره الاجتماعي والنفسي.
ولنبدأ بالأب.
إنه أركيتايب لزعيم شرقي، ويختصر كل معاني الشخصية البطركية التي كانت موجودة قبل عام 1915. وكما ورد في مطلع الرواية: إنه يجتهد ليعرف نفسه. وهو مزيج من الواقع والخيال. ص15. وترسمه الرواية بشكل رجل يتهالك على الملذات وفي نفس الوقت يستمتع بالسيطرة. وركوب المرأة في غرفة النوم لا يدانيه شيء غير الجلوس على الكرسي وكأنه نسخة من عبد الجواد بطل ثلاثية نجيب محفوظ. رجل يفكر بامتلاك كل ما تطاله يداه. ولذلك كانت شخصيته اجتماعية وليست تاريخية. فهو حامل للمعنى وليس منتجا له. وبتعبير آخر إنه شخصية تعيد تسويق نماذج قبلها: أمثال جوزيف كاف بطل الأعمال الغامضة التي وضعها كافكا. بالإضافة لـ “كابيتان” بطل ميشال زيفاكو. وهذا يعني أن شخصية الأب هي مزيج معقد من حبكة المغامرات بما ينمو خلفها من دسائس وتآمر مع رؤيا تصوفية عن المشاكل الغامضة التي يعاني منها الإنسان المعاصر.
أما ليلى فقد كانت جزءا من المأساة. فهي لم تبذل جهدا في تبديل مسار الأحداث واكتفت بالمشاهدة. لقد كانت منفعلة وقليلا ما بادرت بالتصرف. لقد أحبت جميل واقترنت بشدري. وانتبهت للخطأ الذي ترتكبه أختها ولم تمنعها من التمادي. وقد كانت مثالا عن الشخصية السلبية والمستسلمة والتي لا تعرف شيئا عن الممانعة. وفي الحقيقة لم يكن في رأسها غير والدها الأوديبي أو مثالها الأعلى. فقد كانت تغار من خلوته مع شيخان أجمل زوجاته ص44. وتنظر لعلاقته معها كأنها أغنية عظيمة توقظ أعتى الأحاسيس المدفونة في أعماق المرأة، كما ورد بالحرف الواحد ص 48. وربما كانت تعتقد أن والدها يخونها مع زوجته كما خانها جميل باختيار سلوى. وهذا الخطأ الأوديبي المتكرر هو الوجه الثاني لعقدة أوديب ولمشكلة الجنس الفموي وما يتبعه من حرمان وعذاب. وبرأيي كان إحراق شدري في خاتمة الرواية، وهو في سريره، تعبيرا عن الانتقام من فكرة الرجولة على وجه الإطلاق، أو أنه خصاء متعمد لا يلتهم عضو الذكورة فقط ولكن كل ما ارتبط به.
و تبقى شخصية جميل. ويمكن أن تقول إنه أساس الحبكة. فهو الجوكر أو الشيطان في الرواية. فهو متمرس على الوشاية ص 71 وعلى الدسائس ص 72. ويمكنه أن يلعب ألاعيبه وهو موجود أو وهو غائب. ولقد تمكن محمد الأحمد من إعادة رسمه بنفس البراعة التي رسم بها هنري ميلر صورة بطل روايته المتألقة “شيطان في الجنة”. لقد كان يقضم على مهل أملاك مضيفه. وهذا هو المبدأ الأول لجميل، أن يقضم الأب في حياته وفي مماته.
غير أن بناء الشخصيات ليس هو بيضة الديك في هذه الرواية المحكمة والشفافة. فالمونولوج الذي تروي لنا به ليلى الأحداث كان متزنا. لا يحمل تناذر الحداثة. فهو مونولوج هادئ ومتسلسل وكأنه حوار مسموع أو مناجاة درامية بطريقة ليلى سليماني في رائعتها (أغنية هادئة).
وهنا لا بد من تعقيب.
لقد تكبدت عناصر الخيال الفني في الحداثة خسارة على مستوى الحوار وجعلت منه صوتا لفوضى الأفكار والمشاعر وهي تتجزأ وتتصارع داخل المساحة النفسية المسموح بها للفكرة. فالحداثة هي لغة الممكن وليس الواقع. وهذا بديهي لأنها تعادي الطبيعة. زد على ذلك أنها تماهي بين الشخصيات وذات الفكرة أو أنا السارد العليم. وأية رواية حديثة تتكون من لوحات مبعثرة لشخصية واحدة تكرر نفسها. ولنضرب مثالا على ذلك بأعمال رائد القصة التسترية جمعة اللامي. لقد كان يلعب لعبة الكلام الصامت أو ما نقول عنه لغة الأعماق. وهذه هي خلاصة الفعل الفني حينما يمزق رابطته مع مصادره. فهو لم يسهب في حجز مساحة منظورة لأبطال كل قصة وترك لهم حرية التجوال ضمن حدود تجربتهم الخاصة. وكذلك في “لعبة المغزل” للإريتيري حجي جابر. عملت وحدات البنية بالتوازي، وكان الواقع بمساواة المتخيل، والخيال عرضة للماضي والحاضر. واحتكر الزمن الحالي واقعه المنظور. وهذا ما تسبب بتحويل البنية إلى منصات فنية وليس لبؤرة هي منبع الأحداث والشخصيات. ومثله كان السوري حيدر حيدر يقدم شخصية واحدة تحت عدة أسماء. بمعنى أنه يجزئ ذات الفكرة في عدة صور وصيغ بلاغية للإعراب عن وجهة نظر واحدة لا يمكن أن تتغير. فجوقة شخصياته مثل وجوه اليابانيين. لا تجد أي فرق بينها.
لكن في (ليلى والحاج) ينفصل وجدان الشخصيات عن الذات، ويتحول إلى مادة. ويأخذ كل طرف ما يلزم من التفصيل والتحديد.. الملامح للنظر والتفكير للحدس والإحساس. لقد استكملت الرواية المنظور بالمحسوس. وتكهنت عن المعنى بالصور وليس بالتراكيب والصياغة. فهي ليست رواية إبلاغ ولكنها رواية مشاهدة وتعايش أو تكافل. ويمكن القول إن العمل كله جاء بشكل تأملات في أثر العقل الاجتماعي على الأحوال والظروف النفسية والسياسية أو بقليل من التجاوز في شؤون حضارتنا الجريحة ومن خلال حكاية أجيال في عائلة واحدة، أو من خلال دراما صراع الآباء والبنين كما فعل تورغنيف في عمله المشهور.
** منشورات دار الحداثة. بيروت. 1985.
***الشخصية الوظيفية هي التي تعبر عن نمط ثابت ومتكرر بغض النظر عن الاسم والعمر والحال. مثل عفريت المصباح وهكذا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق