‏إظهار الرسائل ذات التسميات القصة. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات القصة. إظهار كافة الرسائل

الاثنين، 11 نوفمبر 2019

محمد طه العمامي

البطولة والكاتب  

كل قصة تتضمن شخصيات كما فيها شخوص :فتوّة " او " بطولة
وكل كاتب كيف يريد في قصته انتاج بطله 

 تدور عقارب الساعة دورتين وتشرق الشمس ثم تغيب ...
لتكون .بداية .القصة فراغ.... 
بدايتها حفنة ماء قذفتها يد القدر أو لعلّها يد الشيطان 
ويعانق الماء الصخّر الضمآن الى الحياة فيعتزّ عشقا ويتنهدّ شبقا .....
الحكاية فراغ  اردتها ان تتحدى الكلمات لان اللغة نفق رهيب   سجن في شكل داموس مترامي  الاطراف 
حرّاسه هم اللغويّون ... نعبر ذلك الداموس برباطة جأش اذ الحكاية فراغ ... بين الوجود والعدم 
خطّ رقيق لا يرى  ماقبل البدء بدء لا تدركه العقول ... تأخذ قلمك وقبل الامساك به تفكّر  وما الذي يجعلك تفكر ؟ عوامل كثيرة  انها مجموعة بدايات ونهايات  تتناول قلمك في دائرة الفراغ تفكر ... ماذا ستكتب ؟ يمكنك ان تتبع خطا محددا في السرد بل خطوطا ... قد تولد الاحداث في اطار مقدمة جاهزة 
ويطوف بطل القصة على السطح ويمر بعقبات وينتصر في الاخير لان العالم الذي نشا فيه يؤمن بالخوارق 
الشخصية جزء من الاسطورة  بل ان الاسطورة تكمن في الشخصية ذاتها .
ان كانت القصة فراغا  فيمكّنك  اذا اردت أن تزرعه حياة 
فتورق وتزهر وتعطي ثمرا حلو المذاق واذا أردت تدعه ارضا جدباء تتلاشى فيها الرغبة وتضمحل الارادة ويموت الحب   فراغا 
البطل جالس في مقهى  السوق يطالع جريدة يومية وامامه قهوة فى فنجان مزين  بالوان شتى  يلبس نظارات سوداء 

جالس بمقهى السوق بالمدينة العتيقة يلبس نظارات سوداء وعلى رأسه قبعة 
ويمسك سيجارًا...يدخن ويشرد في عالمه ... ويستفيق أحيانا على صوت محمد عبد الوهاب يلفظه مذياع  "خي خي حبيبي يا ااا خي أحلّفو بويلي  وبنهاري وليلي  ياااه يابا اااه يابا"
المكان هو المكان القبة هي ذاتها ، الكراسي الخشبية والمقاصير الصغيرة والباب هو الباب  والزقاق لم يتغير ... تلك المنازل والابواب  تتحدى الزمن الى حين ، ولكن سيقهرها حتما وسيدمرها مثلما دمر فيه البطولة 
كان يجلس في هذا المكان  فيسرع اليه النادل ويقف بين يديه كأنه خادم مطيع ، ويجلس معه أشد الرجال فكانوا يهابونه اذا سبق أن شوه وجه "حمادي " بشفرة حلاقة ، و"التوهامي" طعنه بسكين في كتفه ، واما "الزنقيري " فقد جرٍده من الثياب في ساحة الحلفاوين ونهش لحمه نهشا .. اين هؤلاء؟ ماتوا جميعا  الا " لنقر ولد الحرقاصة " ويبدو أنه مريض فاقد للبصر ، وهو ملازم للفراش لا يغادره  
ألقى بالجريدة على الطاولة ونظر الى الجدار المقابل ... مازلت صورة لفارس ينازل الغول  ويقتله بسيف البتار تزين الجدار وعلى يمينها كتب بخطّ كوفي "الله" وعلى يسارها "محمد"  ويتمتم بكلمات يقول ذلك "علي ابن ابي طالب" ومازال "محمد عبد الوهاب" يغنّي 'أمانة لو يسألك في للبعد عن حالي تحكيلو بالي جرى والي بيجرالي" ومازال الى اليوم يحن الى سماعها لانه تذكره بأيام البطولة 
القصة فراغ ... يمكنني أن أعدّل عن حكاية البطل هذه وأن أغير مجرى الاحداث بل بإستطاعتي أن أعود لنقطة البدء ولكن القارىء الان حريص على معرفة بقية الحكاية وماهي مسؤوليتي في ذلك؟ فقد تقول انني إلتزمت ، وعليٍ ان اتحمّل مسؤولية القصة لانهيها لانني سبق ان شرعت فيها...

القصة فراغ لاني رفضت اتمام الحكاية ، ولذلك رأيت أن أضع البطل والقارىء في حوار مباشر وأقترحت على أن أكون انا القارىء 
وقد فتحت الحوار واليكم جزءا منه

ما أسمك؟

البطل : البطل 

لماذا سمّوك بطلا؟

البطل : كان ذلك في عالم آمن بالواحد الاوحد ، فالله واحد والرسول واحد والسلطان واحد والفكر واحد ، وكنت انا في السوق والاسواق المجاورة والمدينة من الحفصية  الى كل الابواب في المدينة، وكان كل خبر ينتصب البرّاح في مدخل المدينة باب بحر ليعلم كل الناس حيث يعلن كل التفاصيل 
كما يقال لما تدخل مدينة ادخلها بناسها او ان تكون لديك اهم المعلومات 
قتلت ما يربو على السبعين ، وأبدع جريمة أقترفتها يدايَ كانت في ليلة ستوية باردة ...كلّفني الحاكم بأمر الشيطان أن أقطع دابر أحدهم فإمتثلت لاوامره واتجهت الى منزل المغفور له اليزيدي  فهو صاحب كذهب عجيب جلب اليه عددا غفيرا من سكان المدينة ، فطرقت بابه ليلا وكنت أحمل سكينا ولما قالت زوجته : من الطارق ؟ أجبتها الفطناسي أبن عم اليزيدي أتيت من القرية لأعلمكما بخبر هام ... فبادرت بفتح الباب دون استشارة زوجها ، ودخلت وعلى وجهي لثام أسود ، ووضعت السكين في رقبتها ثم قادتني الى غرفة النوم حيث اليزيدي وابنه الرضيع يغطان في نوم عميق ... فارتميت كالنسر على اليزيدي واعلمت فيه السكين ثم أسرعت الى سرير الرضيع فرفعته بيد واحدة والقيت به على جثة ابيه انهيته ميتا كي لا يكبر ويثأر لابيه  فهذا امر الحاكم قطع دابره  وتركت الزوجة في حالة غيبوبة ثم قفزت من 
النافذة الى الزقاف المظلم ...

قلت : ماذا جزاك الحاكم بامر الشيطان؟ 

وهبني ضيعة وجارية ونصّبني قاضيا لمظة سنة باكملها ثم عزلتي بد أن جمعت ثروة حسدني عليها رجال ابنه الامير وكادو لي عند الحاكم بامره ، ولولا ماضيّ المشرق لكان مصيري السٍجن أو ربما الشنق ...

ماذا تفعل الان ؟ 
كما تراني ... أقضي الساعات الطويلة في المقهى ألعب الورق  ولا أعود الى المنزل الا عند الغداء وفي الليل ...

هل انت متزوج؟ 

زوجتي في السجن منذ عشرين سنة لانها قتلت ابنها الاكبر بسبب خصومة بسيطة ...

لماذا تزوجتها؟ 

كانت على رأس أربعين مومسا تسهر على نشاطاتهم بالليل والنهار ، تجمّع الاموال وتسلّمها لي في نهاية كل اسبوع ... فكرت آنذاك في ان أتزوجها كي أتقي شر الالسن والعيون ... ولكنها كانت كثيرة الخصام ، يتعالى صوتها لاتفه الاسباب  تكسّر الصحون وتطرق أبواب الجيران  وتشتمني امامهم ... وفي كل مرة اضربها  ... فأشج رأسها أو أقلع لها ظفرا أو أجرّها من شعرها الى الزقاق أو انزع ادباشها والقي بها من النافذة  أو اطلب من الامير ابن الحاكم بان يسجنها لمدة ايام ، وكان يستجيب لطلبي تقديرا لاعمالي البوطولية التي أطاحت برؤوس الفتنة وأعداء السلطة 

هل درست البطولة أم ورثتها عن أجدادك الكرام ؟ 

قرأت عن الحجاج بن يوسف ، فهو أستاذي المفضٍل وأبي الروحي وعيناي التي أبصر بهما ... وقرأت عن" هتلر "و "موسيليني" الكثير الكثير ...

ماذا تطالع في الجرائد اليومية ؟ 

صدى المحاكم وأخبار الجريمة في العالم ...

القصة فراغ... إنقطع الحوار ، وأهتزت في أرجاء الذاكرة صور الماضي والحاضر ... رؤوس تقطع وأجساد تصلب وعيون تسمل وفكر يذبح وسجون تبنى وقبور تشيٍّد ودم يراق ولسان يقطع وتاريخ وثقافة تحرق....
القصة فراغ ....
قد يكون البطل كتسوّلا يجلس أمام مسجد وسط مدينة باسطا يده وعيناه ذليلتان...
قد يكون البطل دمية تحرّكها أياد بشرية وتسقط على الركح لان الخيوط التي تشدها الى فوق قطعها مقصّ في حجم المسرح أو المدينة أو ربما أكبر ....
قد يكون البطل خرافة "أمي سيسي" أو "السلطان "أو "أبي زيد الهلالي " أو "عنتر ابن شداد " أو "سيف بن ذب يزن" وقد يكون حفنة ماء  رماد ييذري في يوم الريح ... 
قد يكون البطل شبحا يطفو على سطح الذاكرة كلّما أدلهم ليل وأجدبت حياة ...
القصة فراغ ... تدور عقارب الساعة دورتين وتشرق الشنس ثن تغيب ثم تشرق ... ويموت البطل لان الكاتب والتاريخ والقارىء  أرادوا ذلك ...

المكان ضيق ،ضيق ... أيا زمن الهزيمة !في القفص الكبير أقفاص... داخل المكان تموت ذبابة ملطّخة بالقذارة ...وجهان في وجه يتبخّر الاول في الريح ، ويتدفّق الثاني شفاق رفيقا... 
عرق كالماء . عرق أصفر مخلوط بقطرات دم ... يتصبّب العرق ويغطي وجهه الثاني ويبقى الوجه الاول علامة فراغ 
شاهقة بنايات العالم السفلي ... لاهثة كلّ المرايا ... نمضي وفي الاذان صوت المحاريث العتيقة  ، وحشرجات المتعبين ، نمضي وخلف الشبابيك المهجورة كنت أنت ... يدا تخرج من باطن الارض ، وكنت أنت ... أنتِ السنابل والتربة والمنازل البيضاء ...وكنت أنتِ... أنتِ الخطوط الخضر والامواج والزرابي المبثوثة والقباب ... وكنت تنتِ الفسفاط والحديد والبترول والقمح والتمر والزيتون والفقراء  ... وكنتِ أنتِ ... أنتِ الشواطىء وإعتدال الطقس ... وعندما نمشي على أرصفتك الباهتة تتراقص في مرايا الذاكرة زيتونة متشابمة الاغصان ، وتنبجس من قاع الرأس رواية قديمة جديدة 
فارى كيف سأصبح أنا وأولادي أحرار من الاسترخاء أحرار من النوم بعد الغداء .

محمد طه العمامي

الثلاثاء، 24 سبتمبر 2019

بقلم سميرة مسرار

رحلة الصحراء
(3) الجزء الثالث

تسمرت ياسمين في مكانها، صار جسدها ثقيلا عليها وساقاها عاجزتين عن الحركة وكأن الأرض جثمت عليها بكل ثقلها فداست على مكامن الإحساس بذاتها. يا له من شعور غريب انتابها، فتساءلت لمَ هذا الخفقان القوي الذي يكاد صوته يعلو على صوت فارسها!؟ وهي كذلك، إذا بيد صفاء تمسك بكتفها فتوقظها من شرودها:

ــ ما بك حبيبتي؟ هل تحسين بألم؟ ألم يناسبك الأكل؟

استغربت ياسمين من هذه العناية التي أرجعتها إلى عالمها المعتاد:

- لمَ تسأليني على غير عادتك؟ هل لاحظت شيئا في تصرفاتي لا يليق بهذا المقام؟ أنا بخير، لا يؤلمني شيء؟

ردت عليها صفاء مستغربة:

- خُيّل لي أنك بعيدة جدا، تائهة رغم أنك قريبة منا، أو قولي قريبة وبعيدة في نفس الوقت...

استردت ياسمين سيطرتها على نفسها، وقالت:

ــ لا شيء، كنت أفكر في رسالة يوسف. فاجأتني وأثارت في نفسي جملة أحاسيس دفينة: طفولتي ومعاناتي ووضعيتي كامرأة في مجتمع لا يرحم.

كادت تسقط من عينيها دمعتان، لكنها حبستهما في مقلتيها لأنها تمرّنت على إخفاء بكائها أمام الناس، بل وتعلمت كيف تطرد أشباح ضعفها الحقيقي وتتقمص في بعض الأحيان القوة الجريئة التي تراها الأنسب لمقامها.

انضمت إليهما جميلة وهي تضحك وتقول ممازحة:

ــ يا الله، يا صديقتي المدللة! رغم عزوفك عن الحب، فإنك تجدين دائما من يتغزل بك، وكأن القدر يعاندك ليؤكد لك أنك امرأة جميلة تستفز قلوب الرجال، يعجبون بك أولا ثم يسقطون صرعى أمام عيونك اللوزيتين وقدك الفارع.

عند سماع هذا الإطراء ــ وإن كان يصدر عن صديقة مشاكسة وممازحة ــ شعرت ياسمين بانتشاء بالغ ما كان أحوجها إليه في هذه اللحظة بالذات، ولكنها كانت بحاجة إلى التركيز لتتمكن من إدارة أمور أحاسيسها المتضاربة. لم تجد بدا من الاستنجاد بهاتفها، غاصت فيه من جديد متظاهرة بقراءة رسالة يوسف، هكذا تمكنت من الاختلاء بنفسها فسافرت بذاكرتها عبر الزمن وهي تتردد بين حبّين لا تجمع بينهما إلا ذاتها المستعصية. زاغت عيناها في هاتفها الذي كان يسقط من يدها من حين لآخر بسبب شرودها وهي تتحدث إلى نفسها:

ــ غريبة هذه الدنيا! في حياتنا أناس يعيشون معنا، نتقاسم معهم يوميا آمالنا المشرقة وهمومنا المؤرقة، ونتبادل معهم اهتمامات شتى. وقد تنقضي أعمارنا بينهم، ومع ذلك لا نغرم بهم وإن كنا لا نقدر على مفارقتهم، ربما بسبب العادة والألفة. يوسف الوسيم لم يتخلَّ عني أبدا، لقد ظل دائما بجانبي. هربت من بيت والدي فاستقبلني في غرفته البسيطة التي كان يستأجرها وهو طالب في الجامعة، لم يطلب مني المساهمة في مصاريف العيش. فعل كل ذلك في غفلة من عائلته التي لم تكن لتقبل بتحمله مسؤولية فتاة وهو ما زال في سن العشرين، عمل نادلا في ملهى ليلي لسنوات عديدة حتى يغطي مصاريفنا مما أثر على مساره الدراسي، ظل في خدمتي دون شكوى أو ملل.

أخذت هاتفها الذي سقط منها مرة أخرى، ثم عادت إلى سفرها المتعب عبر أودية ذاكرتها المثقلة:

ــ غريبة أرواحنا! كم تظل تسافر في كل الدروب وتجوب أزقة الأحداث، لا تعترف بقيود الزمن ولا بجاذبية الأرض، تزور البعيد وتسأل عن الحبيب، تبحث عن القريب ثم تعود إلى سجن جسمها وكأنها لم تغادره قط...!

هنا تذكرت دموع أمها التي كانت تخفيها عنها وعن أخواتها وهم صغار، كان وجهها الحزين في خصام دائم مع السعادة، كرهت خضوعها لأبيها المتسلط، كرهت كلمة «نعم» وعاهدت نفسها على ألا تقولها أبدا لأي رجل ولو كان عمرها بيده.

قالت لها صديقتها رقية وهي تنزع منها هاتفها:

ــ إيوا بقاي معنا! انت غرقت في بير وما بغيتي تخرجي!

اصطنعت الابتسامة في وجه صاحباتها لتعيد إلى وجهها الشاحب ــ بسبب استرجاع الماضي ــ شيئا من نضارته المعتادة. شجعت نفسها لتعود إلى مجلسها ولو برهة من الزمن حتى لا يفتضح أمر شرودها وعنائها بين ماضيها وحبّين، واحدهما متين متقادم، والآخر جديد ومبهم وجميل.  نظرت في كل الاتجاهات بعينين ما زالتا شاردتين وكأنها ودعت خلفها جميع تقنيات العالم ورفاهيته ورمت عن كاهلها كل أثقال الحياة. صادفت عودتها إلى عالمها المحيط بها صوت أغنية، تحت ضوء خافت وقمر ظل يراقب همسات شفتين، في خيمة نُصبت لقتل الليل بلذة اللقاء وزرع السعادة في نفوس المتعبين عبر الكلمة واللحن والصوت وصبيب الشاي.

  استرخى جسدها قليلا وإن كانت لا زالت فريسة عناء الحب والاختيار التي أُطلقت سهامُها عليها وأَسقَطت دفاعاتها. لم تتمكن من استرجاع نفسها إليها كليا، بل ظلت تذوب كالسكر في الماء. سألت قلبها المدمى:

ــ ما الحب؟ أهو الحنان المتدفق كالنهر السريع الجريان؟ أم هو لحظة الشوق للذوبان في الحبيب؟ أم هو العاطفة النقية التي تسعد القلب الحزين فتمنحه الإحساس بأن الكون بين يديه؟ 

صرخت من كل أعماقها:

ــ كيف أتأكد من شعوري وسط كل هذا الازدحام؟ ثم إن جميلة وصفاء ورقية لا يفارقنني مثل ظلي، يا الله ! أكاد أُجنّ...

فجأة، سمعت فارسها يخاطبها:

ــ ياسمين! لماذا لا تقعدين بجانبنا؟ تقدمي لستمتعي بالطرب!

أحست بالسعادة عند سماع صوته، استجابت لطلبه مثل طفلة صغيرة، وانتقلت للجلوس بجانبه قريبا من المغنية.

كان الجو باردا كبساط الأرض، أو لعل ذلك ما خُيّل لها بسبب رعشة جسدها من أثر قصف الأسمر لها بنظرات تذيب الجبال. مسكها من يدها وأجلسها بثقة لامتناهية أفقدتها كل محاولة للمقاومة، ثم خاطبها:

ــ ياسمين الجميلة،  احكي لي عنك!

أجابت:

ــ أنا أنثى تألمتُ كثيرا، لكن لا أحكي همومي إلا لدفتري الصغير، أبتسم وأنا حزينة، أختار أجمل الملابس وأقوى العطور لأخبئ ضعفي، لا أترك كحلي يسيل من عيني ولا لساني يحدث عني، همي النجاح وهدفي الحرية!

ــ غريبة أنت حقا يا أميرة! بمجرد دخولك إلى الخيمة خفق قلبي. حاولت أن أقتحم عالمك، ولكنك لم تخرجي بعد من قصرك الزجاجي. أسمعك الآن وأحس بثقل الزمان على لسانك...

ــ حياتي كلها كانت جدا ونضالا.

ــ أي نضال؟ أنت قصيدة، فما لك والنضال؟ هذا شغل الذكور المحطَّمين؟

هنا تذكرت يوسف الراقي، وتذكرت نضالاتها من أجل المرأة والمواطن المسكين، تذكرت آلاف الصفحات التي التهمتها لتملأ عقلها بأفكار نوال السعداوي وفاطمة المرنيسي وغيرهما من النساء اللواتي قضين حياتهن في الدفاع عن تعليم المرأة وحقها في التصويت واختيار الرجل المناسب ومحاربة العنف ضدها وحماية الأطفال القاصرين. لكم قرأت لقاسم أمين وهو يدافع عن تحرير المرأة، وكم أعجبت بجريدة 8 مارس حتى أنها كانت تقرأها ليلا وتدسها تحت وسادتها كلما فتحت عليها أمها باب الغرفة.

سرحت بذاكرتها في سنوات نضالاتها النسوية في صفوف طلبة المغرب، فأحست بلذة لامتناهية أخرجها منها صوت الصحراوي الأسمر:

ــ والحب؟  

ــ لم أفكر فيه ولم أصادفه كما ينبغي!

ــ كيف ذلك؟

ــ لا أدري، لعله قدري!

هربت منه لحظة بعيونها فرأت رقية جالسة بجانب أحد البدو، كانت تحدثه بدون توقف ولا ملل منذ بداية السهرة، لاحظت كل هذا وإن كانت تشرد بذاكرتها عما حولها من حين لآخر. كانا جد متقاربين فأثارها ذلك، كادت تنتفض وهي تقول في سرها:

ــ كيف تسمح رقية لنفسها بكل هذا وهي متزوجة؟ المفروض أن تكون وفية لزوجها الذي بدأت معه علاقتها في الجامعة!

ثم راجعت نفسها، وقالت:

ــ وهل أنا في مستوى المسؤولية حتى أعطي دروسي للآخرين؟ وما ذنب يوسف؟ أنا مشتتة؟ أخاف أن تعاتبني نفسي القاسية في يوم من الأيام فأعود من جديد إلى اجترار الماضي! مهما يكن، أتضايق من تصرف رقية. لماذا؟ لا أعرف؟

التفتت إلى جميلة، وقالت لها بصوت خافت:

ــ ماذا تفعل رقية؟ هل فقدت عقلها؟

تنبهت جميلة لوضعية رقية فنادت عليها لتقترب منها هي وصفاء، لكن رقية لم تستمع إليها ربما لأن حديثها مع ذلك الرجل الغريب كان أهم من كل شيء.

أحس حماد بما كان يجري بينهن، فقال: 

ــ لا تستغربا، فأخي لا يتوقف عن التفاخر بقبيلتنا وعائلتنا، وهو متزوج من موريتانية هي الآن في زيارة لعائلتها. وأنت ــ أميرتي ــ لا تقلقي على صديقتك فقلب أخي مسلوب منذ سنوات!

سألته ياسمين:

ــ وأنت؟

أجابها، وقد عدل من وقفته وخفف من ثقته :

ــ أحس وكأن قلبي يُسرق مني في هذه اللحظة!

تأوهت، وقالت في نفسها:

ــ أتراه قد شرب من نفس كأسها أم أنها الصدفة التي جعلت قلبيهما يهويان فيتهاويان؟

رفعت نظرها إليه وهي تخاطبه بعيونها، وتسأله في صمت:

ــ هل الأقدار هي التي لعبت لعبتها؟ أم أنه قلبي الذي لم يستطع أن يصبر أكثر من ذلك؟ أم أنها الحياة التي أرادت أن تعطيني درسا في العشق في هذا الفصل من عمري؟

كانت تناجي نفسها، فيقظها سؤاله:

ــ ياسمين، هل ترغبين في جولة بالمنتجع؟ أنت لم تشاهدي منه سوى هذه الخيمة.

لم تصدق أذنيها، هل يريد فعلا أن يبقى معها لوحدهما أم خيل لها ذلك؟ ظلت حالمة، مد لها يده، فتعلقت بها دون تردد. آنذاك استفاقت على صوت صفاء:

ــ إلى أين أنتما ذاهبان؟

لم تجبها ياسمين، كانت تقول لها في نفسها:

ــ اتركيني يا أيتها البلهاء، لا أريد الموت البطيء، بل أبحث عن الدنيا التي حرمت نفسي منها!

استجابت صفاء لتضرّع صديقتها لأنهما كانتا قد تعودتا على الحديث بلغة العيون، خاصة وأنهما تتعارفان منذ وقت بعيد.

خرجت ياسمين وحماد من الخيمة ويداهما متماسكتان، شرعا في جولتهما من وراء المنتجع، مرّا بمكان الشواء، فأخذ في شرح كيفية تحضير الأكل الصحراوي، ثم انتقل بها إلى مرابط البعير. كان يتحدث وهي تنصت بدون تركيز حتى وصلا إلى فضاء واسع. بدأ يريها اتجاه البحر ويصف لها رمال سواحله المترامية كمد البصر على ضفاف الأطلسي.

أحس بشرودها، فسألها:

ــ هل تسمعين؟

أجابته:

ــ صوت البحر؟

قال وهو يتظاهر بالاستغراب:

ــ لا، صوت قلبي!
سميرة مسرار 




(يتبع)

الاثنين، 17 يونيو 2019

بقلم أحمد علي صدقي

 يوم مشهود.
... لم يمتنع يوما ما عن التفكير في محاربة تلك المشعوذة الشمطاء كما كان يسميها. ولم يعدم عزما للقيام بذلك رغم ضعفه وعتو سلطتها... كان لا يدرك أن في طريق محاربة المنكر توجد اخطار قد تسفر عن أداء المحَارِب قبل غَرِمه... قيل له مرارا، وهو يتحدث عن مشروعه هذا، أن تلك الشمطاء لها من يحميها من الأقوياء... فكان يهز كتفيه معللا تصرفه بأنه أصلا لا يعترف بصفة القوة عند الانسان ومبدؤه ان الله وحده هو القوي وما غيره فخلق ضعيفا... 
كان يكره الشعوذة والمشعوذات. وكان له موقف سلبي اتجاه كل من يعتمد على الغش والسحر والشعوذة و "الحروز" كمفتاح لنجاحه في الحياة. وما أشد غيظه وما اقوى غلظته ايام الانتخابات وهو يرى ثلة من المرشحين يعتمدون على الرشوة والشعوذة طلبا للنجاح في مسيرتهم السياسية.
كان اسمه "باحفو" اسم تفضل به عليه بعض اصدقاؤه، وكان يعني عندهم "السيد المحيط بكل شيء" لأنهم ما تحدثوا عن شيء إلا أدلى بدلوه فيه.  
قرر "باحفو" اعتناق مهنة التحري بعد تقاعده من مهنة حارس قضائي قضى بها أزيد من ثلاثين سنة. والذي استغوى اهتمامه لامتهان هذه الحرفة هو سهولتها وخفة عتادها. هاتف جوال وصفحة فيسبوك وقضي الأمر. لا يحتاج الموضوع لا لرخصة ولا لمطبعة ولا لموزع. اكتب وصور وانشر على المباشر. قرر "باحفو" أن يكون أول استطلاعه حول ما يغيظه في مجتمعه وهو الفساد الاخلاقي. وبالخصوص محاربة المشعوذات من خلال تصوير وتسجيل زبائنهن ونشر الصور و الفيديوهات على النت... و أسبق زبائنه أزمع على أن تكون تلك الشمطاء كما يسميها... كانت تغيظه كثيرة وهو يرى افعالها المسيئة للمجتمع في مواظبة بلا انقطاع مستعينة على ديمومتها بأكابر المسؤولين من الزبناء عندها . كانت غاوية ولا ترقب في الناس إلا ولا ذمة. كدست أموالا طائلة من جيوب نساء غشيمات. اكتسبت من ورائهن سيارة رباعية الدفع وفيلا تستقبل فيها زبناء من النبلاء المزيفون من الرجال والنساء... كما اكترت منزلا كبيرا في حي شعبي تستقبل فيه أراذل هؤلاء... اكتسبت بهذا سمعة عالية و زبناء بالمئات. كان كلامها المعسول يستهوي النساء. وكن يستمعن لخرافاتها غير مستفهمين خطر افعالها الذي يأتي على الاخضر واليابس في تكتم وسرية. باطل يأتيهن من بين ايديها، ويخربن به عائلاتهن بأيديهن. وصفات مسممة تخمد نور اجساد يانعة و تتلف صحة أصحاء. مارست هذه المهنة بكل حرية بعد موت زوجها الذي كان يعرف أنها تزاول الشعوذة والسحر خلسة منه وكان، كلما أتيحت له الفرصة، يؤنبها ويحذرها من سوء عملها لمزاولة مهنة بعيدة عن الأخلاق والدين. لكنها كانت تمده بما تحصده من أموال فتسكت صوته عن جرائمها وتكبل يداه عن تعنفها في جل الأحيان. 
أفشت هذه السيدة فسادا بعد موت زوجها عتا عتوا في الحي بل لنقل في المدينة كلها إذ عرفها الكبير والصغير. وبدأ يتهافت على أبوابها رهط من النساء من مختلف الطرازات منهن الثريات و منهن المعوزات. كان "باحفو" يغتاظ من تصرفاتها قبل تقاعده لكن لم يكن لديه وقت لمحاربتها ولا سلطة لردعها وخصوصا أنها كانت في مأمن تحت رعاية بعض المسؤولين الجشعين الذين كانت تغريهم بالأموال. في هذا الحي الفقير كان باب منزلها مفتوحا للشعوذة ليل نهار وكانت روائح أبخرتها الكرهة تزكم الأنوف وتمتد على طول وعرض مساحة الحي. اما من كانت تستقبلهن في الفيلا فالله أعلم بما كان يجري من فساد اخلاقي هناك.
في هذا اليوم المشهود تناول "باحفو" جواله وخرج مصمما على أن يفشي سر هذه العجوز الشمطاء بأن يصور ويسجل خلسة من أتى لباب منزلها بالحي الشعبي. قرر بأن يصور ويكشف وجوه كل من سولت لهن أنفسهن اللعب بعواطف وعقول ازواجهن وأن يفضحهن أمام العالم نكاية بسلطات تتهرب من فضحهن خوفا أو ربما فقط رعاية بمقابل. فتح صفحة على الفيسبوك واسماها: "أراكم المعقول".  
كان هذا اليوم يوم أحد. يوم ليس بساخن ولا ببارد. خرج "باحفو" بلا علم من زوجته التي كان يخبرها كلما أراد مغادرة المنزل. ولم يخبرها اليوم لأن عمله يتطلب الكتمان. أخذ جواله وتأبط كتابا للمرحوم الفقي تحت عنوان "فجر طاقاتك الكامنة" وركب سيارته وخرج. توقف على بضعة امتار من منزل الشوافة وركن سيارته في مكان وقوف لا شبهة فيه وهيأ كاميرا جواله وأخذ كتابه منتظرا من هي أول ضحية ستسقط في فخه. كان الزبائن يقلون في مثل هذا اليوم لأنه يوم عطلة يكون فيه الحي مليئا بالمارة فلا تستطيع النساء الدخول والخروج عند الشوافة تحت انظارهم. في انتظار احدى ضحاياه، فتح كتابه وبدأ يقرأ: 
...كل انسان عنده قوة رهيبة في داخله الا انه لا يعرفها وبالتالي لا يحسن التصرف معها...
 رفع رأسه عن كتابه فإذا بامرأة ماشية تقترب منه متجهة نحو الباب. صوب عين كاميرا جواله نحو الهدف وبدأ يسجل وهدفه خصوصا كشف وجها لعل زوجها يتعرف عليها فيمسكا ويمنعها عن هذا التردد المشين. كان يسجل وكل بؤرة اهتمامه وجهها. لكنها كانت قد لفته بقماش فلا يرى منه إلا عيناها. أثارت انتباهه كسوتها المزركشة التي كانت تشبه كسوة زوجته بالتمام. حينها تناسى معرفة الوجه واشتغل بلون الكسوة. كبر الصورة ثم صغرها ثم استغنى عن عين كاميرا جواله. اقتربت منه المرأة متابعة طريقها. وضع طرف معطفه على وجهه ونظر اليها بعين واحدة مجردة. كانت قد غلفت ووجهها تسترا على قيامها بفعلتها الشنيعة. كان قلبه، والمرأة تقترب منه،  يحدث دقات في صدره لعلها سمعتها حين مرت بجانبه. شغله لون جلباب المرأة فتناسى مهمته واخذته الأفكار بعيدا عن حاضره. تابعها بدون انقطاع حتى دخلت منزل الشوافة. انتابته شكوك ملأت فكره وأغاظت قلبه. جلس قليلا يستعيد قوته ثم حرك مفتاح سيارته وانطلق نحو منزله. توقف ونزل من السيارة... قرع باب المنزل... لم يستجب لقرعه أحد... تناول المفتاح وفتح الباب... لم يجد أحدا بالداخل. وبعد أن كان يستحوذ عليه فقط مجرد شك في من هي هذه المرأة التي دخلت عند الشمطاء اصبح الآن متيقنا أنها زوجته وهي التي دخلت هناك...
جلس القرفصاء واضعا دقنه على راحتي يديه وهو لا يتحرك وكأنه صنم منتصب هناك منذ زمان... استرجع مهلة من تاريخ حياته مع زوجته باحثا فيها على تغرة في ملف من وعيه أو للاوعيه يطل منه على غدر يقوده الى إجرامها. ثم افتكر حوارا مر بينه وبينها يوما ما حول هذه الشوافة. كان قد تناولا هذا الموضوع وقال لها:
- هذه المشعوذة الساحرة يجب أن أحاربها بكل قواي. إذا كان الكل يخافها فأنا لها بالمرصاد وعي الله. ردت عليه:
- هدئ من روعك حبيبي وما عليك فكل سيحاسب على أعماله. وكل ميسر لما خلق له. وكل له اتجاهاته. أجابها:
- إنها امرأة شريرة الطبع فاسدة الذوق. تدعي معرفة الأشياء وهي جاهلة جهلا مركبا تجهل معه نفسها. تستخدم الشياطين و تفرق بهم الأسر. يجب محاربة مثل هذه التصرفات و هذه الخزعبلات وهذه الدعوة للفتن و الفساد. قالت:
- يا رجل اثق الله وانتبه لنفسك ولا يضرك كيدها. اتركها وشأنها. قال لها:
- أراك تدافعين عنها. ثم ضحك وقال:
- لعلك تريدين زيارتها؟ فضحكت هي الأخرى. وقالت:
- ولم لا إن دعت الضرورة لذلك. فقلبك أصبح يقسو علي بعض الشيء. قال لها:
- أقطعك إربا إربا يوم تزورينها. نظرت اليه نظرة تهكم ثم قالت:
- دعني من تخوفك وشكوكك واتركني اهيئ لك كأس شاي تقوم به اعوجاج مزاجك. 
وهو غارق في افكاره المتشائمة قاده استرجاع هذا الحوار إلى أن امرأته ليس غريب عليها فعل مثل هذه الافعال اذ تستثمر كل وقتها في المنزل لوحدها وهو في عمله وهذا كاف لكي يدفعها للتفكير في مثل هذا لملء وقتها. فالصحة والفراغ نعمتان مغبون فيهما كثير من النساء فتستثمرهن في طرق غير سليمة مثل الشعوذة... إنها تظهر دفاعا غير مباشرا عن هذه المشعوذة الشمطاء وتتجرأ لتقول بأنها ستفعل هذا اذا دعت الضرورة لذلك... في غمرة استفهاماته تساءل :
- لماذا تتجه النساء الى الشعوذة لترويض ازواجهن وعندهن ما هو انجع من ذلك وهو قلبهن؟ لماذا هذا التصرف المشين منهن ويكفيهن الكلمة الحلوة للرجل وتبدوا منه الطاعة الكاملة؟ تلت عليه نفسه اجوبة مختلفة اجترها كثيرا لكن لم تشف غليله:
- قد تضيق الزوجة بالعيش السليم مع زوجها لسبب غلظته وجوره عليها. ولكن أنت لست كذلك. وقد يكون الضيق بالرجل من زوجته عائدا الى عدم وجود التصرف اللائق به كزوج قوام عليها مما يحزه في نفسه فيعنفها فتستعين عليه بالشعوذة. ولكن أنت لست من هؤلاء. وقد يرى الرجل تصرفا من زوجته يقلل من عفة الاسرة فيتجه للعنف ليظهر سلطته. فتعاد الكرة منها ويكرر الزوج فعله فيسقم العيش فتتجه الزوجة للشعوذة لحل المشكل. ولكن أنت لست كذلك. أجاب نفسه وكأنه يحدث أحدا:
إذا لم أكن من هؤلاء ولا من أولئك إذن ما هو السبب؟
نفض غبار أفكاره واستسلم للأمر الواقع قائلا:
- لعلي شككت فيما لا يجب الشك فيه. ولعل تصرفي هذا لا يزيد الطين إلا بلة. اظنني حملت معولا وبدأت أخرب بيتي بيدي. أراني شرعت في هدم حائط يحمي عائلتي والتي هو زوجتي. 
وبينما هو في مهب رياح شكوك تتقاذفه امواجها العاتية إذا به يسمع قرع الباب. اسرع لفتحه فوجد زوجته خلفه. فأسرع بسؤالها:
- أين كنت؟ أجابته بتلقائية:  
- زرت أمي بسرعة ورجعت. كاد جوابه لها أن يفسد عليه تحريه حين قال:
- زرت أمك أم زرت احدا آخر غيرها؟ تكلمي. ارتعدت المرأة وقدفته بنظرة غير معتادة قائلة:
- ما هذا الكلام أيها الرجل؟ أتشك في تصرفي؟ قال لها وقد قلل من حدة كلامه:
- مجرد سؤال. فلا تكترثي له.
دخلت وجلست على حافة سرير نومهما وهو واقف امامها وبدأ الاحتجاج. استمرا يتجادلان في نقاش حاد فإذا بالباب يقرع. اتجه الزوج نحوه. فتحه فوجد أم زوجته التي ناولته جوالا كان بيدها واخبرته بأن ابنتها-زوجته- نسته عندها. أول مرة يسلم "باحفو" على أم زوجته بالباب ولم يتكلف عناء استدعائها للدخول. دعتها ابنتها لذلك لكنها رفضت بدعوة أنها جد منشغلة في تهيء الأكل لزوجها الذي اقترب زمان حضوره من عمله. ولم تأت إلا لإحضار الجوال. أعطت ابنتها جوالها ونكصت على عقبيها. طمأن هذا الحضور للأم واحضار هذا الجوال "باحفو"، لكن سرعان ما شك في الأمر وظنه مجرد مسرحية متقنة بين البنت وأمها لطمس الحقيقة. هبت به، من جديد، رياح ظنونه فهمهم بصوت خافت: 
- إن كيدكن عظيم. فقالت له زوجته: 
- ماذا تدندن؟ ألا زلت مستمرا في غيك؟ قال لها:
- سامحيني. وخرج متجها لإتمام عمله والسير في طريق محاربة الفساد وكشف اصحابه. جلس ينتظر. مضى ما يقارب عن ساعة من الزمن فإذا به يبصر من بعيد خيال امرأة آتية حوله. كلما اقتربت منه رأى فيها تلك المرأة التي رآها من قبل بنفس زي زوجته. اقتربت منه وبيدها سلة ثقيلة فضح سر مضمونها صياح ديك ضرب بجناحيه وطلق صيحة غير مبال بما ينتظره. اتجهت نحو باب الشوافة وقرعته وفتح لها فدخلته. لم يصوب كاميرا جاوله نحوها. فهو لم يعد يفكر في هذا بل ما أخذ كل فكره هو صعقته من هذه المرأة التي ابتلي بها هذا اليوم المشهود. هذه المرأة التي أخذت عقله وشكلت شكوكه و أحيت غيرته وأججت غيظه. ترك مكانه وركب سيارته واتجه مسرعا نحو منزله. نزل وقرع الباب فلم يجبه أحد. فتحه ودخل ولم يجد زوجته بالداخل. فازداد غيضه واشتد غضبه وكاد ينخنق شماتة وذلة. خرج واتجه مسرعا نحو هدفه ليدرك خروج المرأة من عند الشوافة ليتحرى اتجاهها فيترسخ من هي. لم يعد يشغله محاربة فساد الآخرين اكثر مما شغله تصرف هذه المرأة التي انتابه شك منها أهي زوجته أم امرأة أخرى؟ انتظر كثيرا حتى خاب حدسه وظن أن المرأة غادرت المكان قبل رجوعه... هم بمغادرة المكان و قد طلت بوادر خطة انتقام من زوجته التي اصبحت في نظره هي المفسدة الأولى في حيه قبل أي امرأة أخرى. ففسادها هذا ان كان واقعيا فهو يطيل شخصه ويقلل من عفته ويجعله اضحوكة في حيه... وبينما هو غارق في افكاره إذا بباب الشوافة يفتح. يمعن النظر لكن من خرجت ترتدي زيا أسودا فهي ليست المرأة المقصودة ولكن دار بخلده شيء جعله يفكر أنها عرفته فأخبرت الشوافة لتنقدها من قبضته فنصحتها بتغيير لباسها حتى لا يتعرف عليها. كان قد هم بالسير وراءها لكنه سمع فتح الباب فالتفت فتنفس الصعداء إذ رأى المرأة التي اوقدت نار الشك في قلبه وهي تخرج مودعة الشوافة. قال وهو يتوعدها:
- "احصلت يا بنت الحرام. اليوم نفضو هاذ الحريرة". مرت من أمامه غير آبهة بوجوده فتبعها مشيا من غير مبالاة منها. كانت تتجه نحو منزله وكلما اقتربا منه زال شكه وتيقن أنها زوجته. لكن تجرد من يقينه حين وصلت الى الباب واجتازته وتحاشته وتابعت طريقها الى الأمام. تبعها رغم ذلك وقلبه بركان يفور من الغيض... اقشعر بدنه وانتفخ وسخن رأسه حتى كاد يظن ان شعره يحترق... تبعها ليرى إلى أي هي جهة هي سائرة. كان يسير وراءها وخوفه يتصاعد من اكتشاف مجهول لم يحسب له أي حساب... بدأت ظنون أخرى تلعب به... تبعها يظهر مرة ويختفي مرارا والتساؤلات تزيد من غيضه: الى اين هي متجهة يا ربي؟ أيكون لها خليل تخونني معه؟ أهذه هي الزوجة التي اخترتها لحياتي وتخونني؟
مشت المرأة طويلا وهو وراءها متتبعا خطاها يظهر ويختفي حتى وقفت بباب منزل فإذا بها تدقه فيفتح لها وتدخله. كاد يتبعها الى الداخل ليكشف أمرها لكنه تريث وتراجع. كان يريد ان يزيل عنها القماش الذي يخفي وجهها ليتعرف عليها. لكنه تأن قليلا ثم رجع القهقرة وأخذ سيارته واتجه نحو منزله. رجع بخفي حنين وقد نال منه الغيض نيلا. قرع الباب فأجابه صوت زوجته من الداخل:
- اشكون؟ من يدق؟ أخذ رأسه بين يديه وجلس على عتبة الباب يردد:
- لعن الله الجوال و الفيسبوك والتحري وصحافة النت وكل ما يدور في فلكهم. كدت أحطم عائلتي. كدت أدمر مستقبلي. فتحت له الزوجة الباب واستغربت هيأته وقد قبض برأسه بين راحتيه كما يفعل دائما عندما تستغلق عليه الأمور. أسرعت الطيبة لنجدته وهي تندب حظها وقد اغرورقت عيناها دموعا:
- ما بك حبيبي؟ ماذا أصابك زوجي؟ "بالشبة والحرمل، وخمس وخميس عليك، وعين الحسود فيها عود". قال لها:
- سامحيني. لقد نزغ الشيطان بينك و بيني، وتعقد أمري، و داخ عقلي، وساءت نفسي. فأفوض أمري الى الله وحده فهو بي بصير وهو على حل مشكلتي قدير. ساعديني لأقف ولا تسأليني عما وقع فلن يستوعب قلبك الحنون ما جلبه لي هذا اليوم المشهود من احداث ولو سردت عليك كل تفاصيلها...


بقلم احمد علي صدقي
المملكة المغربية