الجمعة، 20 سبتمبر 2019

بقلم عبد الستار الخديمي

قصة قصيرة
***مرفأ التيه***
في غمرة من فوضى المشاعر سألته في وجل: هل أحببتني أم بالأحرى هل بقي من الحبّ مسافة؟ كانت تبحث عما يرتب الفوضى ويجمع الشتات ويروي ظمأ الأيام العجاف.. كانت تائهة ضائعة شاحبة شاخصة.. تلملم نفسها المبعثرة في نفسها.. وتربت على قلبها الساكن تحت صدرها المهتز في فورة بركان هاج بعد سكينة دهر.. تتذكر أنهم كانوا يسمونها بذات العيون الناعسة والرموش الساحرة والابتسامة الفخ تصطاد بلا هوادة.. التحفت بنرجسية الجمال والدلال وكانت تجهل أنهم جهلوها ونافقوها ودفعوها إلى شفير الهاوية..
 لم تسقط ولم تنحن وبقيت شامخة شموخ النخل.. بقيت تترقب وتجدف في بحر حيرتها ورغبتها وغربتها..
 في كل غفوة كان الطيف المجلل بالبياض يأتيها ويهمس في أذنيها: أنت عروس كل العصور، انتظري في شغف ولهفة.. ستكونين ملكة تتربع على كل العروش.. فأنت المفرد الذي لا جمع له وأنت الجمع الذي لا مفرد له..
 ضاعف الطيف من نرجسيتها فقتلتها نرجسيتها واتضحت رؤياها: من أراد كل شيء خسر كل شيء..
 نعم أحبّك الكل وتاه عنك الحب الحقيقي.. فابحثي عنه في ثناياك في الليالي المقمرة..
كان متردّدا، وجلا، خجلا.. الردّ يعني موقفا، والموقف يعني التزاما.. ما بين خفقان القلب والرغبة في الحب ووطأة الواقع يكمن مربط الفرس، الصمت خيانة والبوح انتحار وما بينهما برزخ من الشك والريبة.. تيقن بأن البوح إعصار، قد ينعم بحبها الفريد وقد تتكسر مجاديفه في عمق البحر الهائج..
لا يمكن أن يكون إلا بمواصفات الطيف يزور في لحظات التيه والوجوم ليعلن عن الوجود.. ويذوي في ثنايا النسيان.. لم يكن سؤالها إلا فخّا.. نرجسيتها أسست نرجسيته.. لا يريد البوح خوفا من البوح..
كانت الرؤيا.. وكانت تدس وجهها بلونه المخملي وعينيها اللامعتين الدامعتين دوما في حضنه البارد رغم اتساع صدره كجلمود الصخر.. فيربت على كتفيها ويمرر كفه الثقيلة على خصلات شعرها المتناثر حول جبينها الملتحف بلون القمر في عز كينونته.. كانت كالقطة الشريدة الطريدة التي أصابها الذعر والفزع.. إنها بكل بساطة تبحث عن الدفء.. تبحث عن محطة لقطارها الذي طال سفره.. تبحث عن مرفأ لغربتها.. تنوء بثقل السنين على كتفيها.. ولكنها لا تزال جميلة فاتنة قاتلة برموش عينيها.. إنها لا تبحث عن رجل بقدر ما تبحث عن أمل ينير دروب مستقبلها.. يطهّر ماضيها وحاضرها من رجس الأيام.. ولكن هيهات كان صدره رغم اتساعه صقيعا متجهما كأيام الشتاء.. نطق بصوته الخشن في حشرجة وقال: نامي يا صغيرتي لعل البنفسج يزهز في الشتاء..
وفي عمق ذاته قرر أن يتحد مع نرجسيتها ومآسيها ويكون عونا للطيف.. أو هو الطيف يرافقها دوما في أحلامها ويزرع الأمل في دروبها.


بقلم الأستاذ عبدالستار الخديمي/تونس

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق