‏إظهار الرسائل ذات التسميات مقال فني. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات مقال فني. إظهار كافة الرسائل

الجمعة، 3 يناير 2020

محمد خصيف

حديث عن الجوهر في الفن والجمال

"ليست هناك حقائق، هناك تأويلات"
فريدريش نتشه

إن الأعمال الفنية البصرية تثيرا انفعالا خاصا مشتركا بينها، فنحن نبدي نفس المشاعر أمام لوحة أو منحوتة أو معمار أو عمل فني من أعمال الحفر. وهذا الانفعال يسمى "الانفعال الإستطيقي" Emotion esthétique. انطلاقا من هنا أتساءل كيف كان انفعال صديقي الطبيب، الذي رفض رفضا باتا فتح أي حوار حول الفن التجريدي، بدعوى، حسب اعتقاده، أن هذا النوع من التعبير الجمالي لا يصل أبدا إلى مستوى الفن التصويري L’art figuratif، كيف كان انفعاله وهو يؤثث عيادته ويرتب أشياءها ويختار ألوانها ويصفف أحجامها؟ ألم يكن لديه، سابقا إحساس أو انفعال إستطيقي، مبني على تصورات غير عيانية، دفعه إلى التعبير عن اختياراته؟
إن رفض الطبيب الأعمال التجريدية وتغاضيه النظر إليها وتفاديه الحديث حولها ساهم في عملية الخنق التي تعرضت إليها مشاعره اتجاه أي حساسية جمالية سبق وأن تكونت لديه. فهو يكبح جماحها ولا يسمح لها بالتظاهر والتعبير عن ذاتها، ولا يترك لوعييه المجال كي يتفتق فيكشف عن الحس المرهف، الضامر الكامن في أعماقه. ربما أن أحاسيسه أضحت مكبوتة بسبب الاستعمال الدائم للعقل.
فصديقي الطبيب يعد من ذوي الفطنة والفكر اللبيب والذكاء الحصيف الحاملين، رغم ذلك، لحساسية قليلة، تجعل ذائقتهم مغتربة وسط محيطها. "إن هذا الاغتراب الذي يعاني منه الوعي المعاصر نتيجة طبيعية لهيمنة اسمية العلم الحديث وتغلغل المنهج العلمي في نظرتنا للعالم". الحقيقة أن التجربة الجمالية التي يعيشها صديقي الطبيب تشكل لديه نوعا من الاستلاب.
من خلال الحديث الذي جرى بيننا، استنتجت أنه لم يتوصل بعد، رغم تكوينه العلمي، ودرجة دكتوراه الاختصاص الطبي التي تُوِّج بها تكوينه، ومُقامه الطويل بأوروبا، لم يتوصل بعد إلى إدراك الصفة الجوهرية التي تساعده على تمييز الأعمال الفنية من الأشياء العادية. وهذه ظاهرة يتقاسمها الكثير من كبار المثقفين عامة. كلنا نصف الأشياء التي تعرض علينا بأنها تنتمي إلى "عالم الفن"، فنضع تصورا لتصنيف ذهني يمكننا من تمييز الأعمال الفنية عن باقي الأشياء الأخرى، لكن حقيقتنا تبين أننا لم نتوصل إلى استنباط الصفة الجوهرية التي يحملها العمل الفني، والتي تتقاسم وجودها مع صفات أخرى. ربما قد يثار التساؤل حول ماهية هذه الصفة الجوهرية التي يتأسس عليها جوهر العمل الفني. وحتى لا نذهب بعيدا، نلتمس الجواب عند (هايدجر): " الأصل يعني هنا من أين وبماذا يكون هذا الشيء وما هو وكيف هو. هذا الذي يكون عليه الشيء وكيف هو، نسميه جوهر". 
هل يجوز اعتبار العمل الفني شيئا؟ مرة أخرى، يمدنا (هايدغر) بجواب قد نجده مقنعا نوعا ما: " عندما ننظر إلى الأعمال الفنية كما هي في حقيقتها الأصلية ولا نحاول مخادعة أنفسنا، يتضح لنا عندئذ أن الأعمال الفنية موجودة بشكل طبيعي كما توجد الأشياء العادية(...) لكل الأعمال الفنية هذا المظهر الشيئي". 
إن "مخادعة أنفسنا" بعدم إدراكنا ل"لحقيقة الأصلية"، أي الصفة الجوهرية للعمل الفني تدفعنا للاعتقاد أن أي تركيب تشكيلي يعتبر فنا، سواء كان رسما أو لوحة أو نحتا...
إن للعمل الفني "صفة مفردة ومحددة لا يمكن أن يوجد بدونها (...)، وإذا حاز عليها أي عمل فستكون له بعض القيمة على أقل تقدير". ولن تكون الصفة الجوهرية المميزة مشتركة مثلا، بين لوحة فنية لكلود موني أو بيكاسو أو دالي هي نفسها التي تحملها لوحة أنجزها طالب بمعاهد التكوين الفني، أو رسام فاقد للحذق والمهارة، يظن نفسه فنانا. لا شك أن كلامي هذا سيثير فضول القارئ ويستحثه ليتعرف على هذه الصفة التي نحن بصدد الحديث عنها. فالجميع يبتغي معرفة الصفة المشتركة بين الأعمال الفنية والتي بموجبها تثار لدينا انفعالات إستطيقية. لقد وضح هذه المسألة الإشكالية الناقد الإنجليزي (بل كلايف) من خلال نظريته النقدية المبنية على ما أسماه (الشكل الدال) la forme signifiante. 
إن الشكل الدال المشترك بين اللوحة والمنحوتة والمنمنمة والمسجد والكنيسة والأواني الخزفية والسجاد والجداريات وروائع الفن الكلاسيكي والانطباعي والتجريدي...يتأسس على "خطوط وألوان تتضام بطريقة معينة، بحيث أنها تثير انفعالات إستطيقية". والشكل الدال هذا هو ما أطلق عليه الباحث الجمالي ألكسندر ببادوبولو (عالم الفن المستقل) Le monde autonome de l’art، في قراءته وتحليله لجمالية الفن الإسلامي.
انطلاقا مما جاء في العبارة الأخيرة، يثار تساؤل أَعُدُّه جوهريا، حول الصفة المشتركة أو الشكل الدال ومدى قيمتها، وكيف لها أن تجعلنا نميز بين عمل فني مُكرَّس جماليا ومعترف به تاريخيا كأثر فني من التراث الإنساني، وآخر يحمل أشكالا دالة لكنها ناسخة لتيارات ومدارس فنية معينة؟ أعمال عوض تميزها بشكل دال فهي تحمل "علاقات دالة للشكل" فقط. فهي منجزات تثير إعجابنا دون أن نعدها أعمالا فنية. "إنها تروقنا وتطرفنا وقد تحركنا بمئة طريقة متنوعة، عدا أن تحركنا إستطيقيا...فهي لا تمس انفعالاتنا الإستطيقية. ذلك لأن ما ينالنا منها ليس الشكل بل الأفكار التي يقترحها الشكل أو المعلومات التي ينقلها".
كم منتوج يظنه الكثيرون عملا فنيا، لكن حقيقته تجعله يفتقر إلى أن نصنفه كذلك. فشكله "لا يستخدم كموضوع للانفعال، بل وسيلة لاقتراح انفعالات والايعاز بعواطف، وهذا يكفي وحده لجعله تافها".
يذهب الناقد بل كلايف بعيدا، ربما إلى درجة المبالغة والإفراط حينما يساوي بين التصوير الوصفي(...) وأعمال فناني المستقبلية الإيطالية Le futurisme italien، الذين في نظره، شأنهم شأن الفنانين الأكاديميين، "يستخدمون الشكل لا ليبثوا انفعالات إستطيقية، بل ليوصلوا معلومات وأفكارا". والحق أن بعضا من أعمال فناني المستقبلية الإيطالية، كأعمال فئة من فناني الاتجاهات الحديثة تفقد شكلها الدال وبالتالي تجدها لا ترقى إلى مستوى الأعمال التي تثير في المتلقي انفعالات جمالية، فتحيطها بهالة من الانبهار قد يصل إلى درجة الصدمة. فهم "لا يقصدون من الشكل أن يعزز الانفعال الإستطيقي بل أن يوصل معلومات"، أي يكون تمثيليا Représentatif، لجانب من جوانب الحياة العامة. "إن التمثيل ليس موبقا بالضرورة، وليس هناك ما يمنع أن تكون بعض الأشكال البالغة الواقعية هي أشكال بالغة الدلالة. إلا أنه في أغلب الأحوال يكون التمثيل علامة ضعف في الفنان. فمن دَأْبِ الفنان الذي لا يقوى على خلق أشكال قادرة على إثارة انفعال إستطيقي كبير أن يتحايل على ضآلة ما يثيره باللجوء إلى انفعالات الحياة. وهو لكي يثير انفعالات الحياة فلا بد له أن يستخدم التمثيل". إن انفعالات الحياة هي ما غمر قلب صديقي الطبيب وأحاط بصره بغشاوة العيني حتى وجد اللوحة التجريدية عسيرة الفهم، وهدفها قَصِي المرمى.
 ترى أين يكمن التجريد وعسر الفهم، في العلوم البحتة الدقيقة، التي هو من أهلها، كالطب والرياضيات والكيمياء، أم في تجريد اللوحة ذات الأشكال والألوان "المتضامة وفقا لقوانين ضرورية بعضها واضح وآخر مضمر، كفن بحت له دلالته الهائلة الخاصة به ولا علاقة له من قريب أو بعيد بدلالة الحياة"؟


هوامش:
- مارتن هايدغر، أصل العمل الفني – ترجمة د. أبو العيد دودو، منشورات الاختلاف، الجزائر، ط.1، 2001.
- هشام معافة، التأويلية والفن عند هانس جيورج غادامير، منشورات الاختلاف، الجزائر، ط.1 2010.
كلايف بل، الفن، ترجمة عادل مصطفى، رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة، ط.1، 2013.

الأحد، 8 ديسمبر 2019

محمد خصيف

شهادة اختطاف


 ياللمفاجأة.
هذه لوحتي! عشيقتي!
نزعت مني نزعا. اختطفت مني قسرا. افتقدتها منذ أزيد من عشرين سنة ولم تترك لي حتى فرصة استنشاق زيت حلتها الكتاني ولا أمتع بصري بألوانها البهية. إحساس انتابني فجأة، وغمرني كشعور خشن سرى يدغدغ أطرافي، حينما رأيت لوحتي القرنفلية معلقة تستنشق غبار الدكان النتئ، اقتربت منها لأتاكد من هويتها، وإذا هي فعلا تحمل بطاقة تربط نسبها بنسبي، وتلميعها يعكس صورتي. اكتشفت أن كتانها يلف ذاتي، وآثار أناملي مازالت حاضرة تتراقص على صفحتها البنية. التفتتُ نحو صاحب الدكان وسألته:
-كم ثمن هذه اللوحة؟
-إنها، قديمة، لفنان مات منذ زمان.
-أريد شراءها. كم تبيعها؟
وقبل أن يصلني رده، ترامت إلى مسامعي خشخشة تنم عن حركة، فالتفت وإذا بي أرى لوحتي تنفض غبارها وتحدق في بعينين مغرورتين، اختلط دمعهما بلون الصباغة القرنفلية، وفاحت منهما رائحة ال vernis .خاطبتني بنبرة قوية:
-لست للبيع.
-إنك عشيقتي. ألاتتذكرينني؟ فقدتك من زمان، وطال بحثي عنك. لم أعثر لك على أثر. ضعت مني، ولم أدر كيف. إني مازلت أحبك. أحبك.
-إنك تعرف كيف أضعتني.
-تركتك في أمان. في قاعة نادرة قل نظيرها، يرعاك شخص مومن، أمنته عليك أنت وأختك زريقة.
-ذاك الذي أمنته علينا، كان  إنسانا طيبا، سهر على رعاياتنا، لكنه خُدع. وقع ضحية مكر وخداع من شخص يدعى الجرائدي، ضياء الدين الجرائدي. إنك تعرفه.
-ماذا حصل؟ احك لي. 
-ذات مساء كنا متحلقتين حول مؤتمننا يحكي لنا نوادره وطرائفه حول الفن والفنانين، فولج علينا  الجرائدي ليخبر مؤتمننا الذي أمنته علينا أنك كلفته ببيعي أنا وأختي.
-كذب! أنا لم أكلف أحد!
-وثق منه صاحب القاعة بعدما فك خيوط الشك والريبة التي باتت تحاك حول رأسه، فسلمنا إليه.
-وبعد؟
-أخذنا ضياء الدين وطاف بنا على مجموعة من معارفه، لكن لاأحد منهم اشترانا. كان يطلب ثمنا عاليا. تركنا في بيته لمدة، وكلما زاره أحد السكارى المعروفين لديه، تجده يقدمنا إليه. لكن حيله لم تنفع وبقينا مصلوبتين بصالونه لمدة فاقت السنتين.
-ثم؟
-ولما ضاق ذرعا منا، جاء بنا إلى هنا، وباعنا.
-بكم؟
-لايهم بكم بيع يوسف. مايهم هو من هو يوسف.
-بكم باعكما؟
-بدراهم معدودة وكان فينا من الزاهدين، لأنه كان عازم على السفر إلى الخارج.
تذكرت ما حدث. وماروته لي عشيقتي أرجع ذاكرتي إلى المثلث الأحمر الذي كنا نجتمع حوله نحتسي القهوة ونأكل الكعكة ونتبادل الأحاديث حول الفن وأهله ومشايخه
ومريديه. تذكرت الجرائدي ونصه الإيزوتيريكي الذي كتبه لنا نحن مجموعة الأربعة. تذكرته وهو يلح علي كي أدفع له ألف درهم مقابل سطوره الفارغة إلا من كلمات جافة كالقلم الذي كتبت به. كلمات لامعنى لها. استغنيت عن النص لأنني لو نشرته لتكثفت سحابة التعتيم وأبعدتنا عوض أن تقربنا من جمهورنا وعشاق فننا. كنت أعلم بداهة أن الجرائدي سيصفف كلماته مستنجدا ببصيص نور الهينيكين. فهو من أولئك الذين لاتحلو لهم الكتابة عن الفن إلا إذا تجرعوا عصارة الشعير واستظلوا بنور الهينيكين. وبما أنني لم أقدم له شيئا بداية، فطبيعي أن النور سيكون باهتا   ونصه غير مقروء.
لم ألب طلبه لأنني لم أستغل النص لنشره، ولم يتحقق تنظيم ذاك المعرض أصلا.
رفعت رأسي أحدق في وجه لوحتي الشاحب المطلي بغبار الحانوت، وشريط الأحداث مافتئ يتواتر لينير ذاكرتي.
خاطبتني عشيقتي في تحسر:
-رأيت ماذا فعلت بنا، أبدلتنا بنص مكتوب. حنا رخاص عندك حتا لهاد الدرجة؟!
هي تتكلم وأنا أحس بأوتار عنقي ترتخي لدرجة أن رأسي زاغ عن كتفي وشعرت بدوخة تلفني وأنوار تتراقص أمام عيناي. لم تعد رجلايا قادرة على تحملي.
عدت إلى صاحب الدكان فوجدته متكئا يرشف شايه الساخن، وهو في غياب تام عن دراما عشيقتي، غير مكثرت لمأساتنا. وبعد هنيهة،  رفع رأسه ينظر إلي كأنه يراني لأول مرة، ثم بادرني قائلا:
-أراك قد أطلت التأمل في اللوحة. هل أعجبتك؟
قبل أن أجيبه أحسست وكأن فؤادي يرد عليه: أودي غير سكوت راك ما عارف والو.
-نعم أعجبتني، وسآخذها منك.
تحركت اللوحة فجأة و بقوة تحررت من مسمارها العشري وصرخت في وجهي وقد تغير لونها:
-أخرج، لن أذهب معك. ألم تسمع ما أخبرك به من قبل، لقد مات عشيقي. مات. مات. مات.
 ثم أجهشت بالبكاء.
كانت حشرجة صوتها تكلمني وقد هممت بالرحيل وفرائصي ترتعش فوق عتبة الباب:
-لن أذهب معك، هنا مقبرتي. المسمار دق فوق نعشي، وآل مصيري إلى الجوطية. أخرج. أنت مازلت فنان ... وأنا لن أكون تحفة.










محمد خصيف

محمد خصيف

تأبط فنانا 




وانا ارسم وازوق واقطع صورا فوتوغرافية التقطتها من قصاقات المجلات الاسبوعية، التي اجدها تساعدني فيما انا عازم عليه من رسائل انوي ايصالها الى ذلك الاخر القابع  ليل نهار على عتبة باب الرواح، حتى تزكمت خياشيم انفه وتشربت برياح الشرگي الباردة، الاتية عبر جبل الطر. وانا اركب ما الهمتنيه قريحتي، لم افتر على تخيل الصدى الذي سيكون منتصبا بباب المعرض يحتفي بتحفي. 
كتبت طلب معرضي ووضعته رهن اشارة الادارة موثقا بحكاية سيرتي مثبتة بصور. اتاني هاتف بريدي يخبرني اني مقبول للعرض بباب الرواح. سررت بالخبر وطرت فرحا وعمتني نشوة سرت في عروقي هزت نبضات فؤادي هزا. فتقوى حماسي وتحرك جيبي في سخاء ليعطف علي وانا امام l'encadreur اتامل ما غدت عليه لوحاتي/عشيقاتي التي اقترب زمن زفافها. وانا اتامل فستانها الزجاجي اراني اتصفح صور خطابها. من ياترى سيكون له شرف اخذها مني، انا العارضها برواق باب الرواح؟  
جاء يوم المعرض، يوم الزفاف. حضر الحاضرون وغاب الغائبون. وحضر الازواج مستترين، يتحينون فرصة التنحي والتخلي. 
التخلي على المخطوبات. 
اتى الى اذني صوت احدهم وهو يهمس لرفيقه: 
-سانتظر نهاية الحفل/المعرض لشراء ما اريده. 
رد عليه زميله:
-هناك اشياء لاباس بها، تعجبني اللوحات الصغيرة. 
تقدم مني احد الاصدقاء وهنأني على معرضي، ثم قال بصوت خافت وهو يومئ براسه مشيرا بحركة من عينيه نحو شخص واقف يتأمل احدى اللوحات:
-شفتي هذاك خينا تماك راه galeriste كيشري اللوحات. 
اعجبتني ملاحظة صديقي وتمنيت لو اقترب مني ذاك الشخص العريض الانيق، لم تكن لدي الجرأة للتقدم اليه لاحييه، فقد خانتني الكلمات والتوى لساني داخل فمي وارتخت مفاصل ركبتي فبقيت متسمرا في مكاني ارمقه وهو يتنقل من لوحة الى اخرى وبيده اللائحة. تمنيت لو تقدم هو نحوي وبادرني بالحديث، لكنه كان في شغل عني، ما يهمه الان عشيقاتي المصلوبات علي الجدران الموحدية. 
مرت ساعة على انطلاق الحفل وغصت القاعة بالمدعويين والزوار، طافوا باروقة المعرض واكلوا وشربوا ومنهم من اسرفوا، ثم شرعت الخطوات تحبو نحو عتبة القاعة الموحدية. بقيت انظر وانتظر وبيدي نسخة من اللائحة وفي جيبي وريقة بها النقيطات الحمراء اليابسة التي تنتظر سيلان دمعها الدموي حينما تتجهز احدى لوحاتي للرحيل. انتظرت وطال انتظاري. وفجأة رمقت السيد العريض الانيق ذي الارداف الثقيلةيملأ احدى الاركان وبيده لائحتي. ايقنت مع نفسي ان الخلاص آت. انه خلاصي. 
استجمعت انفاسي وتقدمت منه. حياني مصافحا وهويردد: جميل. جميل. اعمال جميلة واصيلة. انها تختلف عما سبق. ولها نكهة التزامية. Bravo.
شكرته بكلمة واحدة ولزمت الصمت. 
- وضع ذراعه على كتفي كانه يعرفني منذ عقود. كاني صديقه وجرفني معه حيث اللوحات الصغيرة. بادرني بالحديث:
- اعجبتني هذه اللوحات الصغيرة التي بها collage، ستتركها لي. سآخذها كلها. لاتبعها. هل معك نقطا حمراء؟  ضعها عليها الان. 
- نعم معي. 
ادخلت يدي في جيبي وهي ترتعش خوفا وطمعا. اخرجت الوريقة التي بها النقط الحمراء، وبسرعة اختطفها من بين اصابعي وخطا نحو اللوحة يسم اسفلها احمرارا، شعرت برعشة تسري في عروقي وانا اقتفي خطوات الرجل، الgaleri ste والارقام تتوالى على ذهني بدون توقف. واي ارقام؟! شد الرجل ذو الارداف على يدي مصافحا وخاطبني قائلا:
-Au revoir, ساعود. 
غادر القاعة واردافه تتمايل يمينا ويسارا. بقيت واقفا ملفوفا بحيرتي وتساؤلات كثيرة تغوص بذهني: لماذا فعل هذا؟ ايحسب نفسه صاحب المعرض؟ اازيل النقط الحمراء؟ ااطلب منه شيكا اضمن به مبيعاتي؟ ماذا ساقول لزوجي، بعت؟ واين الاثبات؟ لم ابع شيئا؟ واخا فباب الرواح؟ انتبهت من غفلتي حين رجع الدم الى عروقي واستيقظت اعصابي من سباتها، واحسست بيد سي جيلالي، حارس القاعة يتبط على كتفي وهو يردد:
-سي محمد، ايه...سي محمد، ساغلق القاعة. 
التفتت اليه وحركة رأسي تقول له: نعم اغلق وارحنا. 
مرت علي الخمسة عشر يوما وانا في حيرة من نفسي، ومن سوء الحظ لم تتوافد اعين المشترين والمهتمين الا على تلك اللويحات الزجاجية المحمرة الشفاه. ولا احد يهتم بغيرها. حضرني المثل الشعبي: ما بان ليك غي في لمزوجة. كنت كلما دخلت القاعة اترك جهة العشيقات المخطوبات واطوف بالاركان الاخرى عساي اصطدم باحدى الباقيات وقد احمرت وجنتيها. لكني اجد الجميع صائمات عن الكلام، يتتبعنني باعين دامعات. 
جاء اليوم الاخير. يوم جمع المحصول. وبينما  احزم لوحاتي واذا بالشبح العريض ذي الارداف يرتسم ظله بجانبي. رفعت راسي اليه فوجدت عيناه الضيقتين، ترمياني بنظرات ملؤها التاسف والشفقة. كشف عن ابتسامة خبيثة وانحنى علي هامسا: فين اللوحات، ياك ما بعتيها؟ 
اشرت اليها وهي متكأة على بعضها، مسندة الى الجدار الحجري. 
احسست بذراعة الثقيله المشحمة تخر على كتفي كانها صخرة موحدية هوت علي من عل. سحبني من مكاني، من وسط عشيقاتي المتراميات على الارض وهن ينظرن الي وانا مجرور تحت تيار الذراع المشحمة. بادرني قائلا:
-سآخذ منك تلك اللوحات كلها، لكن بدون اطار. لقد عودت زبائني على نوع اخر من الاطارات حتى اصبحت ميزة خاصة برواقي. وستكون هذه اول لبنة نضعها لمشروعنا. ما سترسمه من الان ساخذه منك، لاتقلق. ولاتبع لغيري. سيكون بيننا عقد موثق. 
وهو يتكلم، لم اعد احس بثقله الذي بات يضغط على جسدي المنهوك. اصبحت كتفه كريشة حمامة احملها فوق راسي. سرنا وسرنا نطوف بارجاء القاعة الموحدية وكاننا نزورها لاول مرة. 
تابع يسرد علي قوانين لعبته الماكرة:
-سنتفق على المواضيع التي ستتناولها في لوحاتك مستقبلا، لان هذه المعروضة حاليا لاتعجبني، فيها شوية سياسة. ههههه. ونحن نتعامل مع الفن، اشبغينا شي سياسة. ههههه. سنتفق على المقاسات، نبدأ بمقاسات كهذه، صغيرة ثم ننتقل الى مقاسات اكبر. واخا؟ OK?  
- نعم،  كما ترى. 
وهو يتأبطني كمحفظة مدرسية، وانا مطأطئ الرأس اتلقى نبرات صوته الانثوي تنقر صفيحة مخي:
-بالنسبة للثمن، ساعطيك مئتا درهم عن كل لوحة. انها صغيرة وبدون اطار،، وانت مبتدئ، غير معروف، وانوي انشاء الله تشجيعك، و من حظك انك تتعامل مع گليريه مشهورة، واعمالك ستعرض بالخارج، فرنسا وباريس وبلجيكا واسبانيا ومدريد وحتى نيويورك. وستطبع على كتالوجات ومجلات وووو. كم عدد تلك اللوحات الموجودة الان؟ 
-عشرة. 
- اذا ساعطيك الف درهم، وبعد اسبوع مر علي بالقاعة اعطيك الباقي، ولكن جيب معاك شي حويجة، عنداك تجيني خاوي.