من دفتر الذكريات
عدت الآن من شارع الحمزاوى بمنطقة الأزهر بالقاهرة ، وشارع الحمزاوى يبدأ من شارع الصاغة بجوار مسجد الأشرف برسباى ،وينتهى عند مطلع كوبرى الأزهر، الشارع ضيق ربما يصل عرضه لثلاثة أمتار و بطول نحو 100 متر ، وقد أنشأه الأمير حاتم الحمزاوى أحد أمراء السلطان سليم الأول، والمنطقة كانت قديما أحد أسواق الرقيق بالقاهرة ، يشتهر الشارع - الآن - بتجارة الاقمشة بمختلف أنواعها، عندما تركت شارع الأزهر الرئيسى، ودخلت شارع الحمزاوى ، تذكرت الحاج سيد محمد عاشور واحد من أهم تجار المنطقة ، ومن العلماء الذين لا يعرفهم أكثر الناس .
تعود معرفتى بالحاج سيد إلى عام 1991 ، عندما نشرت صحيفة الاخبار حوارا معه ، فوجدته موسوعة معرفية كبرى ، ينبغي الحج إليه والجلوس بين يديه .
الحاج سيد - رحمه الله - متوسط الطول ، تعلو رأسه صلعة كبيرة ، جسمه يميل إلى النحافة ، ربما من أثر الشيخوخة التى نخرت عظامه ، عندما تدخل إلى متجره ، تجده جالسا على مكتب صغير أمامه ثلاثة كراس للضيوف ، لم أذهب إليه يوما ما إلا ووجدت بين يديه أساتذة كبار وطلاب علم ، يشرح لهم الحاج سيد مسألة لغوية ، أو حدث تاريخى، يبهرك وهو يتحدث، ذاكرة قوية ، وحجج دامغة ، معرفة بدقائق اللغة ، فضلا عن العادات والتقاليد .
كان الحاج سيد من مواليد مدينة بلبيس بالشرقية فى العقد الثانى من القرن الماضى ،وتقريبا من مواليد 1916 ، تخرج فى كلية التجارة عام 1937 ، تربى فى حارة اليهود بالقاهرة ، أجاد لغات عديدة منها : الإنجليزية ،والفرنسية ،والألمانية ،والسريانية ،والكلدانية، فضلا عن العبرية التى أجادها بطريقة لا مثيل لها وأتقنها كأهلها، و له علم ودراية بكل أسرارها ودقائقها، حتى أن الخارجية المصرية كانت تستعين به أحيانا فى المحادثات المصرية الإسرائيلية ، باعتباره من أكثر الناس اتقانا للعبرية ،ومعرفة بأصول الديانة اليهودية .
كانت مكتبته أكثر من خمسة وعشرين الف كتاب بمختلف اللغات ، جمعها الرجل من بلاد عربية وأجنبية ، وبها بعض المخطوطات النادرة .
للحاج سيد العديد من المؤلفات ، كان يرفض طباعتها ، طبعة واسعة ،ولكنه- رحمه الله- كان يطبع منها ثلاثمائة نسخة ويقوم بإهدائها لمريديه، من تلك الكتب : بلبيس أرض الانبياء والرسل ،، الربا عند اليهود ،،مركز المرأة فى الشريعة اليهودية ،،الصوم فى الشريعة اليهودية، ،التبنى فى الشرائع السماوية ،،الختان ،، صناعة وتجارة الاقمشة فى مصر ( جزءان) ،، أصول الكلمات العامية ( معجم ) ....وغيرها
ذكر لى يوما ان مخازن الغلال الخاصة بيوسف -عليه السلام- بقرية( غيتة ) ببلبيس، وهى معلومة أكدها لى د رأفت الشيخ - عميد آداب الزقازيق الاسبق- .
لم يكن الحاج سيد متزوجا ، كان زاهدا فى الدنيا ، عزوفا عن مفاتنها .
لم أدر أين ذهبت مكتبته بعد وفاته ، وما مصير المخطوطات التى كانت بها .
جلست إليه ذات يوم وقد أراد أن ينصحنى قبل سفرى ، فقال : استمع أكثر من أن تتكلم، فاللوم على الصمت أيسر من اللوم على الكلام .
سألت البائع اليوم عنه ، ربما كان يعرفه ، فقال : رحمه الله هو الذى ربانى وعلمنى ، كان مدرسة كبرى ، و أصر الرجل أن يحتضننى وأن أشرب معه فنجان قهوة رغم تعللى بضيق الوقت ، لكنه قال : ستشرب القهوة ، ذكرتنى بالأيام الحلوة إللى بتخفف عنا مرارة هذا الزمن .
حملت أمتعتى ،وغادرت شارع الحمزاوى، وأنا أقول : رحمك الله يا حاج سيد .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق