الجمعة، 20 سبتمبر 2019

محمد اديب السلاوي

من يعمل على إنقاذ لغة الضاد..؟


-1-
قبل عقود من الزمن، أكد علماء اللغة في الجامعات والأكاديميات الغربية، أن حوالي ثلاثة آلاف لغة ولهجة محلية، قد لفظت أنفاسها بسبب تضاؤل عدد الناطقين بها... وقبل ذلك، أكدت أبحاث العديد من فقهاء اللغة في العالم الحديث، أن اللغات كالكائنات الحية الأخرى، تنشأ وتتطور وتزدهر ثم تشيخ وتحنو وتموت... وأن اللغات أيضا تنقرض لذات العوامل التي تؤدي إلى انقراض أنواع الكائنات الحية الأخرى، وأهمها انعدام الصيانة، أو بسبب الحروب والكوارث ذات التأثير المدمر، أو بسبب إهمال المجتمعات وتهميشها للغاتها الأم، وانحياز الأفراد والجماعات للغات أجنبية على حساب اللغات الأم.
وخارج هذه الأسباب، فإن اندثار اللغات وموتها، تظل في التاريخ البشري، ظاهرة طبيعية لم تتوقف على مدار تاريخ الحضارة البشرية، غير أن المثير للقلق في نظر باحث عربي( )، هو تزايد معدل الاندثار بالآونة الأخيرة، إذ يصل التشاؤم ببعض المراقبين إلى حد أنهم يتوقعون اختفاء/ موت ما بين 3400 و6120 لغة ولهجة مع نهاية القرن الحالي/ الواحد والعشرين، أي بمعدل لغة واحدة كل أسبوعين. وهو ما يعني خسارة اللغوبين والانتربولوجيين والأتريين وعلماء التاريخ، في مصدر غني للمعلومات التي تعين على دراسة وتوثيق تاريخ الشعوب المتحدثة بهذه اللغات واللهجات، ذلك أن ضياع اللغة، يعني ضياع التاريخ برمته والعكس صحيح، بل أكثر من ذلك يعني اختفاء هذه اللغات، سقوط جانب أساسي من الميراث الثقافي للبشرية.
-2-
نأتي بهذا المدخل، بمناسبة الحديث المتنامي في الإعلام وفي المحافل العلمية/ الأكاديمية، عن الحالة المرضية للغة الضاد/ اللغة العربية، والتحديات التي تواجهها راهنا في المدرسة والجامعة والإدارة، وفي مرافق الإنتاج الاقتصادي والإبداعي، وفي المجتمع، مما يجعلها في أزمة حقيقية... والأزمة كما يفسرها القاموس العربي، هي الشدة والضيق، ولذلك يرى العديد من الباحثين والخبراء، داخل الفضاء العربي وخارجه، أن اللغة العربية اليوم، تخوض إضافة إلى صراعاتها مع الفرنكوفونية، والأنجلوفونية، والأمازيغية والعامية، تخوض معارك عسيرة من أجل البقاء كلغة. وهذه المعارك تتجلي ملامحها بصفة لافتة، في نظر العديد من المفكرين العرب، في ثلاثة مجالات مركزية وإستراتيجية( ).
1) المجال التربوي والتعليمي، بكل فضاءاته وبمختلف مستوياته وأصنافه، وهو المجال الذي يضطلع بوظيفة تكوين المعلمين والمتعلمين. فالمؤسسات التربوية رغم هيمنة سلطة الوسائط الإلكترونية والقنوات الفضائية، مازالت المؤثر الأبرز في المعرفة والثقافة وفي التكوين العام، ولكن المعضلة، أن مؤسسات التربية والتعليم، وكذلك الجامعات، وأن بدت ظاهريا حديثة ومتطورة في أساليب التدريس –في بعض الأقطار العربية- فإن لها مطبات وسلبيات خاصة في مجال تعليم اللغة العربية وكيفية أدائها وتوظيفها، وهو ما يعني في نظر العديد من المفكرين، أن التعليم اللغوي/ العربي، لا يرقى إلى آفاق التحديات والاحتياجات المعاصرة التي تواجه هذه اللغة، وهو ما يعني أيضا في المحصلة النهائية، أن حركة التحديث ونشاط التنمية في المجتمع المحكوم بهذه اللغة، لن يبلغ المكانة المنشودة إذا ما كانت الوضعية التعليمية في المدارس والجامعات العربية، لا ترقى إلى مستويات التعليم العصري بأروبا وأمريكا وآسيا، ذلك لأن ما بلغه التعليم بعالم اليوم، من تقدم اقتصادي، هو نتيجة حتمية لرقي المنتوج التعليمي في هذا العالم.
 ما يزيد في أزمة اللغة العربية بالحقل التربوي التعليمي، ليس فقط عدم استيعابها داخل المؤسسات التربوية، للوسائط الإلكترونية الحديثة، ولكن أيضا هيمنة اللغات الأجنبية (خاصة الإنجليزية والفرنسية والألمانية والأسبانية) على الحقول التعليمية والمعارف الحديثة، داخل هذه المؤسسات، وتهميش اللغة الأم في البرامج والمناهج العلمية عامة، بدعوى عدم قدرتها على التواصل العلمي مع هذه البرامج والمناهج!!
2) في المجال الإعلامي: بكل فضاءاته ومؤسساته (المكتوبة والمسموعة والمرئية والإلكترونية) تعاني لغة الضاد من سلبيات قاتلة: فمن مساوئ النطق، إلى مساوئ التحرير، ومن مساوئ استعمال المصطلح إلى مساوئ استعمال اللهجات المحلية بدعوى ملاءمتها مع برامج الحياة اليومية، أو بدعوى "تواصل أحسن" مع القراء والمستمعين والنظارة، حيث تتقهقر اللغة الفصحى، وتتحول إلى مستنقع لا علاقة له باللغة، ولا بمفاهيمها الجمالية والعلمية.
 إن استعمال اللهجات العامية واللغات الأجنبية في المجال الإعلامي العربي، وإن أصبح أمرا عاديا بالنسبة للعديد من الإعلاميين، ولا يثير أية مشكلة لدى الكثير منهم، فإنه بالنسبة للثقافة العربية، يعد إشكالية مترابطة مع التحديات الحضارية الراهنة، فإذا ما ولدت العولمة صراعا بين الحضارات، وتنافسا شرسا على البقاء والهيمنة العالمية ثقافيا وسياسيا واقتصاديا، ذلك لأن اللغة هي في صميم هذا الصراع، لذلك فإن العاميات واللغات الأجنبية في نظر العديد من المفكرين والفلاسفة، هو ما يهدد بقاء اللغة العربية، بل هو عدوها الثقافي الأشرس، لأنها تنتصب حليفا موضوعيا للكونية الغازية( ).
3) في المجال السياسي، بكل مجالاته: الأحزاب والمنظمات والحكومات ورؤساء الدول، كل من موقعه يتحمل مسؤولية التدهور الذي تعرفه اللغة العربية في التعليم والإدارة والإعلام والمقاولة والمؤسسات البنكية والصناعية وكل مناحي الحياة. فالمجال السياسي بكل مكوناته، هو مصدر القوانين والسياسات والتشريعات والقرارات، وبالتالي هو المسؤول الأول والأخير عن حماية اللغة القومية أمام المخاطر التي تهددها، وباعتبارها هي حامل الهوية الثقافية وضامن سيرورة الذات الحضارية للأمة، فإن أي مساس بهذه اللغة، التي هي لغة الوحي/ لغة القرآن الكريم/ لغة الوجود الحضاري للأمة، يتحول -سياسيا- إلى خيانة عظمى، في الأنظمة الشرعية، كما في القوانين الوضعية.
 هل يعني ذلك أن اللغة العربية اليوم في انعطافة تاريخية..؟ نعم، إنها في أزمة تترابط حولها كل أدوات القتل: ضعف في التعليم/ ضعف في الإعلام/... وضعف في السياسية؟
 في شهادات عديدة لفقهاء اللغة، ورجالات الفكر والتربية والإعلام، أن اللغة العربية في الزمن العربي الراهن، تخسر يوما بعد يوم مكانتها في المؤسسات التربوية والتعليمية والتكوينية والإعلامية والاقتصادية والإدارية وغيرها، في العديد من الأقطار العربية/ شرقية وغربية، حيث لم تصل العديد منها، في مناهجها التربوية إلى تدريس العلوم/ مختلف العلوم باللغة الأم، بل أصبحت اللغات الأجنبية (الاستعمارية) لغات رسمية أو شبه رسمية في الإدارة والمعاملات والتدريس الجامعي، وحتى في التواصل الاجتماعي "لطبقتها الوسطى" ولغالبية نخبها السياسية، حتى وإن كانت هذه اللغة رسمية في وثائق الدستور، وهو ما يعني بوضوح إصابة اللغة الأم بالسكتة الدماغية.
-3-
 مغربيا، والمغرب لا ينفصل عن الوطن العربي في المسألة اللغوية، ما هي حصيلة ضعف المؤسسة السياسية في تعاملها مع مخطط التهميش اللغوي والثقافي، والذي أذى إلى فرنسة التعليم من بدايته إلى نهايته، وفرنسة الإدارة في مستوياتها وأصنافها المختلفة، وفرنسة الإعلام المكتوب والمسموع والمرئي والإلكتروني... وفرنسة جانب هام من المجتمع المغربي؟
 إن القرار السياسي، عرض اللغة العربية في المملكة المغربية إلى اهتزازات متواصلة، منذ عهد الحماية (الفرنسية/ الاسبانية/ 1912-1956) وحتى اليوم، نذكر من هذه الاهتزازات، بعض المحطات الشهيرة:
1) الظهير البربري، وقد راهن واضعوه في ثلاثينيات القرن الماضي، على الفصل بين العرب والبربر في المجتمع المغربي، وإعطاء اللهجات الأمازيغية وضعا خاصا إلى جانب اللغة الفرنسية في التعليم بالمناطق البربرية.
2) النظام التعليمي الرسمي، وقد راهنت عليه إدارة الحماية (الفرنسية في الجنوب والإسبانية في الشمال) لطمس الهوية العربية الإسلامية للبلاد والعباد.
3) تشجيع وتركيز الفسيفساء اللغوية، المتعددة الأنماط والأشكال على الخريطة الوطنية (الدارجة/ الأمازيغية/ الفصحى/ الفرنسية/ الأسبانية) بشتى الوسائل والإمكانات، من أجل محاصرة لغة الضاد وإضعافها اجتماعيا وثقافيا واقتصاديا وسياسيا.
4) فشل السياسات التعليمية في عهد الاستقلال، في معالجة هذا التلوث اللغوي لإعادة اللغة العربية إلى وضعها كلغة رسمية في التعليم والإدارة والحياة العامة، وجعل التعريب مبدأ أساسيا من مبادئ "مذهبية التعليم" التي تضمنت في سنوات الاستقلال الأولى، قيم المواطنة والهوية.
 يعني ذلك بوضوح، أن القرار السياسي كان منذ البداية وراء فشل المدرسة المغربية، في فرض اللغة العربية الأم في أطوار التعليم المختلفة (من الإبتدائي إلى الجامعي) ليفتح المجال على مصراعيه لدعاة التهجين اللغوي والثقافي وتذويب الهوية والذات، ليخفق في تأهيل وخلق المواطن المغربي المسلح بقوة المعرفة وكفاءة العلم ويقظة الضمير وقوامة الأخلاق، فانتهت هذه المدرسة، بضخامتها الكمية، وبغلافها المالي المفزع، إلى مؤسسة لإنتاج العاطلين وأنصاف المتعلمين والأميين والضائعين والمتمزقين والفقراء واليائسين والمحبطين، بلغة أساسية هي الفرنسية.
 والغريب في الأمر، ان القائمين على المدرسة المغربية، لم يكتفوا بجعل اللغة الفرنسية، لغة للعلوم والمعارف التي تؤدي بالمغاربة في اعتقادهم إلى العولمة، ولكنهم أكثر من ذلك جعلوها متنافسة في كل مناحي الحياة، مع اللغة الأم/ أي اللغة الرسمية، لتصبح مسيطرة بقوة على التعليم والإدارة والمال والاقتصاد والسياسة تحت الحماية الرسمية للسلطات التشريعية... والسلطات التنفيذية... ولتصبح اللغة العربية في المقابل هجينة ومستلبة وفاشلة.
 في قراءة لسياسي مغربي( ) لهذه الإشكالية/ المعضلة، أن هذا الضعف، أذى إضافة إلى زلزلة وحدة الثقافة الوطنية، إلى خلق ازدواجية، هي مجرد تغطية للاندماج والذوبان في لغة وثقافة أخرى، وإلى تكوين مجتمعين ونمطين من الفكر ومن القيم في الحياة... حيث تعمقت التبعية الثقافية واللغوية، وترسخ الاستيلاب الفكري، وتخلخلت تبعا لذلك البنية الروحية والهوية الوطنية الذاتية للمجتمع المغربي، وتزلزلت قيمه بشدة، لا أحد يدري إلى أين ستقود المغرب في نهاية المطاف.
-4-
 الصحفي والأديب المغربي الراحل ذ عبد الجبار السميحي، مسته لوعة هذا الزلزال، فأعلن بصراحته المعهودة، "أن الكلام لم يعد سرا، فاللغة العربية أصبحت في مغرب اليوم تحتضر، ف" المسيد" سيبقى مجرد فلكلور يذكر بالمغرب التقليدي القديم، وستبقى المدرسة الابتدائية والأطفال يتصايحون في ساحاتها المتربة، وستبقى كليات الآداب تعلم الشعر الجاهلي والعباسي والأندلسي، وتعلم الجرجاني والجاحظ وأغاني الاصفهاني وديوان الحماسة والجمهرة، وتخرج لنا دفعات تلو الأخرى من العاطلين، أما خارج هذه الأسوار فلا موقع ولا مكان للغة العربية، إنها لم تمت غيظا، وإنما ستموت انتحارا بالتأكيد، إذ نرى لا مكان لها في كل أطراف المدينة، في الوزارة والإدارة، في البنك والمطعم والفندق والمسبح، والمرقص وصالون الحلاقة وصالون اللقاءات الحميمية. إنها (أي اللغة العربية) أصبحت مثل امرأة تعسة، أتعبها الحمل والرضاع وشاخت قبل الوقت، فخرج رجلها يمارس حياته في لغة تصون حيويتها، يغار عليها الأهل، ولا يحميها القرار السياسي"( ).
 السؤال هنا: هل علينا القبول بهذا الواقع..؟
 هل نكتفي بإقامة جنازة لائقة بتاريخ هذه اللغة، ونترحم عليها، وندعو لجثمانها بالراحة والرحمة..؟
 أم علينا أن نسأل أنفسنا بهدوء، لمن تعود مسؤولية اغتيال هذه اللغة..؟ ومن المستفيد من اغتيالها..؟ وهل في الإمكان عودة فاعليتها إلى الحياة..؟
 نعم، اللغة العربية، وبفعل المؤامرات المتراكمة على حياتها من الداخل والخارج، أصبحت تواجه تحديات مصيرية، خاصة في المناخ الدولي الراهن، الذي يحتم عليها –إن أرادات الحياة- أن ترتقي إلى مستوى اللغات المهيمنة في المجالات العلمية والثقافية والمعرفية، وأن ترتقي بمكانتها وطرق تدريسها في الفضاءات التعليمية، وهو ما يحتم على أصحاب القرار السياسي، مراجعة مواقفهم من الإشكالية اللغوية على اعتبار أن التحديث والتنمية والولوج إلى مجتمع المعرفة، لا يمكن أن يكون خارج اللغة الهوية/ اللغة الأم... وهو ما يحتم على المثقفين والإعلاميين والسياسيين، أن ينتفضوا ضد الوضع السلبي الذي فرض على هذه اللغة، ضدا في تاريخها، وفي مكانتها العلمية، وأيضا في هويتها، فهي (أي اللغة العربية) حامل لهويتنا الثقافية ولسيرورتنا الحضارية، لأجل ذلك يتحمل الجميع (الأحزاب/ المنظمات/ الحكومات/ الجامعات...) مسؤولية إنقاذها من السقوط الذي يراد لها ضدا في التاريخ العربي الإسلامي... وضدا في جغرافيته المترامية الأطراف.
 فهل ستفعلون..؟
 ومتى؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق