الأحد، 8 ديسمبر 2019

محمد خصيف

شهادة اختطاف


 ياللمفاجأة.
هذه لوحتي! عشيقتي!
نزعت مني نزعا. اختطفت مني قسرا. افتقدتها منذ أزيد من عشرين سنة ولم تترك لي حتى فرصة استنشاق زيت حلتها الكتاني ولا أمتع بصري بألوانها البهية. إحساس انتابني فجأة، وغمرني كشعور خشن سرى يدغدغ أطرافي، حينما رأيت لوحتي القرنفلية معلقة تستنشق غبار الدكان النتئ، اقتربت منها لأتاكد من هويتها، وإذا هي فعلا تحمل بطاقة تربط نسبها بنسبي، وتلميعها يعكس صورتي. اكتشفت أن كتانها يلف ذاتي، وآثار أناملي مازالت حاضرة تتراقص على صفحتها البنية. التفتتُ نحو صاحب الدكان وسألته:
-كم ثمن هذه اللوحة؟
-إنها، قديمة، لفنان مات منذ زمان.
-أريد شراءها. كم تبيعها؟
وقبل أن يصلني رده، ترامت إلى مسامعي خشخشة تنم عن حركة، فالتفت وإذا بي أرى لوحتي تنفض غبارها وتحدق في بعينين مغرورتين، اختلط دمعهما بلون الصباغة القرنفلية، وفاحت منهما رائحة ال vernis .خاطبتني بنبرة قوية:
-لست للبيع.
-إنك عشيقتي. ألاتتذكرينني؟ فقدتك من زمان، وطال بحثي عنك. لم أعثر لك على أثر. ضعت مني، ولم أدر كيف. إني مازلت أحبك. أحبك.
-إنك تعرف كيف أضعتني.
-تركتك في أمان. في قاعة نادرة قل نظيرها، يرعاك شخص مومن، أمنته عليك أنت وأختك زريقة.
-ذاك الذي أمنته علينا، كان  إنسانا طيبا، سهر على رعاياتنا، لكنه خُدع. وقع ضحية مكر وخداع من شخص يدعى الجرائدي، ضياء الدين الجرائدي. إنك تعرفه.
-ماذا حصل؟ احك لي. 
-ذات مساء كنا متحلقتين حول مؤتمننا يحكي لنا نوادره وطرائفه حول الفن والفنانين، فولج علينا  الجرائدي ليخبر مؤتمننا الذي أمنته علينا أنك كلفته ببيعي أنا وأختي.
-كذب! أنا لم أكلف أحد!
-وثق منه صاحب القاعة بعدما فك خيوط الشك والريبة التي باتت تحاك حول رأسه، فسلمنا إليه.
-وبعد؟
-أخذنا ضياء الدين وطاف بنا على مجموعة من معارفه، لكن لاأحد منهم اشترانا. كان يطلب ثمنا عاليا. تركنا في بيته لمدة، وكلما زاره أحد السكارى المعروفين لديه، تجده يقدمنا إليه. لكن حيله لم تنفع وبقينا مصلوبتين بصالونه لمدة فاقت السنتين.
-ثم؟
-ولما ضاق ذرعا منا، جاء بنا إلى هنا، وباعنا.
-بكم؟
-لايهم بكم بيع يوسف. مايهم هو من هو يوسف.
-بكم باعكما؟
-بدراهم معدودة وكان فينا من الزاهدين، لأنه كان عازم على السفر إلى الخارج.
تذكرت ما حدث. وماروته لي عشيقتي أرجع ذاكرتي إلى المثلث الأحمر الذي كنا نجتمع حوله نحتسي القهوة ونأكل الكعكة ونتبادل الأحاديث حول الفن وأهله ومشايخه
ومريديه. تذكرت الجرائدي ونصه الإيزوتيريكي الذي كتبه لنا نحن مجموعة الأربعة. تذكرته وهو يلح علي كي أدفع له ألف درهم مقابل سطوره الفارغة إلا من كلمات جافة كالقلم الذي كتبت به. كلمات لامعنى لها. استغنيت عن النص لأنني لو نشرته لتكثفت سحابة التعتيم وأبعدتنا عوض أن تقربنا من جمهورنا وعشاق فننا. كنت أعلم بداهة أن الجرائدي سيصفف كلماته مستنجدا ببصيص نور الهينيكين. فهو من أولئك الذين لاتحلو لهم الكتابة عن الفن إلا إذا تجرعوا عصارة الشعير واستظلوا بنور الهينيكين. وبما أنني لم أقدم له شيئا بداية، فطبيعي أن النور سيكون باهتا   ونصه غير مقروء.
لم ألب طلبه لأنني لم أستغل النص لنشره، ولم يتحقق تنظيم ذاك المعرض أصلا.
رفعت رأسي أحدق في وجه لوحتي الشاحب المطلي بغبار الحانوت، وشريط الأحداث مافتئ يتواتر لينير ذاكرتي.
خاطبتني عشيقتي في تحسر:
-رأيت ماذا فعلت بنا، أبدلتنا بنص مكتوب. حنا رخاص عندك حتا لهاد الدرجة؟!
هي تتكلم وأنا أحس بأوتار عنقي ترتخي لدرجة أن رأسي زاغ عن كتفي وشعرت بدوخة تلفني وأنوار تتراقص أمام عيناي. لم تعد رجلايا قادرة على تحملي.
عدت إلى صاحب الدكان فوجدته متكئا يرشف شايه الساخن، وهو في غياب تام عن دراما عشيقتي، غير مكثرت لمأساتنا. وبعد هنيهة،  رفع رأسه ينظر إلي كأنه يراني لأول مرة، ثم بادرني قائلا:
-أراك قد أطلت التأمل في اللوحة. هل أعجبتك؟
قبل أن أجيبه أحسست وكأن فؤادي يرد عليه: أودي غير سكوت راك ما عارف والو.
-نعم أعجبتني، وسآخذها منك.
تحركت اللوحة فجأة و بقوة تحررت من مسمارها العشري وصرخت في وجهي وقد تغير لونها:
-أخرج، لن أذهب معك. ألم تسمع ما أخبرك به من قبل، لقد مات عشيقي. مات. مات. مات.
 ثم أجهشت بالبكاء.
كانت حشرجة صوتها تكلمني وقد هممت بالرحيل وفرائصي ترتعش فوق عتبة الباب:
-لن أذهب معك، هنا مقبرتي. المسمار دق فوق نعشي، وآل مصيري إلى الجوطية. أخرج. أنت مازلت فنان ... وأنا لن أكون تحفة.










محمد خصيف

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق