الأحد، 11 يونيو 2023

 على حافة النقد


دراسة وتحليل هشام آل مصطفى




عاطفة اللفظة

في قصائد تقاوم اللغة الحاكمة ( )

هشام آل مصطفى الجاف.بغداد

                                                                

تأطير

حينما تحفر في خرائط الابداع المغترب تجد رموز الوعي في ذاكرة الشاعر عبر التقاطه لمعاناة جذوره المترسخة في وطنه .. بواسطة مجساته الواعية المرتبطة بنهاية اللاوعي.. من مجاهله التكوينية السابقة , المنسجمة مع اسقاطات المعاصرة تحت خيمة بلده الجديد.

ولعل قصيدة (مونولوج البصلة) للشاعرة سو كووك كيم تعطيك خلفية تاريخية لثمرة ذات معنى خاص في ـ كوريا ـ والتي جعلتها اطارا خاصاً للقصيدة , تحاول ترجمة صور الذاكرة الطافحة من شرفات الماضي ـ في الوطن ـ الى معادلات شعرية تستقي دواعي اشراقها من شروط اليومي المعاش (في غربتها الامريكية) , اليومي الذي يضج بنكهة الحياة اللاذعة حسب قول الشاعرة , لتفك طوق عزلتها ما بين اللسان والجذور واللغة الجديدة ـ (الانكليزية هنا) ـ وما بين أرشيف الكلمات الأُولى التي وضعتها في وطنها الأصلي , محاولة تصوير السلسلة الحاكمة (آنذاك) ابان الحرب , حيث يمنع جنود الاحتلال ـ الامريكي ـ , وحرس الحدود للدولتين الشقيقتين في المنطقة الفاصلة بين الكوريتين , يمنعون المواطن الكوري الذي قسمت الحدودُ شطري عائلته , من اللحاق الى الجانب الآخر (المستحيل) بالنسبة إليه .

مرجعية البصلة

وهكذا يتم عزل الشمالي والجنوبي , بواسطة علم الأُمم المتحدة الذي يحرسه الامريكيون والجنود الكوريون (الجنوبيون والشيوعيون) للقيام بنفس الواجب للتعرف على ـ المواطن ـ الهارب من (بلاده) الى (موطنه) , من الشمال الى الجنوب , أو بالعكس من ذلك وذلك بالنبش عن لسانه والبحث عن لكنته الكورية بالنطق بكلمة (البصل) ليتم معرفة المواطن الأصلي وتمييزه عن المهاجر (التبعية) , حيث تختلف ـ اللفظة ـ بين البلدين كاختلاف (الشيوعية) عن (الرأسمالية) , اذ تُلفظ في الجنوب بلهجة أقرب الى ـ الفيتنامية ـ , اما في الشمال فتُلفظ بلهجة أقرب الى الصينية , فتتم معرفة (الخونة) المتسللين , وقد يصل الأمر الى اعدامه بتهمة التجسس او العمالة للعدو ـ الامبريالي ـ أو الشيوعي ـ حسب قيم الدولتين ..

الشاعرة

لنعد الى الشاعرة الهاربة من الجحيم الى المنفى الامريكي , لتكتسب لغة انكليزية جديدة , ولكن بلكنة كورية , وقصائدها الجديدة تركز على المقارنة بين الحضارات واستعمالها للجملة وترادف الكلمات بتداولية غريبة مثيرة تدفعك للتأويل , لتؤكد مرارة الضياع ما بين الصلة الأُولى وقلق عدم الانتماء . هذا الشعور السحري الذي يعانيه الشاعر المغترب, فتجد شعرها يتماوج ما بين اللهجة واللكنة , حالها حال الامريكيين من أصل صيني أو ياباني أو كوري فيتنامي .. ومحاولتها في الاندماج مع العالم الجديد بتقاليده الغريبة عنها , وانغماسها في (حتى الاسى) كما ورد في احدى قصائدها , بتشفير وطلسمة شعرها المتدفق رمزاً وانتماء , والمتموج (ذاكرة) بين الماضي الموجع , واللحظة الآنية ضمن الجو الآلي المدهش لأمريكيا والعولمة و .. الكونية .                          هذه هي القيم والرموز الايحائية التي تتسم بها قصائدها في ديوانها الأول                     (ملاحظات عن شاعر منقسم , في بلد منقسم) , الفائز بجائزة والت ويتمان العريقة لعام 2003 . 

والشاعرة (سو كووك كيم) تدرس الماجستير ضمن بعثة فولبرايت / واشنطن برسالة عن الشعر الكوري وأُصوله التاريخية . وقصيدتها (مونولوج البصلة) مترجمة من قبل                   مرح البقاعي عن مجلة ( Hiهاي) الامريكية في ت2 / 2005 ضمن العدد 29 .. ننشرها هنا لنؤكد تلك القيم التي تحدثنا عنها آنفاً. 

القصيدة

البصلة تخاطب الانسان الباحث عن وهم الحقيقة وهو يقطع أوهامه بسكين ذهنه , والدموع تملأ عينيه : (انا البصلة الحرة .. داخلي ينم عن خارجي) , (كما القشرة .. كما القلب) . 

يبدو ان الحقيقة واحدة .. كما في القشرة , هي في القلب , في الجوهر , وفي مظهرها الخارجي , لتصفع ـ السلطة الحاكمة التي تبحث عن اللهجات واللكنات وطريقة التلفظ , وحتى السلطة الكونية تدوس بعجلاتها (ذكريات) الإنسان وارتباطه بـ (سرة) الأرض..

قصيدة (مونولوج البصلة) شعر سو كووك كيم من ترجمة مرح البقاعي عن مجلة                    ( Hiهاي) الامريكية , عدد 29 في ت2/2005:

[لم يكن قصدي ان ابكيه

في الحقيقة لم أقصد شيئاً

لكن هذا أ لم يمنعهم من سلخ جسدي

طبقة إثر طبقة

الدموع تغشى عينيك

بينما تنوء المنضدة بالقشر وقطع اللحم

وكل لوازم الوجبة 

مسكين أيها الانسان المضلل 

انت تغور بسكينك

باحثاً عن قلبي

عمّق الشق ما شئت 

كلما فتحت جلدي , دائما ستجد جلداً آخر

أنا البصلة الحرة

داخلي  ينم عن خارجي

كما القشرة كما القلب 

انظر الى نفسك ألّا تبدو أبلهاً 

وأنت ماضٍ في القطع وماضٍ في الدمع

أ هذه طريقتك وأنت تمضي في الحياة؟؟]


بين البقدونس ..

تنبثق المعاناة مع السلطة الغاشمة( )


هشام ال مصطفى الجاف

                                                             بغداد

الادب الأسود

اثناء مطالعتي لقصائد أمريكية جديدة في الملحق الأدبي لمجلة نيويورك تايمس العريقة ـ عدد  8 لشهر .. ت2 /2005 ... صدمتني قصيدة "بقدونس" للشاعرة الامريكية                      ريتا دوف , وتحت باب الأدب الأسوَد ـ للأمريكيين الأفريقيين...جذبتني القصيدة لغرابتها وحداثة شكلها الفني , وتنوع محتواها الثري , وبعد التحري علمتُ بأنها جزء من جماعة ـ المتحف ـ التي أصلحت أرشيفا للنبش عن تاريخ السود في امريكا , فاستحقت لقب كبيرة الشعراء في امريكا , اذ أطلعتْ القارئ على حقائق مخيفة تصل حد الخرافة او الاسطورة كما وصفتها مُعدّة الملحق الناقدة أميلا سمث , التي اعتمدت كتاب ـ النقد الاسود ـ الصادر عام 2003 للكاتب الكندي ((الأفريقي الأصل)) جورج أليوت كلارك , والذي يقول : ((العبودية جردتنا من لغتنا , من ديانتنا , هم قالوا لا تعزف موسيقاك , ولكن بطريقة او بأخرى , استطاع السود استعادة الكثير من ثقافتهم الاصلية وقوتها .. ببساطة أنتَ                  لا تستطيع تدمير كل شيء في الانسان)) . وهكذا نستطيع فهم سيطرة الايقاعات الافريقية على موسيقى الجاز , والادب الاسود على بعض جوانب الابداع لتجاوز العقدة                            ـ الزنجية العبودية ـ التي أجبرت الملاكم العالمي محمد علي كلاي ((كاسيوس كلاي)) سابقاً , على الصراخ [ أنا حر ... أنا بطل العالم , الحر ] لإثبات وجوده ضد عقلية العبودية .. التي كانت مسيطرة سياسيا واجتماعيا على امريكا , سابقاً , في الستينيات ..

نبذة عن أوليات البقدونس

حسب الشاعرة جاكلين سلام ـ السورية المقيمة في كندا ـ ومقالتها المنشورة في ألف ياء الزمان الدولية للعدد2258 في 14 / ت2 / 2005 , تشرح لنا مرجعية كلمة البقدونس :  في الثاني من اكتوبر 1937 أعدم الحاكم الدكتاتوري تروجيلو أكثر من 20000 (عشرين ألف) زنجي بالساطور ـ الطريقة الخرافية للموت ـ ما بين هاييتي والدومينيكان, وذلك حين تم اجراء اختبار صوتي على تلك الجموع من العوائل بإجبارهم على نطق كلمة ـ البقدونس ـ ليتم التفريق ما بين زنوج الدومينيكان الأصليين , وزنوج هاييتي الذين سيعدمون , إذا نطقوا بلام " البقدونس" (بالاسبانية) , وقد يعيشوا اذا نطقوا (الراء) في الكلمة . هؤلاء ستشهد عليهم لهجتهم عند النطق وتحكم عليهم الكلمة بالموت او الحياة.

القصيدة 

[الشمس تعقم التاريخ / من أنت ـ نحن ـ أنا / لم أُضع طفولتي / قد يضيع كلامي/ الكلمات الحكاية ليست كفاية / أنا اخط الهوامش بدقة عالية ,/ كي لا يعرف أحد من أين اأتيت / من راء البقدونس في هاييتي أعيش / وبلام البقدونس في هاييتي اموت / من لام البقدونس والراء في دومينيكان أحيا     وأموت / انا احب لهجتي / انا السمكة التي عجز جدي عن امساكها / السمكة السوداء / وانا اعرف من اين أتيت / الراء واللام في بقدونس / حياة أو موت] . 

هكذا تصور " ريتا دوف " بقدونسها الخالد في ـ متحف ـ فقدانها للغتها السوداء الضائعة في ذكريات السلطة الغاشمة التي تقتل وتفتك بشعب ـ تبعية ـ بسبب حروف الشهادة الجنسية ( أ , ب , ج)( ).

ان وميض الغربة يلاحق الشاعرة كطفل رضيع أدمن حلمة أُمه , بيد ان ـ السلطات ـ الحاكمة الغاشمة تكبح ـ الروح ـ لتلامس العقل في ظل عولمة كونية .. 

قد يكون الحل مستقبلاً ان تسير الكونية نحو حوار الحضارات لا تصارع الحضارات.   


قصيدة معاصرة 

ذات ابعاد فوق قومية , ولغة كونية مغايرة


هشام آل مصطفى الجاف

الشاعرة

بين أيدينا قصيدة ذات إيقاعات ملونة , تتحدث بغرابة عن حدث اعتيادي بلغة فنية سامية لشاعرة بولندية الأصل .. أمريكية الجنسية هي " فرجيل بيالوسكي" . 

ـ ولدت الشاعرة في (أوهايو) ودرست بجامعتها حيث نالت ماجستير الفنون من جامعة     (ايوا) و(جونز) . 

ـ للشاعرة " فرجيل بيالوسكي" العديد من المجموعات الشعرية , منها : 

((نهاية الرغبة عام1997 , وما تحت الأرض عام 2001 ))

ـ نالت العديد من الجوائز آخرها جائزة اليوت كولمن للشعر.

ـ تعيش اليوم في نيويورك مع زوجها وابنها حيث تعمل محررة أدبية في مؤسسة                   (نورتن وكومباني) للنشر . 

ـ مصدر هذه المعلومات مجلة (Hi) هاي الأمريكية 28 لشهر كانون اول عام 2005 , ترجمة مرح البقاعي ..  

القصيدة

(موت التفاحة) هذه القصيدة تتحدث بلون شعري غير مألوف , وبصور ايقاعية مؤثرة مثلما في المقطع الآتي :

(" ثم يسقط ـ وهج الشمس ـ على الحديقة الصيقة").

(" فيسري ببطء في أوردة شجرة الكرز") .

لغة المقطعين لغة تلمع مع وهج أشعة الشمس . وبالرغم من ذلك فهي تفاجئك بالنقيض , إذ تصدمك بـ /

("زهرة العسل قد ذبلت والكروم تموت على مهل" " وقد ضاق بي المكان") .

هكذا تذبل الصورة وتتلاشى البهجة /

("نجمة ترتسم من بذور تفاحة" "قد شطرها سكين" "فتعرض لحمها لانعكاس العناصر").

بذلك تصف " موت التفاحة " وشطرها بالسكين ليتعرض لحمها لانعكاس عناصر الحياة والموت .. انها لوحة فنية متناسقة تشهق بالألم حيث تتمثلها , إذ تأتيك النهاية البائسة ..

("البارحة جمع ابني البذور السبع 

ونثرها على تراب الحديقة

دونما اكتراث بألمي") .

والبذور السبع رمز حياة " ثمرة " ذبحها الابن لينشر " بقاياها " على التراب وهو                           لا يكترث لألم الوالدة , التي كانت تتمنى رؤية (تفاحتها) معلقة وهي في أُوار نضجها تحت نور الشمس البهيجة , بيد ان "عالم الجريمة , قد حرمها من رؤية الضوء يتدلى على الثمرة المجروحة! , فشعرت بالخيبة من فعلة ابنها ..

اما لماذا سبع بذور؟

فهي كناية عن رموز الهيكل ذي الأعمدة السبعة , او تعبير عن الايام السبع للتوالد والتكاثر ومسيرة الحياة..

ولعل الشاعرة ارادت تصوير سوء سلوك وتصرف ابنها لتعلن نهاية حياة ـ الثمرة ـ كما يخطئ السياسيون لينهوا حياة البشر بتصرف أرعن من دون الاكتراث بالالم البشري.... ربما ـ رموز القصيدة ـ تخص عودة " وعيها للشغف " ببلدها الأصيل حيث                                ـ موت الكروم ـ وذبول الزهور ـ في بولندا ابان الدكتاتورية .. غير ان شقتها الحالية                     " بلدها الحالي " قد ضاقت بها , لعدم تحقق احلامها البسيطة في اكتشاف : 

(" معنى ان ترى الثمرة معلقة ... وقد قاربت النهاية") .        

فللشاعرة ـ في القصيدة ـ رغبة أكيدة لرؤية الثمرة :

)"حين تسقط عائدة الى سرير الأرض الدافئ  ـ الأرض الأُم") .

فهل هي في شوق ولهفة للعودة الى أرضها الأُم .. "وطنها الأصلي" , أم ان الكونية أخفت أحزانها بأبعاد فوق قومية .. 

الشاعرة " فرجيل بيالوسكي" , وبلغة عالمية تتحدث عن آلام التفاحة ـ الحياة  , وعن حقيقة كونية " العولمة الظالمة " واستمرارية الحياة بالرغم من المعاناة التي تحسها ببلدها الجديد.

الاثنين، 5 يونيو 2023

محمد الدليمي

 الاسم المشتق( المصدر الصناعي ) : أحب أن أفسر هذه اللغة العظيمة وما يجري على ألسنتنا إلا لتظهر ما في قلب الإنسان من نية أو فعلا يريد القيام به، وأخص بالذكر هنا ما كان مصدرا صناعيا، وما كان بقية من المشتق، وأيضا يشملها هذا الحديث ما جعلك تتوهم به؛ فالغتنا العظيمة فصيحة بائنة لا تقبل الغموض، بل لا ترضى بغير الفصيح البائن. 

وقد اشرقت الأرض بنور ربها وأنزلت اللغة العربية، بائنه على محتوى الحياة الدنيا ، فلا معنى يشاكل معنى ولا لفظ يعاضد لفظ أخر ولا يشتركا بالقسمة مع بعضيهما ، وحجتنا في قوله تعالى ( إنما أمره إذا أراده شيئا أن يقول له كن فيكون ) فلو اشتركا بأحد طرفيها لأختلط الأمر على المأمور . 

فلفظة ( جمهورية ، مظلومية  ) كلها لا تنبئ عن حقيقة وإنما تنبئ بعض من معناها؛ فيحتاج الإنسان إلى تأويل اللفظ حتى يظهر مبتغاه ولا يصل إلى معناه الحقيقي بالبته. 

وهذا ما يسمى بتحريف المعنى عن أصله كي نصل لمفهوم نتعامل به، فقولك جمهورية لا تنبئ إلى شيء تقصده من خلال اللفظ وإنما ستسقط عليه حجة الأشتراك بالأمر ، وهذا يقودنا إلى أمر الشورى الذي أمر الله به، والشورى تكون لمن لهم العلم والسلطة ( فهي نافعة لا ضارة ) أما الجمهورية فهي اشتراك الناس جميعا في الأمر  ( ضرها أكبر من نفعها )، هذا من وجه اللغة، وتقع المظلومية، بوقع الظلم على أخر فنقول مظلمة ومظلومية فلان ويراد بها تأويل اللفظ كي نفهم ما المقصود لأنها مشتقة من اسم المفعول مظلوم مضاف إليه ياء النسب، وهو مصدر صناعي،  وهذا ما يجعل الأمر أكثر اشتباكا وأكثر  جهلا لمن استفقد المعنى الذي لا يصل لقراره أو معناه الحقيقي. 

ولمفهوم المعنى عن اللفظ فلألفاظ التي كست المعاني فهي أما ثلاثي أو رباعي أو خماسي، وكلها حروف أصلية، أما المعاني الظاهرة على اللفظ وتسمى ألفاظ المعاني، كأخواتها التي يظهرها السياق من ألفاظ الحروف الأصلية ( الثلاثي والرباعي والخماسي والسداسي وهو قليل  كاستحوذ) ؛ فيظهر المعنى على اللفظ فينشئ فضاء خاص به، فكلما لحقته بالحقيقة المبتغاة ظهر إليك معنى أبعد وهكذا. ولنضرب مثالا كثير الأستخدام ( الجاهلية ) مصدر صناعي مشتق من اسم الفاعل ( جاهل ) ، فلو فتشنا عن معنى الجاهلية ما استقرت لمعنى بالبته ، ولكن لو فتشنا عن الاسم المشتق جهل لفهمنا إنه لا علم له، وفهم السامع ما تريد قوله عنه. ولكن قولك رجل يعيش في الجاهلية لن تستقر لمعنى ولن تجد لهذه الجملة من قرار.

لغتنا العظيمة لا تقبل الغموض ولا تقبل التأويل للوصول للحقيقة الجزئية، وإنما تقبل الفصيح الواضح البائن .

وقد جرت عادة الإنسان على تهويل ما يصوره للناس، فيبدأ باستخدام ألفاظ المصادر الصناعية المشتقة ، أو باستخدام اسم الألة الذي يحتاجه في تهويله؛ وهذا ما يسمى الكذب المبالغ فيه.

كانت العرب منذ القديم تنبئ بفراستها لمن علم اللغة وتعلم علومها فهي تلك الألفاظ نفسها التي نستخدمها اليوم، كان في القديم يستخدمونها، وبما إنها لغة الوحي فهي تنبئ عن صدق كلامك من كذبه ، بل الأكثر من ذلك فهي تنبئ عن شخصيتك التي تتحاور بها للأخرين كله من خلال الألفاظ التي يستخدمها الإنسان لأخيه الإنسان الأخر.



محمد الدليمي 

الأحد، 4 يونيو 2023

د. أمال بوحرب / الإمارات العربية المتحدة.

 مختارات نادي رؤى النقد والمسابقات 

                  * مقالة نقدية *

- الإبداع في الرواية بين الألم والخيال.



——————————————————

يقول "ثيودور أدورنو" (بالنسبة للإنسان الذي لم يعد لديه وطن تصبح الكتابة مكاناً له ليعيش فيه).

الكتابة... من منا لم يسأل نفسه ذات يوم لم أكتب؟

ولم يستهويني هذا القلم؟

 لعل الكتابة تتدحرج إلىأقاصي المحن الوجودية بكشف التباسات الحياة وتقنّعات الموت الذي يُعَدّ ظِلًّا للحياة في لوحة يكتمل فيها التمثل يشبّه كينونتنا بوجود الليل والنهار، وأنها تكمن فقط في ذلك الشفق الغامض الوهمي والهارب بين ذكرى النهار وتوق الظلام نهاية الشمس واقتراب الشمس من النهاية، وأن اكتشاف متعة اللانهائي في حلقة حلزونية تستبعد فكرة التحديد أو النهاية، إذ إن السارد يحلم دومًا بالحصول على موطئ قدم شيء ثابت، و تنتابه كلّ تلك الكرب عندما يعي سجنه في الحياة بؤس الـمنفى في أسوأ معنى مـمكن له هو ما يدعو السارد إلى ألَّا يتوقّف أبدًا في أن يكون هناك حيث لا يتحقّق وجوده في مكان محدَّد، أو في أماكن أخرى نوع من الطوباوية في سعيه إلى التهرب من منفى العيش وقلق الحياة، لذلك تستتبّ فكرة الـموت عند “بلانشو” (لتكتمل الصورة الناقصة للوجود، وهذا شكل من أشكال الألم، فكيف به أن ينتج فكرة إبداعية في هذه العلاقة الجدلية بين المشاعر والواقع؟). 

يشكل "الألم" في نظرية الإبداع الأدبي القيمة الأشد توترًا تجربة ورؤيا لدى المبدع، وأداة إمتاع ومؤانسة لدى المتلقي، ويتضاعف تبئير "الألم" في الأعمال السردية والرواية خاصة من حيث إن لها طولًا معلوماً وزواياً نظر مختلفة، بيد أن تجربة هذا "الألم" وإن كانت منطلقًا لسرد الأحداث وتنامي مقومات المتون الروائية سرعان ما تزداد عمقًا، أو تخفت حسب كل تجربة إبداعية، لاسيما عندما يتناغم الكون التخيلي للروائي مع الأحداث الواقعية، وبالتالي تتعمق إشكالات التلقي وفواصله بين حدود إمتاع القارئ وممكنات عيش الألم.

إن القول أنه بالإمكان إمتاع القارئ بالحديث عن الألم نفسه تتفاوت فيه الرؤى، فالإبداع فضاء رحب يحتمل كل ما فيه من انزياح أو عدول، حتى لو تعلق الأمر بالألم ذاته، وعلى سبيل المثال لا الحصر فروايات فيكتور هوغو — وخاصة "البؤساء" — ما تزال تمتع القارئ رغم سوداويتها ومأساويتها.

كما أن الروائي الأميركي المشهور "ستيفن كينغ" ألف أروع روايات الرعب  وأوقعت المتعة لدى القارئ بالرغم من أنها مؤلمة ومخيفة، وكل من قرأ رواياته لن ينساها أبدًا، بل إنها تغري بإعادة قراءتها مرات ومرات، ذلك أن روايته "صمت الحملان" خير دليل على إمتاع ملايين القراء وبعدهم ملايين المشاهدين عقب تحويلها إلى فيلم رعب، والشيء نفسه ينطبق على روايات "دان براون" مثل "شفرة دافنشي"، و"الحصان الرقمي"، و"ملائكة وشياطين"، و"الرمز المفقود" واقعية، و"الجحيم"، وغيرها... لذا فالكاتب الحذق هو الذي يحول الواقع المؤلم إلى أعمال روائية تخيلية تجعل فعل القراءة مدخلًا ممتعًا لخلق الدهشة والغرابة لدى المتلقي.

إلا أن كل كاتب يؤمن بلحظة ولادة إنسان جديد شديدة الألم ومنتجة للحياة مع كل كتابة، وهو أيضًا جزء من مسار حياة لا ينفصل عنها، لذا فالأهم لديه ليس الألم في حد ذاته، وإنما المستويات السردية وتنوع صيغ الحكاية، فعندما تحضر مواضيع معينة في الرواية، مثل سلب الحرية أو الموت أو العنف، فإنما يتم استحضارها كقيمة جمالية وأنثولوجية خلال الكتابة.

إن ذات الروائي واعية ومدركة تتأثر وتؤثر في محيطها الاجتماعي، وهو بالتالي حامل ومعبر عن مشاعره أو مشاعر المجتمع الذي يعيش داخله، سواء أكانت مشاعر الحب أم الألم أم اللذة أم الوجع أم غيرها من المشاعر الحاملة لهموم الفضاء المعبر عنه.

 سأقول، ولأول مرة سأطرح نظرتي بكل تجرد وواقعية وتصريح، إن الرواية ليست هذيانًا كما قد يتوهم البعض، فأصالة الروائي أنه صاحب صنعة بديعة يوجه عبر آليات تواصلية معلومة رسالته إلى المتلقي قصد تطهيره والتأثير عليه بصفته كاتبًا مسؤولًا وواعيًا بما يكتب في ظرف معين هو زمن الكتابة، نحو قارئ واع ومسؤول في ظرف معين هو زمن القراءة، وتفاعل هذه الأزمنة داخل الرواية يجعل منها خطابًا ملتزمًا بمسؤولية ممكنات فعل الكتابة.


د. امال بوحرب

الإمارات العربية المتحدة.