السبت، 5 سبتمبر 2020

محمد سالمان

1/ 3 من دفتر الذكريات 

فى أوائل عام 1992 ، كنت قد اخترت  ( فلسطين فى الشعر المصرى المعاصر ) موضوعا لدراستى للماجستير ، تحت إشراف الاستاذ الدكتور يوسف خليف  ،و د /عبدالله التطاوى ، وكلما تحدثت مع أحد الأصدقاء أو الاساتذة عن الموضوع يحيلنى إلى كتب د/ كامل السوافيرى ( 1914 - 1992) ، هو أستاذ للأدب العربى الحديث  ، فلسطينى الجنسية ، تخصص فى تلك الكتابات والدراسات ، عرفت أن د/ كامل يقيم بالقاهرة ، حصلت على هاتفه ، واتصلت به ، عرفته بنفسي وبدراستى،  رحب الرجل ودعانى للقائه فى العاشرة من صباح يوم الجمعة بكافيتريا غرناطة بمنطقة روكسي بمصر الجديدة،  التقيت بالرجل وسط مجموعة من كبار الأدباء والنقاد والشعراء ، عرفنى يومئذ بالدكتور محمد عبدالمطلب ، ود/ عبدالقادر القط ، والشاعر حسن فتح الباب ، عبدالمنعم عواد يوسف ، شوقى هيكل ، عبد البديع عراق  رشاد يوسف ،وغيرهم ممن ارتبطت بهم بصداقات عميقة وتوطدت علاقتى بهم جميعا .
غرناطة حديقة واسعة بميدان روكسي ،تشرف مباشرة على طريق المترو ، خط رمسيس - النزهة ، بها كافيتريا،  تضع الكراسي المصنوعة من الخوص تحت ظلال الاشجار ، بها جدول صغير للمياة ، تدخلها صباح الجمعة ، تعتقد أنك فى ندوة أدبية كبرى ، المكان ممتلء بشعراء ،ونقاد ،وكتاب،  تسمع قصيدة والتعليق عليها،  تسمع حوارات ،وآراء حول كتاب جديد أو مقال منشور ، أحاديث فى السياسة والأدب والاقتصاد .
ورغم أننى اصغرهم سنا وأقلهم خبرة وعلما،  فانك تجد تشجيعا لصوتك أو تصويبا لرأيك بهدوء وإقناع. 
د/ كامل السوافيرى  ، ابيض الوجه ، تعلوه صلعة،  ممتلىء الجسم ، حاضر الذهن ،يرتدى دائما بدلة كاملة تزينها رابطة العنق ( الكرافتة) ، تشعر بأبوة حانية معه ، لا يبخل بمعلومة،  أهدانى معظم كتبه ، كلما رآنى قادما من بعيد أشار إلى وأفسح لى المجلس ، ألتقط أنفاسي من وعثاء السفر ،وأسمع بعضا مما تيسر سماعه من آراء ونقاشات ، ثم نقوم معا ، ناخذ جانبا نتبادل الحديث حول الدراسة .
ذكر لى د كامل ذات يوم أن من أفضل الشعراء المصريين الذين تناولوا القضية الفلسطينية شاعر غير معروف ،  للعامة ،وربما للمتخصصين أيضا رغم إنه صاحب أول نشيد قومى لمصر ، محمود محمد صادق !!
كنت أول مرة أسمع بهذا الرجل ، ظننته حيا ، لكنه قال إنه متوف منذ سنين ، وأردف قائلا : إن لهذا الرجل قصيدة ملحمية طويلة بعنوان ( رسالة الشعر القومى إلى العالم العربى والشرق  ، مرثية المراثى فى مأساة المآسي ) عدد أبياتها 377 بيتا من بحر الخفيف ، وقافيتها نون مكسورة ، طبعتها دار المعارف المصرية بالتعاون مع الجامعة العربية  عام1949 ،ولكن بكل أسف ان تلك القصيدة غير موجودة بدار الكتب المصرية ، ولا بمكتبة الجامعة ولا حتى بمكتبة الجامعة العربية ! 
ظننت أن الرجل يبالغ فى ندرتها ، فى اليوم التالى ، ذهبت لدار الكتب ،وبالفعل لم أجدها ، ركبت إلى مقر الجامعة العربية بميدان التحرير ، وبصعوبة بالغة دخلت إلى المكتبة ، ولم أفلح فى الحصول عليها ، فليست القصيدة ضمن مقتنيات المكتبة !!
فى الجمعة التالية ، صارحته بالأمر ، معتذرا عن سوء نيتى،  واتهامه بالمبالغة،  ضحك د/ كامل ،وقال : هى عندى بالبيت وعليها الختم الازرق لحكومة عموم فلسطين ، واصطحبنى الرجل من كافيتريا غرناطة إلى بيته بشارع بطرس غالى والذى يبعد نحو مائة وخمسين مترا من الكافتيريا ،  صعدنا معا على درج السلم حيث يسكن فى الطابق الثانى .
أعطانى القصيدة كى أصورها صورة ضوئية ، طالبا نسخة مصورة أخرى له .
ولتبدأ حكاية جديدة مع شاعر ظلمته الدولة، وظلمه الناس، وظلمه أهله،  واهمله النقاد ، ولذلك حديث آخر .


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق