الثلاثاء، 24 سبتمبر 2019

بقلم سميرة مسرار

رحلة الصحراء
(3) الجزء الثالث

تسمرت ياسمين في مكانها، صار جسدها ثقيلا عليها وساقاها عاجزتين عن الحركة وكأن الأرض جثمت عليها بكل ثقلها فداست على مكامن الإحساس بذاتها. يا له من شعور غريب انتابها، فتساءلت لمَ هذا الخفقان القوي الذي يكاد صوته يعلو على صوت فارسها!؟ وهي كذلك، إذا بيد صفاء تمسك بكتفها فتوقظها من شرودها:

ــ ما بك حبيبتي؟ هل تحسين بألم؟ ألم يناسبك الأكل؟

استغربت ياسمين من هذه العناية التي أرجعتها إلى عالمها المعتاد:

- لمَ تسأليني على غير عادتك؟ هل لاحظت شيئا في تصرفاتي لا يليق بهذا المقام؟ أنا بخير، لا يؤلمني شيء؟

ردت عليها صفاء مستغربة:

- خُيّل لي أنك بعيدة جدا، تائهة رغم أنك قريبة منا، أو قولي قريبة وبعيدة في نفس الوقت...

استردت ياسمين سيطرتها على نفسها، وقالت:

ــ لا شيء، كنت أفكر في رسالة يوسف. فاجأتني وأثارت في نفسي جملة أحاسيس دفينة: طفولتي ومعاناتي ووضعيتي كامرأة في مجتمع لا يرحم.

كادت تسقط من عينيها دمعتان، لكنها حبستهما في مقلتيها لأنها تمرّنت على إخفاء بكائها أمام الناس، بل وتعلمت كيف تطرد أشباح ضعفها الحقيقي وتتقمص في بعض الأحيان القوة الجريئة التي تراها الأنسب لمقامها.

انضمت إليهما جميلة وهي تضحك وتقول ممازحة:

ــ يا الله، يا صديقتي المدللة! رغم عزوفك عن الحب، فإنك تجدين دائما من يتغزل بك، وكأن القدر يعاندك ليؤكد لك أنك امرأة جميلة تستفز قلوب الرجال، يعجبون بك أولا ثم يسقطون صرعى أمام عيونك اللوزيتين وقدك الفارع.

عند سماع هذا الإطراء ــ وإن كان يصدر عن صديقة مشاكسة وممازحة ــ شعرت ياسمين بانتشاء بالغ ما كان أحوجها إليه في هذه اللحظة بالذات، ولكنها كانت بحاجة إلى التركيز لتتمكن من إدارة أمور أحاسيسها المتضاربة. لم تجد بدا من الاستنجاد بهاتفها، غاصت فيه من جديد متظاهرة بقراءة رسالة يوسف، هكذا تمكنت من الاختلاء بنفسها فسافرت بذاكرتها عبر الزمن وهي تتردد بين حبّين لا تجمع بينهما إلا ذاتها المستعصية. زاغت عيناها في هاتفها الذي كان يسقط من يدها من حين لآخر بسبب شرودها وهي تتحدث إلى نفسها:

ــ غريبة هذه الدنيا! في حياتنا أناس يعيشون معنا، نتقاسم معهم يوميا آمالنا المشرقة وهمومنا المؤرقة، ونتبادل معهم اهتمامات شتى. وقد تنقضي أعمارنا بينهم، ومع ذلك لا نغرم بهم وإن كنا لا نقدر على مفارقتهم، ربما بسبب العادة والألفة. يوسف الوسيم لم يتخلَّ عني أبدا، لقد ظل دائما بجانبي. هربت من بيت والدي فاستقبلني في غرفته البسيطة التي كان يستأجرها وهو طالب في الجامعة، لم يطلب مني المساهمة في مصاريف العيش. فعل كل ذلك في غفلة من عائلته التي لم تكن لتقبل بتحمله مسؤولية فتاة وهو ما زال في سن العشرين، عمل نادلا في ملهى ليلي لسنوات عديدة حتى يغطي مصاريفنا مما أثر على مساره الدراسي، ظل في خدمتي دون شكوى أو ملل.

أخذت هاتفها الذي سقط منها مرة أخرى، ثم عادت إلى سفرها المتعب عبر أودية ذاكرتها المثقلة:

ــ غريبة أرواحنا! كم تظل تسافر في كل الدروب وتجوب أزقة الأحداث، لا تعترف بقيود الزمن ولا بجاذبية الأرض، تزور البعيد وتسأل عن الحبيب، تبحث عن القريب ثم تعود إلى سجن جسمها وكأنها لم تغادره قط...!

هنا تذكرت دموع أمها التي كانت تخفيها عنها وعن أخواتها وهم صغار، كان وجهها الحزين في خصام دائم مع السعادة، كرهت خضوعها لأبيها المتسلط، كرهت كلمة «نعم» وعاهدت نفسها على ألا تقولها أبدا لأي رجل ولو كان عمرها بيده.

قالت لها صديقتها رقية وهي تنزع منها هاتفها:

ــ إيوا بقاي معنا! انت غرقت في بير وما بغيتي تخرجي!

اصطنعت الابتسامة في وجه صاحباتها لتعيد إلى وجهها الشاحب ــ بسبب استرجاع الماضي ــ شيئا من نضارته المعتادة. شجعت نفسها لتعود إلى مجلسها ولو برهة من الزمن حتى لا يفتضح أمر شرودها وعنائها بين ماضيها وحبّين، واحدهما متين متقادم، والآخر جديد ومبهم وجميل.  نظرت في كل الاتجاهات بعينين ما زالتا شاردتين وكأنها ودعت خلفها جميع تقنيات العالم ورفاهيته ورمت عن كاهلها كل أثقال الحياة. صادفت عودتها إلى عالمها المحيط بها صوت أغنية، تحت ضوء خافت وقمر ظل يراقب همسات شفتين، في خيمة نُصبت لقتل الليل بلذة اللقاء وزرع السعادة في نفوس المتعبين عبر الكلمة واللحن والصوت وصبيب الشاي.

  استرخى جسدها قليلا وإن كانت لا زالت فريسة عناء الحب والاختيار التي أُطلقت سهامُها عليها وأَسقَطت دفاعاتها. لم تتمكن من استرجاع نفسها إليها كليا، بل ظلت تذوب كالسكر في الماء. سألت قلبها المدمى:

ــ ما الحب؟ أهو الحنان المتدفق كالنهر السريع الجريان؟ أم هو لحظة الشوق للذوبان في الحبيب؟ أم هو العاطفة النقية التي تسعد القلب الحزين فتمنحه الإحساس بأن الكون بين يديه؟ 

صرخت من كل أعماقها:

ــ كيف أتأكد من شعوري وسط كل هذا الازدحام؟ ثم إن جميلة وصفاء ورقية لا يفارقنني مثل ظلي، يا الله ! أكاد أُجنّ...

فجأة، سمعت فارسها يخاطبها:

ــ ياسمين! لماذا لا تقعدين بجانبنا؟ تقدمي لستمتعي بالطرب!

أحست بالسعادة عند سماع صوته، استجابت لطلبه مثل طفلة صغيرة، وانتقلت للجلوس بجانبه قريبا من المغنية.

كان الجو باردا كبساط الأرض، أو لعل ذلك ما خُيّل لها بسبب رعشة جسدها من أثر قصف الأسمر لها بنظرات تذيب الجبال. مسكها من يدها وأجلسها بثقة لامتناهية أفقدتها كل محاولة للمقاومة، ثم خاطبها:

ــ ياسمين الجميلة،  احكي لي عنك!

أجابت:

ــ أنا أنثى تألمتُ كثيرا، لكن لا أحكي همومي إلا لدفتري الصغير، أبتسم وأنا حزينة، أختار أجمل الملابس وأقوى العطور لأخبئ ضعفي، لا أترك كحلي يسيل من عيني ولا لساني يحدث عني، همي النجاح وهدفي الحرية!

ــ غريبة أنت حقا يا أميرة! بمجرد دخولك إلى الخيمة خفق قلبي. حاولت أن أقتحم عالمك، ولكنك لم تخرجي بعد من قصرك الزجاجي. أسمعك الآن وأحس بثقل الزمان على لسانك...

ــ حياتي كلها كانت جدا ونضالا.

ــ أي نضال؟ أنت قصيدة، فما لك والنضال؟ هذا شغل الذكور المحطَّمين؟

هنا تذكرت يوسف الراقي، وتذكرت نضالاتها من أجل المرأة والمواطن المسكين، تذكرت آلاف الصفحات التي التهمتها لتملأ عقلها بأفكار نوال السعداوي وفاطمة المرنيسي وغيرهما من النساء اللواتي قضين حياتهن في الدفاع عن تعليم المرأة وحقها في التصويت واختيار الرجل المناسب ومحاربة العنف ضدها وحماية الأطفال القاصرين. لكم قرأت لقاسم أمين وهو يدافع عن تحرير المرأة، وكم أعجبت بجريدة 8 مارس حتى أنها كانت تقرأها ليلا وتدسها تحت وسادتها كلما فتحت عليها أمها باب الغرفة.

سرحت بذاكرتها في سنوات نضالاتها النسوية في صفوف طلبة المغرب، فأحست بلذة لامتناهية أخرجها منها صوت الصحراوي الأسمر:

ــ والحب؟  

ــ لم أفكر فيه ولم أصادفه كما ينبغي!

ــ كيف ذلك؟

ــ لا أدري، لعله قدري!

هربت منه لحظة بعيونها فرأت رقية جالسة بجانب أحد البدو، كانت تحدثه بدون توقف ولا ملل منذ بداية السهرة، لاحظت كل هذا وإن كانت تشرد بذاكرتها عما حولها من حين لآخر. كانا جد متقاربين فأثارها ذلك، كادت تنتفض وهي تقول في سرها:

ــ كيف تسمح رقية لنفسها بكل هذا وهي متزوجة؟ المفروض أن تكون وفية لزوجها الذي بدأت معه علاقتها في الجامعة!

ثم راجعت نفسها، وقالت:

ــ وهل أنا في مستوى المسؤولية حتى أعطي دروسي للآخرين؟ وما ذنب يوسف؟ أنا مشتتة؟ أخاف أن تعاتبني نفسي القاسية في يوم من الأيام فأعود من جديد إلى اجترار الماضي! مهما يكن، أتضايق من تصرف رقية. لماذا؟ لا أعرف؟

التفتت إلى جميلة، وقالت لها بصوت خافت:

ــ ماذا تفعل رقية؟ هل فقدت عقلها؟

تنبهت جميلة لوضعية رقية فنادت عليها لتقترب منها هي وصفاء، لكن رقية لم تستمع إليها ربما لأن حديثها مع ذلك الرجل الغريب كان أهم من كل شيء.

أحس حماد بما كان يجري بينهن، فقال: 

ــ لا تستغربا، فأخي لا يتوقف عن التفاخر بقبيلتنا وعائلتنا، وهو متزوج من موريتانية هي الآن في زيارة لعائلتها. وأنت ــ أميرتي ــ لا تقلقي على صديقتك فقلب أخي مسلوب منذ سنوات!

سألته ياسمين:

ــ وأنت؟

أجابها، وقد عدل من وقفته وخفف من ثقته :

ــ أحس وكأن قلبي يُسرق مني في هذه اللحظة!

تأوهت، وقالت في نفسها:

ــ أتراه قد شرب من نفس كأسها أم أنها الصدفة التي جعلت قلبيهما يهويان فيتهاويان؟

رفعت نظرها إليه وهي تخاطبه بعيونها، وتسأله في صمت:

ــ هل الأقدار هي التي لعبت لعبتها؟ أم أنه قلبي الذي لم يستطع أن يصبر أكثر من ذلك؟ أم أنها الحياة التي أرادت أن تعطيني درسا في العشق في هذا الفصل من عمري؟

كانت تناجي نفسها، فيقظها سؤاله:

ــ ياسمين، هل ترغبين في جولة بالمنتجع؟ أنت لم تشاهدي منه سوى هذه الخيمة.

لم تصدق أذنيها، هل يريد فعلا أن يبقى معها لوحدهما أم خيل لها ذلك؟ ظلت حالمة، مد لها يده، فتعلقت بها دون تردد. آنذاك استفاقت على صوت صفاء:

ــ إلى أين أنتما ذاهبان؟

لم تجبها ياسمين، كانت تقول لها في نفسها:

ــ اتركيني يا أيتها البلهاء، لا أريد الموت البطيء، بل أبحث عن الدنيا التي حرمت نفسي منها!

استجابت صفاء لتضرّع صديقتها لأنهما كانتا قد تعودتا على الحديث بلغة العيون، خاصة وأنهما تتعارفان منذ وقت بعيد.

خرجت ياسمين وحماد من الخيمة ويداهما متماسكتان، شرعا في جولتهما من وراء المنتجع، مرّا بمكان الشواء، فأخذ في شرح كيفية تحضير الأكل الصحراوي، ثم انتقل بها إلى مرابط البعير. كان يتحدث وهي تنصت بدون تركيز حتى وصلا إلى فضاء واسع. بدأ يريها اتجاه البحر ويصف لها رمال سواحله المترامية كمد البصر على ضفاف الأطلسي.

أحس بشرودها، فسألها:

ــ هل تسمعين؟

أجابته:

ــ صوت البحر؟

قال وهو يتظاهر بالاستغراب:

ــ لا، صوت قلبي!
سميرة مسرار 




(يتبع)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق