‏إظهار الرسائل ذات التسميات قراءة تحليلية في عمل فني. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات قراءة تحليلية في عمل فني. إظهار كافة الرسائل

الأربعاء، 2 فبراير 2022

حسين بن زبير

 Déductions de Philippe Beck .

استنباطات لفليب بيك.



نشر هذا الديوان في شهر أبريل 2005. 

ونكون اوفر حظا إن نقرأه ببطء. نستنبط نبضالقصيدة ، جوهر فن كتابة الشعر. شعر فليب ليس سهلا

لا يكتب بوضوح متداول، لأنه يوضح تحت مظلة الشاعر الذي يزف بنا في محنة جميلة. ثم، كقراء لكتاباته، يجب امتلاك و استعارة أسلحة لغوية وفكرية وفلسفية وتاريخية من أجل ولوج دواوينه.

ديوان " استنباطات " Déductions يمارس تشييد طبقات لونية كثيفة، مرورا بكتابة صارمة إلى حد إحراج القار ئ. كتابة شعرية تسبح في طاولة تحبير ( محبرة )، وفي هذه المحبرة، رأس ما يكتشف أن المعنى، في ديوان بيك، يابس ليختفي في نفس الوقت، والكلام الشعري، كما لو أنه وعد، يتجلى في الهنا ولا في الهناك ليقوم في انفتاح شعري. انفتاح نزوف إلى ما نهاية. 

فليب بيك، يكتب في ديوانه الموسوم ب " قصائد ديداكتيكية ":

أن نستجمع شكيمتنا 

وتيقظنا، وعذوبتنا 

داخل رصاصة واحدة،

ذلك هو الهدف

في مرات غزيرة.

وإذا كان لا بد من مائة 

عام كي نتذرع 

بالرصاصة الشعرية الواحدة تلو الأخرى، 

فليكن كذالك.

لا بأس كل واحدة

كما باب الحياة من حديد.


ثم يكتب أيضا: ذاكرة تسير من نجمة صمت ما / ثم تأوب، / وتثير جدلا / في تلهف بصيغة هبة. / كذا في الحب.

صراحة، هذا الديوان ثلاجة فكر شعري بامتياز.


حسين زبير

السبت، 11 يناير 2020

المصطفى الصغوسي

قراءة في ومضة المبدع المغربي عبد اللطيف ديدوش # عرب، الفائزة بالمرتبة الأولى.
عقدوا القمة؛ رابطوا في السفح.
**********
قد تبدو الومضة جنساً أدبيا سهل التعاطي بسيط التناول، تكفيك بضع كلمات لتصنع ومضة، لكن واقع التجربة يؤكد أن الومضة في صيغتها النهائية ليست سوى ذلك الجزء الطافي من جبل الجليد الضخم. الومضة نتاج ميكانيزمات متعددة يتجاور فيها الذهني والنفسي، الثقافي والمعرفي، الفكري والايديولوجي، الشعوري اللحظي وتجربة الحياة. ذلك أنه عندما نضع أمام المبدعين موضوعا معينا أو صورة محددة، ونطلب منهم كتابة ومضة حولها، يتكشف لنا اختلاف ومضاتهم ومستوى جودتها، بل ونلمس بجلاء اختلاف المعاني التي عكستها ومضاتهم أو الجوانب التي تناولتها من الموضوع أو من الصورة.
كما أن تجاور المكونات تلك وانصهارها وفق كيمياء إبداعية خاصة هي ما يميز ومضة عن ومضة وإبداعا عن إبداع. فولادة الومضة تبدأ باختراق فكرة لمجال إدارك المبدع( والذي أسميه وامضا)، فتحدث له انفعالا معينا(تعاطفا، تقززا، رفضا، فرحا، حزنا...)، يستتبعه رد فعل طبيعي من ذات كاتبة تعبر باللفظة وتتفاعل بالكلمة، حيث تقوم بحصر المعنى والبحث له عن اللفظ المناسب من بين مفردات معجم اللغة ومن الرصيد اللغوي الشخصي الذي ي
تتباين كثافته طبعا من وامض لآخر، ليأتي بعد ذلك، تكييف المستوى اللفظي مع شروط الجنس الأدبي ومميزاته الفنية، ومع ما يتطلبه من مفارقة وتكثيف وإدهاش.
كل هذه المعطيات الإبداعية والتمازج المجالي كان حاضرا بلا ريب في وعي الوامض اللبيب عبد اللطيف ديدوش، وفي لا وعيه أيضا وهو يشتغل على ومضته.
وإذا كانت عملية صوغ الومضة معقدة، بالنظر إلى العوامل المذكورة أعلاه، فإن عملية قراءتها ونقدها هي بلا شك، أكثر تعقيدا، خصوصا وأن الومضة ، هذا الجنس الوليد، لا يمنحك مجالا نصيا أكبر( الاختزال الشديد)، ويأتيك بلا مقدمات وبعتباتٍ أقل.
ولتعويض هذا الغياب، لا بد لكل قراءة أو تحليل نقدي يروم الاشتغال على هذا الجنس، من استحضار سياقين فاعليْن:
السياق العام: ونقصد به سياق الومضة الخارجي الذي حفز خلقها وصوغها. 
السياق الداخلي: وهو تلك المؤثثات التي وضعها الوامض في المتن كي تحدث ذلك التواصل المفترض مع القارئ .
بالعودة إلى ومضة: عرب، فإن سياقها الخارجي تمثَّل في دعوة من مجموعة فن الومضة_ المغرب، في النسخة السابعة من مسابقتها في أدب الومضة، والتي جعلت منطلقا لاستمطار وميض المشاركات نصا قصصيا قصيرا جدا للقاص المغربي المصطفى الصغوسي، بعنوان: تلميع، والذي تناول تيمة راهن العرب وواقعهم بين التمسك بالماضي والتخلي عن الحاضر. وفي هذا الإطار يمكن القول: إن الوامض عبد اللطيف ديدوش قد أفلح بدرجة كبيرة في تلمس هذا الواقع، وفي التعبير الجميل عنه، وهذا يعكس مدى انخراطه كمبدع  كبير في راهن عصره ومجتمعه، ومدى امتلاكه لتلك الرؤية التي تسجل موقفا من قضايا المعيش .
على مستوى السياق الداخلي: يمكن الحديث عن جسور التواصل التي وضعها الوامض وضمَّنها ومضته كي توصل الرسالة إلى قارئها. وفي هذا المستوى نتناول:
١_ الجانب الفني والمعماري للومضة: حيث جاءت مكتملة البناء، منضبطة لشروط جنسها:   _قدمتْ عنوانا ممتدا يحيل على واقع أكثر مما يحيل على عرق.
_ مصراعيْن توحي نقطتهما الفاصلة بالانفصام لكن يعود الضمير (واو الجماعة) لينسج الصلة بينهما من جهة، ومع العنوان من جهة أخرى، في تواشج جميل يخدم المعنى العام للومضة.
٢_ الجانب اللغوي: تفلتاً من قيد الاختزال الشديد الذي يستدعيه جنس الومضة، عمل الوامض عبد اللطيف ديدوش إلى اللعب الذكي بمفردات قليلةٍ،  لكن كل واحدة منها تملك قدرة كبيرة على خلق دوائر معنى واسعة في ذهن القارئ، تماما مثل دوائر تنداح على صفحة بحيرة ألقينا فيها بحجر. وكلما كانت الدوائر أكثر وأكبر كان نجاح الومضة أكيدا.
إن هذا التوظيف الذكي للكلمات جعل منها أحجار صوى تهدي القارئ وتقوده بخيوط ناعمة نحو مروج المعنى.
الكلمة الأولى: عرب بالإضافة إلى نهوضها  بمهمة العنوان، عملت على توجيه انتباهنا نحو منطقة جغرافية تحوي شعوبا يظهر على السطح أن ما يوحدها أكثر مما يفرقها: دين ولغة وعرق ومصير وتاريخ...
الكلمة الثانية: عقدوا، فعل متعد يدل على تجاوز الذات الفاعلة للتأثير في آخر(في مفعول/القمة)، أي أنه فعل يدل على سيادةٍ وامتلاك زمام الأمور، مع واو جماعة تصبح الإرادة جماعيةً، ويصبح التعدد يداً واحدة.
الكلمة الثالثة: القمة، وجاءت بصيغة التعريف، وكأنها نار على علمِ عربٍ لا تخفى قممُهم، وكأن الوامض يذكرنا بذلك التشابه الذي يطبع كل تلك القمم التي عُقدتْ والتي أصبحت نسخا كاربونية يكاد لا يتغير فيها شيئ سوى التواريخ والأمكنة وبعض الوجوه .قمة معروفة قراراتها وتوصياتها قبل أن تنعقد. صيغة التعريف تحيل كذلك على تلك الضجة الإعلانية والصخب الإعلامي والتحركات الديبلوماسية التي تسبق العقد وتليه.. وكأن بالوامض اللبيب يريد إن يقول:" القمة وما أدراك مالقمة".
الكلمة الرابعة: رابطوا، معها مايزال المعنى الذي رسمته الكلمات  السابقة ينداح ايجابيا، رابط فعل عى وزن فاعَل، يدل على المشاركة في فعل الفعل، مثل فعل صافح الذي لا يتم إلا بوجود طرفين على الأقل يتشاركان فيه.فالمرابطة والرّباط فعل جماعي ينبثق من إرادة مشتركة. ومن حيث المعنى فرابَط: يدل على اليقين والتمسك بالموقف وبالحق، كما يحيل على الجهاد،  وعلى التخلي عما عداه حتى تحقيق الغاية.
الكلمة الخامسة: السفح، أعتبرها سر نجاح هذه الومضة، ليس لأنها المعادل الطبيعي المنتظر لكلمة القمة، ولكن لكونها تحدث لدينا تلك الرجة الجميلة التي يخلقها أدب الومضة: المفارقة والإدهاش، حين يتم تكسير المعنى الذي جهدت الكلمات السابقة في بنائه،  ومعه تكسير أفق الانتظار والتلقي. إن السفح هنا يتخلى عن دلالته الجغرافية ليصبح مجازا للقعر والحضيض والتدني. ونصبح أمام صورة من بنى قصرا وسكن في كوخ البستاني! أو صورة جبل يتمخض ليلد فأرا كسيحا.
خلاصة:
استطاع الوامض عبد اللطيف ديدوش أن يدير العناصر الفنية لومضته باقتدار ليوصل إلينا صورة عن واقع مجتمعنا العربي الراهن حيث يتجافى الواقع والشعارات، وحيث تحت صورة الوحدة تتصارع المواقف وتتناحر المصالح وحيث القمة دائما تفضي إلى السفح. لكن ومضة عرب حملتنا إلى قمة من قمم الإبداع الوامض.
هنيئا لك مبدعنا بهذا النص الجميل.وألف شكر وتقدير لمجموعة فن الومضة_ المغرب، على هذا المحفل الأدبي الراقي، والشكر طبعا موصول للأستاذ البهي أديب الفاسي على طيب الجهد ونبل القصد.
**********

المصطفى الصغوسي
 المغرب

الاثنين، 2 ديسمبر 2019

محمد خصيف

كاد الفن البدائي أن يكون حداثيا



كتب كلايف بل:" ينتج البدائيون الفن لأنهم لا بد أن ينتجوه، فالبدائيون ليس لديهم دافع آخر غير رغبتهم المشبوبة في التعبير عن إحساسهم بالشكل. إنهم عن زهد في خلق الإيهام أو عن عجز، يكرسون أنفسهم كليا لخلق الشكل. إلا أن الأمور قد تغيرت في الوقت الحاضر، وغدا الفنان مرتبطا براع ومرتبطا بجمهور، الأمر الذي عجل بنشوء حاجة إلى "المشابهة الأمنية الناطقة". (ص.83)، ويعقب مترجم الكتاب في آخر الصفحة 85 موضحا: "يجب أن يقر في ذهن القارئ أن كلمة "بدائي" حينما ترد في حديث كلايف بل والنقاد الشكليين هي كلمة تمجيد وتشريف، فقد بلغ تقديرهم للفن البدائي مبلغا جعل صفة "بدائي"، حتى للفن الحديث، تحمل معاني الأصالة الكبيرة والإبداعية العالية والنقاوة الفنية القصوى".


وهذه الميزات والخصائص التي عرفت بها الفنون البدائية، إفريقية وأسيوية وأمريكية/لاتينية كانت عمود الأساس لبناء صرح الفن الحديث، كلنا يذكر انبهار فناني الحداثة الأوروبية بفنون تلك المناطق البعيدة عن أوطانهم: فنسنت فان غوغ Van Gogh (1853-1890) وتأثره بالرسوم اليابانية، وبول غوغان Gauguin (1848-1903)، وبابلو بيكاسو Picasso (1881-1973)، وهنري ماتيس Matisse (1869-1954)، وما وصلت إليه إبداعاتهم من سمو جمالي وأصالة كبيرة إثر تأثرهم بالأقنعة الإفريقية والمنحوتات الطوطمية البدائية. ولولا الاحتكاكات هذه بإبداعات الحضارات المنسية، التي كان ينظر إليها على أنها حضارات "دونية"، تعيش خارج الدائرة، لأمسى أولئك الفنانون الطليعيون ضحية التيه في متاهات الباب المسدود، يعزفون على أوتار"المشابهة الأمنية الناطقة".


يجب الوقوف عند كلام كلايف بل وقفة قارئ متأمل، غير متعجل، لنتساءل ما إذا كان الإبداع الفطري العصامي، أو ما اتفق على تسميته جورا، بالفن الساذج هو من باب الفنون البدائية التي نعتها الشكلانيون تمجيدا، بالفنون ذات "الأصالة الكبيرة والإبداعية العالية والنقاوة الفنية القصوى"؟ لا شك أن الواقع يثبت ذلك. وحتى أكون أكثر وضوحا، أطرح للمقارنة أعمالا "فطرية" إلى جانب أعمال تجريدية حداثية، (وكلامي يقتصر على الفنون بالمغرب). فالأولى أصيلة، يصعب على متلقيها، ناقدا كان أم متذوقا، أن يجد مثيلا أو مشابها لها، امتتحت منه أشكالها ومضامينها، بينما أعمال التجريديين تتناسخ لتشكل نوعا من السيمولاكر Simulacre الفاقد لكل أصالة. فأعمال الفن "البدائي"تذكر متلقيها حين يقف أمامها بذاتها فقط ولاتحيله، لابصريا ولاجماليا على غيرها. فمرجعية الفنان البدائي هي مشاعره وعواطف اتجاه الإنسان والمجتمع والطبيعة. فإذا أخذنا فناني الاتجاه البدائي بالمغرب، نجدهم انطلقوا في ممارستهم الفنية، من بعد اكتشافهم للوحات مشغليهم الأوروبيين، لكنهم حينما حملوا الفرشاة والأصباغ نسوا اكتشافهم وحاولوا رسم ذواتهم، بعيدا عن أي تأثير. كان بوسعهم أن يقلدوا رسوم مشغليهم، أو يطلبوا من هؤلاء تدريبهم على الرسم الواقعي حتى يصبحوا مثلهم، يتقنون تخليط الألوان ورسم الطبيعة والمنظور والنسب وما إلى ذلك، لكنهم وجدوا أساليبهم وتقنياتهم كافية للتعبير عما يخالجهم ويعتري ذواتهم. كان ممكنا أيضا أن يتفضل مشغلوهم بتلقينهم أولويات الرسم والصباغة، لكنهم عزفوا عن ذلك وأمدوهم بما هو أفضل إذ عملوا على تشجيعهم بتنظيم معارض لأعمالهم داخل الوطن وخارجه. ولو لم يظهر لهم شيئ أصيل يستحق التشجيع، ما أقدموا على ما فعلوه. إن سلوكهم هذا جاء منافيا لسلوك الفنانين الشباب الذين عاصروهم، فناني الحداثة الفنية. كان الفن البدائي أقصر جدار قفزوا عليه لبناء مشروعهم الحداثي، إذ لم يكن هناك غيره. فمن خصائص التشكيل المغربي، وهذه أعتبرها، شخصيا مزية، أن رواده كانوا فنانين بدائيين، تأسست بهم مدرسة أثرت في أجيال ومازالت إلى اليوم، عكس ما حصل في باقي الدول العربية التي تكون روادها بالمدارس الأوروبية أو تلقوا تكوينهم على يد فنانين أوروبيون، فكان فنهم نسخا لاتتجاوز عتبة تكوينهم. "إن الرسامين الأوائل المغاربة لم يأخذوا دروسهم في مدارس الرسم التي لم يستطيعوا حتى حدود السنوات الخمسين الالتحاق بها، ولكنهم أخذوها فيما هو أكثر فائدة، وهو ما يمكن أن نسميه روح العصر(...) إن إرادة القطيعة والميل إلى التعبير الذاتي عند الرسامين المغاربة، مصدرهما هو القلق الناتج عن توجه نحو الأحلام والخرافات والألوان والعلامات والرموز، تلك التي يزخر بها عالم جواني مرتبط بتاريخهم نفسه، إن حالات اليعقوبي والإدريسي وأحرضان دليل على ذلك" (طوني ماريني، مقال مترجم).

ربما أن الفن البدائي هو الأسلوب الوحيد الذي كان له رواد وأتباع. 

إن أعمال الفن (العالم) لها حمولة مرجعية، تجعل المتلقي يربط ذهنيا أو بصريا أشكالها وألوانها بأشياء أخرى سبق له أن رآها، مما يفقدها بعضا من هالتها. فكثير من الأعمال التصويرية تتناص بوضوح مع تيارات ومدارس غربية، واقعية، انطباعية، سريالية...وكذلك حال الأعمال التجريدية، فهي إما هندسية ذات مساحات مسطحة من الألوان الأساسية، أو تكوينات ذات أشكال متحررة لاتبتعد عن التجريد الغنائي، أو تنبثق أشكالها عن حركية شديدة وعنيفة، توظف الكف والذراع، وتمتح روحها من عوالم سولاج وفرانز كلاينأو بعض فناني الاتجاه الحروفي. 

إنه من الصعب مثلا، مقارنة المخيال الذي يميز لوحات مولاي أحمد الإدريسي، أو حقول أحمد الورديغي الملونة، أو التعبيرية الشكل/لونية التي تميز لوحات الشعيبية، أو نوادر Anecdotes محمد بن علال، أو أعراس فاطمة حسن، والتكوينات الشكلية الخاملة التي عرفت بها بعض الأعمال التجريدية.فالفنان "البدائي" المحسوب على الفكر "الساذج"كما وصفه من لم يألفوا حضوره كمبدع كان أشد أصالة من الفنان "العالم" المتأثر بالشرق والغرب.

إن الفنان البدائي المغربي-هكذا أسميه تأسيا بالنقاد الشكلانيين -في ظني يعد رائد الحداثة الفنية قبل غيره. فبطريقته العفوية وبفطرته وبفكره المحدود وثقافته الشعبية الكتاتيبية، استطاع لا شعوريا، أن يثور على ما كان سائدا من ممارسات تشكيلية نخبوية كولونيالية، مواضيعها فلكلورية، تكرر أساليب تصويرية لا تحمل أية جمالية باستثناء الصنعة والمهارة التقنية، أصحابها من "أهل الصنعة"، من فئة "الأساتذة الصغار الذين كان بوسعهم أن يكونوا فنانين لو لم يستغرق التصوير كل طاقاتهم، فكانوا (...) لا يفتؤون ينسجون أحاجي تكنيكية ويجدون في حلها".

مع الأسف أن نسج الأحاجي التكنيكية والجد في حلها يبقى العملة الرائجة حتى وقتنا الراهن.

 إن الفنان البدائي حقق الثورة بدون شعور ولا تفكير عقلاني ولا بيانات حجاجية مشاكسة، ترفع من شأن هذا ولو كان دونيا وتحط من شأن ذاك حتى ولو كان مستحقا. لقد كانت ثورة الفنان البدائي ثورة عفوية حاك خيوطها بفنه، بأحاسيسه وليس بعقله، بأشكاله الدالة الفريدة. حقا أن غيره من معاصريه توفرت لديهم أشكال دالة لكنها لم تكن أبدا فريدة، لأن عوالمها عقلانية Rationnelle، تغيبت كل إحساس Sensibilité وجداني مرهف. فسلوكها العقلاني هو ما تركها تتشابه فيما بينها، وتتناسخ من شخص لآخر، ولا تغدو تلامس "المشابهة الأمنية الناطقة". فحينما نزور معرضا جماعيا، نكتشف حضور العقل مع غياب الحساسية، فتبدو اللوحات وكأنها من إنجاز شخص واحد، وأن المعرض فرديا وليس جماعيا: نفس الألوان، نفس الأشكال، نفس التموجات، نفس المواضيع ذات الصبغة الجنسانية، المتسترة بذكاء ومداهنة وراء الشكل، نفس الأسلوب التجريدي...


إن اللا تماثل الصوري والعفوية والتلقائية و "لا ثقافية" الفن إن جاز التعبير، ما دفع النقاد والمؤرخين الأوروبيين إلى اعتبار "الفن البدائي" أنه الفن المغربي الأصيل، وأن غيره يبقى تقليدا لما يجري في الغرب، بل لما تجاوزه الغرب آنئذ. فالفنان المثقف، غير البدائي يقف على أرضية تكتونية انزاحت من مكمنها الجغرافي وولجت الماضي والتاريخ، بينما الفنان البدائي كان يبدع وهو في حالة شعورية تجعله يعيش ماضيه في حاضره. حاضره هو، وماضيه هو وليس لغيره. لقد ثار الفنان "العالم" على الفكرة التي روجها النقاد الغربيون فلم يرض أن يكون الفن المغربي "ساذجا"ّ !، بل رفض حتى المشاركة في معرض يوجد به "فنانون سذج"!

سلوك لم يلتزم به جلهم فيما بعد...بعدما تهافت رجال المال والأعمال على لوحات "الفن الفطري".

الهوامش:

كلايف بل، الفن – ترجمة د. عادل مصطفى، رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة 2013.

طوني ماريني، نشأة الفن المغربي المعاصر-http://machahid24.com/etudes/75107.html

محمد خصيف

وطْءٌ على عتبات "مدرسة أثينا" ج.1



"ما تعنيه الصورة لا ينحصر بأي حال من الأحوال فيما تعرضه للإبصار".
"اللوحة عبارة عن فضاء دال يمكن وصفه وفقًا للأشكال التي تمثله". جان لويس شيفر Jean Louis Schefer
"يتحدث العمل المرسوم فقط حين نعرف كيف نسائله... كل هذا يتوقف على "معرفة" العوارض والأنساق المرجعية الخاصة به".

من المألوف أن التساؤلات التي تطرح في معظم الخطابات النقدية المتصورة حول الفن، تدور حول وصف الأعمال الفنية، حيث يتلخص الطرح في إيجاد بدايات لبنية محددة فيما توحي به الصورة المرسومة. فالصورة الكلاسيكية تتوافق مع القراءة التقليدية (إيقونوغرافية/إيقونولوجية)، التي أصبحت غير قابلة للتطبيق بشكل عام في سجل فنون القرن العشرين، خصوصا مع بروز التيارات اللاشكلية. 
ونحن أمام اللوحة/الجدارية "مدرسة أتينا"، تواجهنا "عتبات" عدة، متنوعة ومختلفة، تساعدنا على ولوج عالمها ـ عالم الفن ـ لأنه عكس ما يظن المتذوقون للفنون الكلاسيكية خاصة، من الصعب جدا فهم واستيعاب الخطابات التي تحملها الأعمال التصويرية الكلاسيكية، وما تخفية وراء ستارة الظاهر من الألوان والأشكال والتكوينات الفنية، دون إحالة الأعمال على مرجعيتها الفنية/الجمالية ودون وضعها في سياقاتها التاريخية، الفكرية والفلسفية والدينية/اللاهوتية...لقد تناولت العديد من الاتجاهات النقدية الحديثة دراسة الأعمال الفنية من وجهات مختلفة وبمناهج متنوعة، بعضها فَصَل بين الشكل والتمثيل، أي الموضوع أو المضمون الذي يتناوله العمل الفني. فجاء في كتاب "الفن" لكلايف بل (1881ـ1964) أن "العنصر الذي يميز العمل كفن ليس التمثيل بل الصورة الدالة أو الشكل الدال، أي نمط حبك الألوان والخطوط مع بعضها البعض". فالمقاربة الشكلانية هاته تعتمد شيئا من المحايثة، حيث تسعى إلى فرز النص وعزله وتخليصه من السياقات المحيطة به. 
الحقيقة أن المؤسس الفعلي للنظرية الشكلانية في الفن هو مؤرخ الفن السويسري هنريش وولفلين Heinrich Wolfflin (1864ـ1945)، الذي بنى نظريته النقدية انطلاقا من مقارنة الفنين الكلاسيكي والباروكي. فلم يعر اهتماما بالمضامين (الموضوعات والدوافع وغيرها)، بقدر ما ركز على الطرائق والأشكال والإمكانات البصرية. فبالنسبة إليه يعد تاريخُ الفن تاريخَ الأشكال.
في عام 1915، نشر مؤرخ الفن هاينريش وولفلين (1864-1945) المبادئ الأساسية لتاريخ الفن، والتي شرح فيها الاختلافات في الأسلوب بين الفن الباروكي وفن عصر النهضة، وذلك باستخدام خمس فئات أساسية ينبني عليها تكوين العمل الفني: 
• التصويري على الخطي
• العمق على تصفيف السطوح 
• الشكل المنفتح على الشكل المنغلق 
• التعدد على الوحدة
• الغامق على الواضح.

كان لهذه الدراسة الشكلانية تأثير كبير على النقد الأدبي، فحاول النقاد والمنظرون تكييف المصطلحات البصرية التي استخلصها وولفلين من تأويله لفن الباروك، كأسلوب يتميز بالحركة واللاتماثل والتنافر، وجعلها توائم السياقات الأدبية نثرا ونظما. 
سيكون الباروك وفقًا لـ Wolfflin أقوى، لأنه يُخفي قدر ما يُظهِر، مما يؤدي إلى إثارة مشاعر المشاهد بينما يسعى الكلاسيكي إلى مزيد من الذكاء من خلال توفير إمكانية قراءة مثالية. ومن تم نجح ولفلين في تحديد وحدتين أسلوبيتين في تاريخ الفن من خلال العمل فقط على النماذج، دون اللجوء إلى المعرفة خارج الأعمال، المعارف التي عادة ما تؤدي إلى تأويلات متشعبة وتبعد عن مقاصد مؤلف العمل الفني.  فكان ما توصل إليه السيميائيون في وقت لاحق من تصورات لتجديد قراءة الفن، تتويجا لأعمال وولفلين النقدية. ومع الشكلانيين و السيميائيين، سوف يُعترف بالحقائق التالية: إذا كانت الصورة مقروءة، فذلك يدل على أنها تشكل مجموعة من العلامات؛ وأن هذه المجموعة لا تأخذ بدورها معناها إلا لكونها  تشكل كلاً منظمًا وترتبطا بالتجربة المعاشة.
وليتحقق التمييز بين الإنشاء الإيقوني للصورة وتمفصلاتها المنطقية، العملية التي غفل عنها معظم المؤلفين الإيقونوغرافيين، سيكون من الضروري انتظار ظهور الباحث إرفين بانوفسكي Erwin Panofsky (1892ـ1968) لوضع أسس الأيقونوغرافيا الحديثة: ف"ما تعنيه الصورة لا ينحصر بأي حال من الأحوال في ما تعرضه للإبصار".
عكس ما توصل إليه الاتجاه الشكلاني، نجد المؤرخ والناقد Erwin Panofsky  يتناول في كتابه L’œuvre d’art et ses significations "الفرع من تاريخ الفن الذي يرتبط بموضوع أو دلالة الأعمال الفنية في تعالقها بأشكالها". ويوضح أن عملية التأويل إيقونيا، تتأسس بناء على ثلاثة مستويات:
1. مستوى الدلالة الأساسية أو الطبيعية ، ويقصد به  "الوصف ما قبل إيقوني" Description pré-iconographique، الحامل لمعنيين، واقعي حسي، وتعبيري مخفي، يمكن الكشف عنهما عبر  تحديد الأسلوب ومكوناته الشكلية المعَيَنة من الخطوط والألوان، والعناصر الشيئية المؤثثة للفضاء، والكتل البرونزية أو الحجرية أو غيرها من الخامات المعتمدة للتشكيل النحتي ولتمثيل الأشياء الطبيعية، يضاف إلى كل ذلك المعالم المعمارية وما يرتبط بها من مفاهيم وتصورات وتخطيطات وإنجازات فضائية ... و"يمكن وصف عالم الأشكال الصرفة التي ندرك أنها مشحونة بالمعاني الأساسية أو الطبيعية بعالم الدوافع أو البواعث الفنية، التي يشكل تعدادها وصفاً ما قبل إيقونيا للعمل الفني".
2. مستوى الدلالة الثانوية أو التوافقية: حيث تتم دراسة موضوع العمل الفني باعتماد التحليل الإيقوني الصرف، عبر تعالق التراكيب والمفاهيم بالاستناد إلى مرجعيات مصاحبة، ومن تم يمكن اعتبار الدوافع المعترف بها، الحاملة لمعنى ثانويًا أو توافقيا، أنها صور Images، والبعض يسميها قصصا ورموزا  Histoires et allégories. فتحديد الصور المماثلة أو الرموز هو بالضبط مجال اشتغال الإيقونوغرافيا، و"من الواضح أن التحليل الإيقوني، بالمعنى الدقيق للكلمة، يفترض تحديدًا صحيحًا للحوافز الموضوعية".
3. مستوى الدلالة الضمنية: هو مستوى يتوافق مع التحليل الإيقونولوجي، أي الدلالة الداخلية للعمل بتموضعها داخل المضمون. "يستوعبها المرء من خلال إدراكه لهذه المبادئ الأساسية التي تكشف عن العقلية الأساسية لأمة ما، أو فترة، أو طبقة، أو اتفاقية دينية أو فلسفية -تم تحديدها بغير وعي من قبل شخصية الفنان الذي يفترض ذلك -والمكثفة في عمل فني فريد من نوعه".
تسمح مستويات التحليل الثلاثة هذه بإجراء تحليل شامل للعمل الفني. على الرغم من أنها تبدو مستقلة عن بعضها البعض، فهي في الواقع مرتبطة ولا يمكنها أن تُجَزَّأ. وتشكل الضرورة الملحة لإنجاح تحليل موضوعي ومتكامل وشمولي للمنجز الفني، إذ أنها تساعد على فك شفرة عتبات النص التشكيلي، و"الوقوف على دلالاتها والعلاقة الجامعة بينها، والعلاقة بينها وبين المتن".
ونحن أمام لوحة "مدرسة أثينا" L’Ecole d’Athène، للفنان الإيطالي رفائيلو سانويو Raffaello Sansio (1483ـ1520)، يمكننا أن نقف على ثلاث عتبات رئيسية تساعدنا على النفاذ إلى عوالم اللوحة المتنوعة والمحيلة إلى منظومات فكرية مختلفة، فلسفة وعلوم وأدب وغيرها. عتبات زمانية تتناول السياقين التاريخي والفني/الجمالي، وعتبات مكانية: تحدد مكان تواجد اللوحة، وعتبات ذات مرجعية ثقافية، فلسفية وأدبية ودينية. 
وقبل التطرق إلى العتبات الثلاث قراءة وتحليلا، نعطي نبذة عن حياة الفنان رفائيل، مما يساعد على وضع العمل الفني في سياقه العام، الفني/الجمالي والفكري.

من هو رفائيلو سانزيو؟
رفائيلو سانزيو   Raffaello Sanzio ( 1483 -  1520)، يعد من أبرز فناني عصر النهضة الإيطالية Cenquecento، إلى جانب كل من مايكال أنجلو (1475ـ1564)، وليوناردو دافنشي ( 1452ـ1519).  
فقد والديه وهو في سن طفولة متقدمة. ولما بلغ سن السابعة عشر، ألحق بمرسم الرسام «بيروجينو"، عندما رأى هذا الأخير رسومات رفائيل، قال: "دعوه لكي يكون تلميذي، لأنه سوف يصبح في القريب العاجل أستاذي". وبالفعل، ذلك ما تحقق، حيث تجاوز التلميذ بعبقريته، حرفية الأستاذ. 
عندما وصله خبر شهرة ليوناردو دافنشي وما أنجزه من أعمال بمدينة فلورانسا، شد الرحال إليها متمنيا تحقيق أحلامه بزيارتها ولقاء ليوناردو هناك. تأثر كثيرا بلوحة الموناليزا، حيث انعكس طيف وجهها على عدد من البورتريهات التي أنجزها خلال إقامته بفلورانسا، كما تأثرت تكويناته وطريقة ترتيب المجموعات التشكيلية داخل فضاء اللوحة، بتكوينات الرسام "ماساشيو". 
كان كل من البابا يوليوس الثاني وخليفته البابا ليون العاشر، معجبين بفن رفائيل، فوجها له الدعوة للالتحاق بروما، كي يساهم في إنجاز ديكورات الفاتيكان. كان عمره لا يتجاوز خمس وعشرين سنة حينما قام بتزيين جدران أربع صالات في الفاتيكان بلوحات رائعة. تتناول مواضيعها قصص دينية وأساطير من الميثولوجيا الإغريقية والرومانية، وموضوعات فلسفية وقانونية، وتصوير معاني جاءت من أقوال الشعراء والحكماء. وكان من أشهر ما أنجزه خلال تلك الفترة، اللوحة المعروفة باسم "مدرسة أثينا". كما أشرف شخصيا على تنفيذ بقية أعمال التزيين، والتي قام بها مجموعة من تلامذته. بالإضافة إلى تنفيذ مجموعة من الصور على الورق المقوى، تم عن طريقها إنجاز المنسوجات الخاصة بالكنيسة (السكستية (نسبة إلى البابا سكست الرابع.


في الجزء القادم، سنتناول العنوان كأول عتبة نصية، عادة ما تلازم الأعمال الفنية، لا تفارقها. اختلفت آراء المؤرخين والنقاد حول تواجد العنوان (النصي) إلى جانب المتن (التشكيلي)، فمنهم المؤيد لحضوره، ومنهم من يجده عنصرا مشوشا، لا فائدة من تواجده! إلا أن العنوان هنا "مدرسة أثينا" La scuola di Atene (كما تسمى في اللغة الإيطالية)، يرفع من قيمة المنجز الفني ويبعده عن محطات الوصف العادية والمبتذلة، ليعمق القراءة التأويلية للصور الحاضرة على فضاء اللوحة، إن تشكيليا أو ثقافيا.