الاثنين، 16 سبتمبر 2019

سميرة مسرار



رحلة الصحراء
الجزء الثاني


    رنّ هاتفها فحمدت الله ــ سبحانه وتعالى ــ لأنه منّ عليها برجوع خط الاتصال لينقذها من هذا التشتت القاتل:

ــ ألو من معي؟

جاء الرد من الطرف الآخر:

ــ أنا يوسف، افتحي، أنا أمام الباب ويدي مملوءتان بهدايا عيد ميلادك: حلوى العيد وعطرك المفضل! ما زلت أحفظ تاريخ ميلادك عن ظهر قلب كما أحفظ النشيد الوطني. فاجأتك، أليس كذلك؟

أغمضت عينيها لحظة وهي تقاوم ثقل هذا الاتصال على قلبها. في هذه اللحظة بالذات لا تريد أن تفكر  فيه على الإطلاق، ولا في كل ما يربطها بوسطها وعملها، خاصة وأن جوارحها كلها تسير الآن في وجهة مغايرة بعد أن بدأت تعصف بها رياح الصحراء. ردت عليه في امتعاض:

ــ أعتذر يا يوسف، لن أطيل الحديث معك الآن، أنا في مدينة العيون مع صديقاتي جميلة وصفاء ورقية. لقد فاجأنني وأهدين لي هذه الرحلة للاحتفال بعيد ميلادي.

ــ يا الله، حدث كل هذا وأنا آخر من يعلم! هل كنت فعلا بحاجة لسفر كهذا للاحتفال بعيد ميلادك وسط كثبان من الرمال يتصاعد منها بول البعير. كنت ظننتك في البيت ككل مساء وأردت مفاجئتك...

ــ هذا ما حدث!

شكرَته باختصار شديد، ثم أنهت المكالمة، ورجعت إلى صديقاتها اللواتي كنّ يتمايلن على أنغام موسيقى خُيّل لها أنها لم تسمعها من قبل. كان بودها أن تتمايل مثلهن، ولكن جسدها تحجّر وكأن يوسف وخزه بإبرة أفقدته حيويته التي كان من اللازم أن تظل متيقظة في هذا الفضاء البعيد عن صقيع الإدارة وبرودة الناس. وهي كذلك، رأت الفارس الأسمر ينظر إليها بتركيز غير مألوف فتتسع عيناه لتحتويها، وكأنهما تريدان السيطرة عليها وابتلاعها بسحرهما المغناطيسي. تسمرت أمامه كأسير حرب استسلم للعدو بعد أن ألقى أرضا كل أسلحته. كانت ترى في عيونه نارا تشبّ فتذوّب جليد برد يوسف شيئا فشيئا فيتلاشى في صمت عميق. عادت بذاكرتها إلى الماضي، وقبل أن تستعيده بكامله أيقظتها من سباتها عينا الصحراوي الذي احتواها بنظراته الثاقبة، ثم توجه إليها بلهجة بدوية فيها رنة لم تسمعها من قبل وكأنها سمفونية الريح التي تغني بين الجبال لتصاحب الرّحل في هرولاتهم:

ــ لصوتكِ نبرة جميلة تشبه رنات أراجيز القمر وهو يناجي الشمس قبل الكسوف. هل يوسف الذي كلمك هو قمرك وأنت شمس الضحى؟

اقشر بدنها وهي تستقبل لأول مرة في حياتها هذا الوابل من الحليّ المرصع بجواهر الكلمات التي اختفت منذ آلاف السنين بين ثنايا الكتب القديمة. أخذ الدم المتجمد في عروقها يتدفق بين هضبتي صدرها وينطلق من أصابع أرجلها ليصعد شيئا فشيئا نحو الأودية التي تختفي بين جبالها. تلعثمت فإذا بها تستيقظ فجأة على ضحكات صديقاتها اللواتي تفطّنّ لدهاء الصحراوي واستغربن من سؤاله المباشر وإن كان قد غلفه بمسحة من الغزل الرقيق.

لم تنبس ياسمين ببنت شفة، فأخذت صفاء تحكي عنها وتقول بأنها نموذج المرأة المثالية، كافحت سنوات عديدة في مجتمع رجولي خانق لتصل إلى ما وصلت إليه الآن، حتى اعتقدت أن ما أنجزته في حياتها المهنية خرافة. لهذا، فهي لم تفكر أبدا في الحب ولا في الزواج. أما يوسف فلم تذكره، فظل السؤال معلقا كتميمة لا تنفع لصد صداع الرأس المزمن.

أحست ياسمين بنوع من الإهانة والشفقة في نفس الوقت، ومع ذلك فقد سامحت صديقتها لأنها تعلم أنها تحبها كأخت شقيقة. كل هذا حزّ في نفسها، ولكنها تتفق معها في كل شيء قالته في حقها، إنها فعلا امرأة ذات شخصية قوية، وأنها لم تذق الحب الحقيقي رغم أنها اليوم في موسمها الرابع، هي زهرة لم ترتوي بماء الحياة وكتاب لم تقلّب صفحاته لتقرأ فصوله.

ابتسمت ابتسامتها الباردة المعهودة، ثم عادت إلى صمتها لترتمي بين أحضان هاتفها الذي أثبت أكثر من أي وقت مضى بأنه منقذها الوحيد من أهوال هذه الليلة الليلاء.

ظلت عيناها على الهاتف، ولكن نفسها كانت تحدثها باستمرار، فاسترسلت في حوار ذاتي أخرجها من عالمها بشكل نهائي:

 ــ أنا في أشد الحاجة إلى العزلة، أريد أن أحس بانتمائي المطلق لذاتي لأنها ملجئي الوحيد الذي أهرب إليه دائما. هنا تكمن سعادتي الحقيقية! أنا لست صحراء قاحلة أو زجاجة نبيذ معتقة في أقبية الأمراء، أنا نهر متدفق لم يكفّ أبدا عن الجريان، أنا شهد متجدد في غابة تفوح برائحة الشيح والحرمل والخزامى، أنا سيدة الحكمة والمنطق لأنني أحمل أنوثة أربعة عقود، أنا مترعة المشاعر وعطائي بلا حدود، إذا تكلمت فاح العطر من فمي وأغرقت المكان بالورود.

وهي على هذه الحال، تعالت الموسيقى من جديد في حين كانت المضيفة الجميلة تتنقل كالنحلة بين الضيوف لتقدم لهم الشاي والتمر. رأت صديقاتها وباقي الفتيات، في قمة السعادة، وهن يتمايلن على أنغام الموسيقى الصحراوية المرصعة بكلمات أغنية من نبض شعر «تبراع» الخيام الضاربة في رمال الصحراء:

تبسيمة عراضي لحظة         فالحزم اتزيد المشقة

و ضحكتها نار اتلظى            لا يصلاها إلا الاشقى

حاولت أن تتحكم بعينيها في كل ما تراه حتى لا تسقط أسيرة في عينيّ الفارس الأسمر. ولكن خالجها شعور  بأن المغنية ربما أحست بها فبدأت تغني وكأنها تعبر عنها. آنذاك عنّفت نفسها لتفيق من شرودها وعادت إلى فتح النقاش في هذا المجلس. بدأت تطرح الأسئلة على الفتاة المكلفة بالشاي لتقصي المعلومات عن باقي الضيوف. لم تتردد صاحبة الشاي في أن تذكر لها اسم كل واحد وتحكي قصته، وعندما وصلت إلى فارسها الأسمر تمنت لو كان بيدها قلم لتدون أدق التفاصيل عنه وأن ترسم وجهه على زجاج كأسها لتعانقه كل صباح.

«حمّاد ولد ابنو!» لما نطقتها محدثتها أحست وكأن قلبها عاد ليعزف من جديد أنشودة الحياة، حمّاد ربيع العمر المتجدد في هذه الأرض من بلاد الله! هنا التقت عيناهما فأحست بضجيج القلب وآهاته، وتساءلت هل تتصاهر أرواحنا فعلا لتنجب لحنا خالدا تهيم به النجوم ويشهد عليه القمر، أم أنه فقط جنون الليل الذي جاء ليبعثر ما بداخلها من تركيز ويوقظ ما كان قد نام من تأوهاتها؟ حاولت الانسجام مع مجلسها متمايلة مرة على وقع الألحان ومتحدثة مرة أخرى إلى رفيقاتها...

بعد مرور حوالي أكثر من ساعتين على أنغام الموسيقى، قدم صاحب المنتجع العشاء لضيوفه، كان عبارة عن مأدبة تتألف من أكلتين، الأولى طبق من الثريد بلحم الجمل، توارثه بدو الصحراء عبر السنين، والثانية صحن كبير من مختلف أنواع الأسماك مطهي على الطريقة الأوربية احتراما للضيوف الأجانب الذين لا يقدرون على هضم لحم الجمل.

تعمد حمّاد الجلوس بجانبها على مائدة الأكل محاولا إظهار اهتمامه بها. وبلباقته العجيبة ظل يبحث عن أسباب واهية لملامستها، مرة برجله ومرة بكتفه، وكأنه يخبرها أنه هو أيضا لا يدري ما كان يحصل له في تلك الساعة. سألته عن نفسه فأجابها:

ــ أنا ابن الرمال، ككل صحراوي تفوح مني رائحة الأعشاب البرية المبللة بندى الأيام. هنا لا نحتاج للباس فاخر أو لسيجارة أمريكية، ولا نهرب من قسوة الخيام إلى رفاهية القصور لأن جلودنا تنفر من ليونة المضاجع، غذاؤنا الشعر وشرابنا الشاي ومتعتنا ذكرياتنا الجميلة في أوقات الصيد بين النجود والوهاد. ومع ذلك فقد أصبحنا نتطلع إلى العالم وأخباره عبر ذبذبات المذياع. لا نحتفل أبدا بأعياد الميلاد، ولا نركب أحدث السيارات، ولا نسمع لفيروز وأم كلثوم اللتين ما سمعت بهما قط قبل توافد السائحين والأجانب علينا.

سألته بحذر شديد:

ــ وهل للنساء مكان كبير في حياتكم هذه؟

أجاب وهو يفترسها بنظراته الحادة الناعمة:

ــ أنا مجنون إذا عشقت! أصبح كمخمور مدمن، لا أفيق من سكري إلا حين أرتشف رحيق شفتيّ المرأة التي أكون مهووسا بحبها، ولا أستريح إلا وضفائرها تائهة بين يدي، ولا أجلس تحت الشمس إلا حين تظللني ابتسامتها، ولا أتكلم إلا لأقول شعرا في حضرتها لأعبر لها عن آلام غيابها.

هنا أحست ياسمين وكأنها في حلم، وتساءلت هل تراه يخبرها في هذه اللحظة عن هيامه بها، أم أن قلبها المتلهف هو من يوهمها بذلك خاصة وأنه خلاء من مثل هذا الحب العجيب. خطفت عينيها هنيهة إلى بياض شعر صدره فغابت قليلا، ثم أطرقت خجلا فاحمرت وجنتاها وزادها ذلك جمالا وحسنا وهي تتصنع براءة الأطفال. التفت إليها وقد أحس بأثر جاذبيته عليها، وقال:

ــ لا تعدّي شعر المشيب على صدري ولا أعدّ سنينك التي تزيدك شبابا! يكفي أن عطرك يسكرني، وعبيرك يغازلني، وعيناك تجذبني وتوقد ناري، ويداك تدعوني لملامستهما، فأين المفر؟

تجمد دم ياسمين في عروقها. هل يقاسمها فعلا شعورها تجاهه أم أنه يقرأ عليها فقط إحدى قصائده، أم أنها ثملت من موجات الإعجاب التي مزقتها وقد جاءت من مدينتها مؤهلة لاستقبال مثل هذا الحديث في هذا المكان المعزول؟

أعادتها إحدى صديقاتها إلى الواقع حين طلبت منها مصاحبتها للغسيل واستنشاق الهواء قبل الرجوع إلى الخيمة. اغتنمت ياسمين هذه الفرصة للهروب من فارسها ومن ضعفها، فرافقت صديقتها التي لم تتوقف عن الحديث والضحك دون أن تنتبه لشرودها.

بعد عودتهما كانت الخيمة في أوجّ الموسيقى وبعض الفتيات اللواتي التحقن بالسهرة يرقصن متمايلات يمينا وشمالا ووجوههن مغطاة بملاحف زرقاء وسوداء، وغيرها بألوان متفائلة، كما هي العادة عندهن. بدأت ياسمين تبحث من جديد عن مكان للجلوس لأن مكانها قرب صاحبة الشاي لم يعد متوفرا إذ جلست فيه إحدى مرافقاتها. وهي تبحث، أحست بيدين تمسكانها فإذا بالأسمر يسحبها إلى حلبة الرقص، رفضت في البداية لأنها تعلم جيدا أنها لا تتقن غير الكلام والمرافعة، وأن الرقص بالنسبة لها يبقى من المسائل التي كرهت الرجال من أجلها لأنها تذكّرها دائما بأحداث لم تعجبها في طفولتها. أصر حمّاد على مراقصتها، رافضا أي عذر، وهو يطلب من المغنية أن تدرج اسمها ضمن أغانيها.

حاولت ياسمين الخروج من المأزق، استسلمت، بدأت ترقص وصديقاتها يضحكن تارة على طريقة رقصها وتارة على محاولاتها تهربها. بعد ذلك تطوعت جميلة لمراقصة حمّاد، فاغتنمت ياسمين الفرصة للجلوس في مكان بعيد عن النار والموسيقى. بعد قليل، لحقت بها صديقتها وهي تعتذر:

ــ أحسست أنك متضايقة، فحاولت التدخل لحل الأمر.

ابتسمت ياسمين، وقالت:

ــ لا تبالي! عادي.

هربت إلى هاتفها وهي تقرأ رسالة من يوسف، فابتسمت وتذكرت أول يوم التقت به في رحاب الجامعة وهي في سنتها الأولى. يومها لم تكن تعرف حتى كيف تملأ استمارة التسجيل، لكن يوسف ساعدها، كان دائما موجودا بجانبها، يدعمها ويقويها ويحميها حتى من نفسها. تذكرت يوم رفض أبوها أن تتابع دراستها وأراد إرغامها على التزوج بمعلم حزين وبخيل في نفس الوقت إذ كان يشتري سروالا واحدا مرة في السنة وحذاء خلال كل ثلاث سنوات. ما زالت تتذكر كيف وقف معها يوسف وشجعها على ألا تستسلم، وظل بجانبها عند هروبها من بيت والديها. يا الله! لمَ تعود بذاكرتها إلى ماضيها الكئيب؟

أنهت رسالة يوسف التي وجدت فيها دعما ومحبة صادقين كالعادة، فارتاحت قليلا، وعادت إلى مواصلة الجلسة المحمومة بالرقص والموسيقى، تلك الجلسة لم تضع عذوبتها بين كؤوس الشاي وأطباق الحلوى.

صمتت المغنية فجأة، نادت على حمّاد وطلبت منه أن يتفضل بإلقاء قصيدة شعرية بعد أن أطنبت في مدحه وفي الثناء على موهبته الفياضة. وقف فارسها حمّاد وقفة الجبل الصامد ومشى نحو المنصة كما يسير الجمل الأصيل وهو يشق مفاوز الصحراء في مقدمة قوافل الحجيج، تفحص كل الحاضرين بنظراته الثاقبة وكأنه يطلب منهم التركيز وحسن الإنصات. ظل على هذه الحالة برهة من الزمن حتى ظنت أنه بلع لسانه، غير أنه انطلق بصوت رفيع فيه نبرة لا شبيها لها، وأنشد:

نبغي سلم والفات فات
يا دموع العين السايلات
على خدي ومحجلات
ليالي كنت نجيها
وقصايد عندي ساويات
الدنيا ولي فيها
ذوك القصايد نايبات
عن حد ص يبغيها
لنحكاو لكم وازنات
والمعاني نزيهة

كان يعيد إنشاد الشطرين الأولين من حين لآخر كلازمة، ويقف على القافية كما تقف النعامة على هضاب الرمل، حالمة وليست بالغافلة. سكرت ياسمين بأقداح الشعر والإلقاء، وهي التي لا تعرف من خمر الدوالي إلا اسمها، فلم تعد قادرة على التحكم في صوت خفقان قلبها.. مدت يدها إلى الحلوى فسقطت من بين أصابعها، وضعت وجهها بين يديها لعلها تخفي دموعها من شدة تأثرها خاصة وأن الأبيات كتبت فيها كم أخبرها بذلك من قبل في نهاية حديثهما، ولكنها لم تصدقه إذ كيف يكتب شاعر شعرا في امرأة لم يلتقِ بها إلا بضع دقائق! هل الشعر كذّاب إلى هذا الحدّ؟ وهل الحب فعلا أعمى ليغمرك ــ من حيث لا تدري ــ بكل هذا الاحساس اللذيد؟


(يتبع)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق