السبت، 11 يناير 2020

المصطفى الصغوسي

قراءة في ومضة المبدع المغربي عبد اللطيف ديدوش # عرب، الفائزة بالمرتبة الأولى.
عقدوا القمة؛ رابطوا في السفح.
**********
قد تبدو الومضة جنساً أدبيا سهل التعاطي بسيط التناول، تكفيك بضع كلمات لتصنع ومضة، لكن واقع التجربة يؤكد أن الومضة في صيغتها النهائية ليست سوى ذلك الجزء الطافي من جبل الجليد الضخم. الومضة نتاج ميكانيزمات متعددة يتجاور فيها الذهني والنفسي، الثقافي والمعرفي، الفكري والايديولوجي، الشعوري اللحظي وتجربة الحياة. ذلك أنه عندما نضع أمام المبدعين موضوعا معينا أو صورة محددة، ونطلب منهم كتابة ومضة حولها، يتكشف لنا اختلاف ومضاتهم ومستوى جودتها، بل ونلمس بجلاء اختلاف المعاني التي عكستها ومضاتهم أو الجوانب التي تناولتها من الموضوع أو من الصورة.
كما أن تجاور المكونات تلك وانصهارها وفق كيمياء إبداعية خاصة هي ما يميز ومضة عن ومضة وإبداعا عن إبداع. فولادة الومضة تبدأ باختراق فكرة لمجال إدارك المبدع( والذي أسميه وامضا)، فتحدث له انفعالا معينا(تعاطفا، تقززا، رفضا، فرحا، حزنا...)، يستتبعه رد فعل طبيعي من ذات كاتبة تعبر باللفظة وتتفاعل بالكلمة، حيث تقوم بحصر المعنى والبحث له عن اللفظ المناسب من بين مفردات معجم اللغة ومن الرصيد اللغوي الشخصي الذي ي
تتباين كثافته طبعا من وامض لآخر، ليأتي بعد ذلك، تكييف المستوى اللفظي مع شروط الجنس الأدبي ومميزاته الفنية، ومع ما يتطلبه من مفارقة وتكثيف وإدهاش.
كل هذه المعطيات الإبداعية والتمازج المجالي كان حاضرا بلا ريب في وعي الوامض اللبيب عبد اللطيف ديدوش، وفي لا وعيه أيضا وهو يشتغل على ومضته.
وإذا كانت عملية صوغ الومضة معقدة، بالنظر إلى العوامل المذكورة أعلاه، فإن عملية قراءتها ونقدها هي بلا شك، أكثر تعقيدا، خصوصا وأن الومضة ، هذا الجنس الوليد، لا يمنحك مجالا نصيا أكبر( الاختزال الشديد)، ويأتيك بلا مقدمات وبعتباتٍ أقل.
ولتعويض هذا الغياب، لا بد لكل قراءة أو تحليل نقدي يروم الاشتغال على هذا الجنس، من استحضار سياقين فاعليْن:
السياق العام: ونقصد به سياق الومضة الخارجي الذي حفز خلقها وصوغها. 
السياق الداخلي: وهو تلك المؤثثات التي وضعها الوامض في المتن كي تحدث ذلك التواصل المفترض مع القارئ .
بالعودة إلى ومضة: عرب، فإن سياقها الخارجي تمثَّل في دعوة من مجموعة فن الومضة_ المغرب، في النسخة السابعة من مسابقتها في أدب الومضة، والتي جعلت منطلقا لاستمطار وميض المشاركات نصا قصصيا قصيرا جدا للقاص المغربي المصطفى الصغوسي، بعنوان: تلميع، والذي تناول تيمة راهن العرب وواقعهم بين التمسك بالماضي والتخلي عن الحاضر. وفي هذا الإطار يمكن القول: إن الوامض عبد اللطيف ديدوش قد أفلح بدرجة كبيرة في تلمس هذا الواقع، وفي التعبير الجميل عنه، وهذا يعكس مدى انخراطه كمبدع  كبير في راهن عصره ومجتمعه، ومدى امتلاكه لتلك الرؤية التي تسجل موقفا من قضايا المعيش .
على مستوى السياق الداخلي: يمكن الحديث عن جسور التواصل التي وضعها الوامض وضمَّنها ومضته كي توصل الرسالة إلى قارئها. وفي هذا المستوى نتناول:
١_ الجانب الفني والمعماري للومضة: حيث جاءت مكتملة البناء، منضبطة لشروط جنسها:   _قدمتْ عنوانا ممتدا يحيل على واقع أكثر مما يحيل على عرق.
_ مصراعيْن توحي نقطتهما الفاصلة بالانفصام لكن يعود الضمير (واو الجماعة) لينسج الصلة بينهما من جهة، ومع العنوان من جهة أخرى، في تواشج جميل يخدم المعنى العام للومضة.
٢_ الجانب اللغوي: تفلتاً من قيد الاختزال الشديد الذي يستدعيه جنس الومضة، عمل الوامض عبد اللطيف ديدوش إلى اللعب الذكي بمفردات قليلةٍ،  لكن كل واحدة منها تملك قدرة كبيرة على خلق دوائر معنى واسعة في ذهن القارئ، تماما مثل دوائر تنداح على صفحة بحيرة ألقينا فيها بحجر. وكلما كانت الدوائر أكثر وأكبر كان نجاح الومضة أكيدا.
إن هذا التوظيف الذكي للكلمات جعل منها أحجار صوى تهدي القارئ وتقوده بخيوط ناعمة نحو مروج المعنى.
الكلمة الأولى: عرب بالإضافة إلى نهوضها  بمهمة العنوان، عملت على توجيه انتباهنا نحو منطقة جغرافية تحوي شعوبا يظهر على السطح أن ما يوحدها أكثر مما يفرقها: دين ولغة وعرق ومصير وتاريخ...
الكلمة الثانية: عقدوا، فعل متعد يدل على تجاوز الذات الفاعلة للتأثير في آخر(في مفعول/القمة)، أي أنه فعل يدل على سيادةٍ وامتلاك زمام الأمور، مع واو جماعة تصبح الإرادة جماعيةً، ويصبح التعدد يداً واحدة.
الكلمة الثالثة: القمة، وجاءت بصيغة التعريف، وكأنها نار على علمِ عربٍ لا تخفى قممُهم، وكأن الوامض يذكرنا بذلك التشابه الذي يطبع كل تلك القمم التي عُقدتْ والتي أصبحت نسخا كاربونية يكاد لا يتغير فيها شيئ سوى التواريخ والأمكنة وبعض الوجوه .قمة معروفة قراراتها وتوصياتها قبل أن تنعقد. صيغة التعريف تحيل كذلك على تلك الضجة الإعلانية والصخب الإعلامي والتحركات الديبلوماسية التي تسبق العقد وتليه.. وكأن بالوامض اللبيب يريد إن يقول:" القمة وما أدراك مالقمة".
الكلمة الرابعة: رابطوا، معها مايزال المعنى الذي رسمته الكلمات  السابقة ينداح ايجابيا، رابط فعل عى وزن فاعَل، يدل على المشاركة في فعل الفعل، مثل فعل صافح الذي لا يتم إلا بوجود طرفين على الأقل يتشاركان فيه.فالمرابطة والرّباط فعل جماعي ينبثق من إرادة مشتركة. ومن حيث المعنى فرابَط: يدل على اليقين والتمسك بالموقف وبالحق، كما يحيل على الجهاد،  وعلى التخلي عما عداه حتى تحقيق الغاية.
الكلمة الخامسة: السفح، أعتبرها سر نجاح هذه الومضة، ليس لأنها المعادل الطبيعي المنتظر لكلمة القمة، ولكن لكونها تحدث لدينا تلك الرجة الجميلة التي يخلقها أدب الومضة: المفارقة والإدهاش، حين يتم تكسير المعنى الذي جهدت الكلمات السابقة في بنائه،  ومعه تكسير أفق الانتظار والتلقي. إن السفح هنا يتخلى عن دلالته الجغرافية ليصبح مجازا للقعر والحضيض والتدني. ونصبح أمام صورة من بنى قصرا وسكن في كوخ البستاني! أو صورة جبل يتمخض ليلد فأرا كسيحا.
خلاصة:
استطاع الوامض عبد اللطيف ديدوش أن يدير العناصر الفنية لومضته باقتدار ليوصل إلينا صورة عن واقع مجتمعنا العربي الراهن حيث يتجافى الواقع والشعارات، وحيث تحت صورة الوحدة تتصارع المواقف وتتناحر المصالح وحيث القمة دائما تفضي إلى السفح. لكن ومضة عرب حملتنا إلى قمة من قمم الإبداع الوامض.
هنيئا لك مبدعنا بهذا النص الجميل.وألف شكر وتقدير لمجموعة فن الومضة_ المغرب، على هذا المحفل الأدبي الراقي، والشكر طبعا موصول للأستاذ البهي أديب الفاسي على طيب الجهد ونبل القصد.
**********

المصطفى الصغوسي
 المغرب

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق