الاثنين، 7 سبتمبر 2020

بقلم الناقدين دكتور رمضان الحضري والناقد حاتم عبدالهادي السيد

تجربة نقدية غير مسبوقة

تأخرت كثيرا لأن لكل ناقد وجهة نظره الخاصة 

وهكذا تنتهي الحملة النقدية التي تبدأ أول كل شهر .

**********************************

النموذج في الكتابة
( عبده الزراع )

********
فرق كبير بين أن يكتب الشاعر ما يمكنه وبين ما يجب عليه ، فحينما تسأل شاعرا لماذا كتبت نصك بهذه الطريقة ،فهناك أشكال ومحتويات أنجع يخبرك بأن هذا ما تعلّمه ، فقدم ما يمكنه ، فجعل نفسه معلما وهو لم يتعلم ، ونصب من ذاته شاعرا وهو لم يعرف ماهية الشعر
ولا وظيفة الشاعر ، حيث إنني أتذكر الآن ذلك الرجل الذي وقف تحت عمود للإنارة في السحر الأعلى من الليل يبحث عن مفتاح بيته فلما مرَّ عليه صديقه سأله : عمّ تبحث ؟ ، قال : أبحث عن مفتاح بيتي ، فقال صديقه : هل سقط من هنا ؟ ، فقال الرجل : لا بل سقط في الشارع الخلفي ، فسأله صديقه : إذن لمَ تبحث هنا ؟ قال الرجل : لأن المكان هنا مضاء بينما الشارع الذي سقط فيه المفتاح مظلم .
فالرجل يبحث حيث يمكنه أن يبحث والصواب أن يبحث حيث يجب عليه أن يبحث ، هذه تقدمة لكي أكتب عن شاعر مصر الكبير
وأديبها النبيل / عبده الزراع .
وقد وصلني ديوانه ( حمحم براحتك ) عبر صديقي الدكتور / رمضان الحضري ، فقرأت الديوان ، ومن القراءة كانت مقدمتي .
******
عبده الزراع أحد أساطين شعر العامية المصرية، وهو واحد من جيل ترعرنا فيه معاً، جيل يكافح بالشعر مدافعاً في وجه الزمان، حيث يصفو الشعر ، ويشفّ، وتكون الكتابة نزف في الوريد والشريان، وإذا كانت العامية المصرية هي أدب الشعب،فإننا نرى ذلك متجسداً عبر ديوانه الرائع : " حمحم براحتك" ، فهو ينشد الحرية عبر قلمه المضىء، وعبر شعره الذى يغزله من صوف روحه الشاهقة، وفى قصيدته : " طير المحبة طروب " نراه ينشد الأمل بعد مرار الألم، وينشد الحب والأحلام ليعبر إلى جسر الحب المضىء بقلبه العامر، فهو يغنى للذات، لنا وللوطن المجروح الجريح ،فهو يكتب ليهرب من الواقع المرّ الدامى ، من الموت بدون الكتابة، فالكتابة هي الحياة ، آخر نبض في شدو القلب الحزين 

،يقول :
ها كتب قصيدة جديدة
من دمى
ها كتب قصيدة جديدة
للأحلام..
ها كتب كلام على كل طير ويمام
عماّل يرفرف ف السما
وبروحه يرمى السلام
ع الأهل والخلان
......
شجر الكلام موزون
محلا الغنا ف الدندنة
من كل شكل ولون
ورّد المحبة حنون
ها كتب مدام عايش
والقلب نبضه شجون
......
ها كتب عشان أحىّ
عشان يحمى..
نبض الوطن ف الروح
كابسه الخلايق كابسة
على جرحنا المجروح
وإحنا ولاد الوطن...
ضايعين فى كل الدروب
طير المحبة طروب
ها كتب كمان..
ها كتب..
ها كتب عشان.. أبعد
أهرب بعيد جدا
م الاكتئاب..
م الموت..
إنه الشاعر الذى يكوثر المخيال لدينا، ويعبر بالحلم الدافىء إلى ذواتنا التواقة للحب والحياة ،فنراه ينشد الحرية للوطن السليب عبر قضيتنا المصرية العربية المصيرية، قضية فلسطين فنراه يستدعى شاعر القضية الكبير / محمود درويش ليحكى لنا أشجانه، يستنطقه بعد أن غيبه الموت ليقول ويعلن في إصرار : " إذا كان محمود درويش قد مات فإن هناك ألف درويش غيره، يقفون وراء القضية، وراء مقدرات شعب سليب، يمثل دم عروبتنا المراق، وهو الحلم الذى نتغياه جميعاً كعرب ومسلمين، بل وكل أحرار العالم لمحو هذا العار الذى يلطخ جبيننا، عار الإستعمار الصهيو- أمريكى الغاشم، يقول في قصيدته : " كان نفسه يكون عصفور " :
كان أخضر زى أوراق الزيتون
فى مواسم قطفه..
كان عطفه يفيض ويساع الكون
كان عقد الفل.. وطوق ياسمين
حوالين الوطن الأم فلسطين
ما قدرش ف يوم غير إنه يكون الشاعر
طالع زى الندى م (البروه)
خطاويه وخداه لمصيره
واختار الصعب يكون له طريق
كان قلبه ربيع بيضيع من بين كفيه
ما قدرش فى يوم يفصل بين حلمه
وحلم الوطن المهزوم..
ولا خاف من إنه يكون مطرود
من رحمه جنات صهيون
كان نفسه يكون عصفور .
ولنلحظ هنا جماليات الوصف عبر الصور الشاهقة، وعبر فرادة المعنى والمبنى لمعمار اللغة الشاهق الذى يستدعيه من قاموس الحب بروحه الشاهقة الجميلة، المحبة، والنازعة نحو الحرية والعدل ، وإذا كان السلاح يقاوم فإن الكلمة أقوى من البارود ، فهى الرصاصة التي يستخدمها شاعر ليمحق ويعرى الإستعمار الغاشم الكئيب .
وتبدو قضية الحرية دالإً مشتركاً بين قصائد الديوان الأشهى الذى تكتنفه مرارة آسنة، ووجع يحاول فيه الشاعر التحليق حول أرواحنا لينزع غلالة الحزن، ويعبر بالحلم / بالقارىء إلى آفاق أكثر جمالاً ، وتخييلاً فيتشارك القارىء معهفى الحلم والأحزان، ويندغم في جماليات صورة التي تحيلنا إلى واقعنا بكل ما فيه، فهو يعكس – كما أسلفنا – نبض الشعب، يقول :
عصافير طليقة بتعشق الأوطان
بتسيب ملامح وشوشها ع الشجر..
وبتستخبى م الخجل جوا الميدان
لجلن تعيد اللى اتسرق..
من حلمها..
يطلع هتافها شجن
وأنين بيسكن فى الضلوع
بترتب الأوضاع على كفوف البراح
وبتنطلق زى الصاروخ شايلة الجراح
ساعات بترجع للوطن
وساعات بتعجز ع الرجوع.
وتراوحقصائد الديوان بين موضوعة الوطن كمفردة تتقاطع في أغلب قصائد الديوان، وبين المحبوبة / الحلم، الأمل السعيد الذى يتغياه، ويحاول أن يرسمه لنا عبر صور متراتبة، تمنطق العقل، وتفلسف الوجود والحياة والكون والعالم، فهو المحب العاشق للحياة، فنراه كعازف أرغول وحوله العالم يعزف له اغرودته الجميلة ، يقول :
هو انت فاكرانى استويت
ولا انتهيت..
ولا الهوى شخلل جرس قلبى
أنا فعلا الأحلام خديتنى لمنتهاكى
ورسمت ورده ف عروتك
وقعدت جنب رموشك الهفهافه
أنتظر اللقا..


ولعلنا نلمح طزاجة اللغة عبر بصمته الشاعرة التي تستلب المخبأ في وجيب الروح، وتقطف الجمال من خد الورد ، وتأخذ بقلوبنا إلى آفاق أكثر جمالية وطرب ، فننشد معه أغنيات الفرح الشهى للشعرية الباذخة التي تخشّ إلى القلب عبر موسيقا النور العابرة إلى مرافىء الروح ، ومزهريات الورود، وضوع العطر من ياسمينة الحياة المزغردة، يقول :
معقوله زي الشجر بترقي وتميلي
 ريحك بنفسج عطّر المواويل
 والناي بيعزف لحنك الطازه
 وانت رموشك ليل..
 ولقلبي أجمل دليل 
 مين إللى علم خطوتك لغة التمرد؟
 والانحياز للتفرد 
 مين إللى فجر دهشتك قناديل؟ 
 يا رقة العصافير.. 
 وزقزقات الطير
 خليني أدخل مهجتك..
 واستهجي طلعتك
زي القمر ف الليل
 معقوله زي الشجر.. بترقي وتميلي
إنه الشاعر الذى يعزف قطيفة الجمال من روحه النضرة الخصبة التي
تنشر العذوبة والرقة حينما يشاء الشاعر ذلك ، مما يجعلني أقول أن عبده الزراع لا يمتلك أدواته فقط ، فليس كافيا أن تمتلك الأدوات ولكن الأهم من ذلك هو كيفية استخدامها ، فهو يمتلك السيطرة على عقل المتلقي ، وقلة من يفعلون ذلك ، ولذا فحينما يحصل على جائزة الدولة التشجعية نقول إن الجائزة هي التي فازت به ، ليكون سطرا من ذهب
عبر تاريخها .
بقلم الناقدين :
حاتم عبدالهادي السيد
د / رمضان الحضري .
القاهرة في
6 من سبتمبر 2020م

هناك تعليق واحد:

  1. الله على الجمال مودتى
    حاتم عبدالهادى السيد

    ردحذف