الأربعاء، 19 يناير 2022

 أجري في زمن سابق


من لقاءات حسن البقالي : اليوم مع سعيد رضواني


لقاءات:

مع سعيد رضواني


تقديم:


مثل طفل "لاكاني" ينكشف المحكي لذاته في مرايا سعيد رضواني، فيكتشف أنه هو "الأنا" والآخر في نفس الآن، وأن الشجرة الواحدة تخفي غابة من المحكيات يتمرى بعضها في البعض الآخر ويضاعفه، ضمن إطار لانشطارات فادحة للخلايا الجينية للنص.


ضمن الأفق إياه، يحضن الحلمي خاصيات التداخل والتقابل والتكامل والانشطار المرآوي بمرونة أكبر، وإذا ما بين فتح العينين وإغلاقهما تنشأ حيوات وتتقاطع مصائر ويدوخ القارئ زمنا قبل أن يستسلم للعبة الحلم والسرد والموت والتمري التي يديرخيوطها سعيد رضواني حتى انبلاج النهاية.


والمرآة تكرار وامتداد


هكذا يتكرر المحكي دون أن يستنسخ، لأنه محكي يقظ يعرف كيف يعزف اللحن المغاير فيما يخلق له السياقات السردية المناسبة. لذلك بقدر ما يعمد إلى تثبيت الصورة، بقدر ما يسير بها نحو الامتداد والتنامي. وإذا كان الفضاء كمكان ما يتيح للمرآة أن تمتد أفقيا وتضاعف صورة المرئي، فمرآة السرد تضاعف المسرود في الزمن، من هنا الحضور اللافت للزمن في المجموعة، حتى كأن القص ليس في النهاية سوى لعبته الخاصة.


والحديث عن المرايا وتعددها ووظائفها لا يستقيم دون التعريج على الكلب.


إنه الشخصية الأيقونية للمجموعة، والظهور الهيتشكوكي الخاطف أحيانا، لكن الضروري لإجازة القصة.. كأنما هو الطوطم المتجذر في الأزل لقبيلة السرد التي ينتمي إليها رضواني، أو الشبيه والقرين الآخر للإنسان، ومرآته الأخرى الكاشفة للنزوعات الأولية.


سؤال:


"


وفتح عينيه، وعندئذ أبصر عالما لم يره من قبل"


هي الجملة السردية الأولى في مجموعتك، وأود أن أتحدث من خلالها عن القارئ.. أليس القارئ في النهاية هو من يفتح عينيه حين يقرأ الأدب – في أشكاله الجميلة- فيبصر عالما لم يره من قبل، أو ربما رآه دون أن يراه بالشكل الذي يراه به الآن؟


وبعيدا عن النظريات المعروفة عن المحاكاة والانعكاس، هل المرايا جسر بين الحياة والحياة، الأدب والأدب، وبين الأدب والحياة، أم أنها مجرد لعبة تقنية وتجريب في الشكل القصصي؟


ورقة الجواب :


لعله القارئ الذي كنته ومازلته وهو يجوب أروقة المكتبات، وهو يتسلق أرصفة الصفحات باحثا عن معنى آخر لوجوده، عن أجوبة لأسئلة قلقة. أليس الوجود ألف حيرة وحيرة ؟


لعلها الذات النازفة حبرا وهي تداعب بياض الأوراق باحثة عن موطئ قلم بين كتب مهرتها أسماء بأسئلتها المبتكرة لتثقل هذه الذات بمزيد من الحيرة التي ضاعفت تشظيها...


لعله ذاك الطامح الذي كنته وهو يداعب الذرة البورخيسية المرايا/ المتاهات/ تداخل الأحلام التي استعارها من كولريدج وويلز وهنري جيمس والحكم الصينية وألف ليلة وليلة وحوّلها إلى أيقونة يلتف حولها كامل شعره ونثره، لعله ذاك الطامح الذي تجرأ ذات غرور محمود على محاولة فلق هذه الذرة كي يقلب خصائصها ويجعل إليكتروناتها نواة ونواتها إليكترونات... ومثلما قلب فراداي أسس فيزياء عصره في حقل الكهروميغناطيسة ليبتكر بذرة المحرك الكهربائي قلبت مكونات الأيقونة البورخيسية كي أجعل واحده المتعدد متعددا واحدا. أليس إذن للخيال خيال مضاد؟


التف سرد بورخيس حول متاهات مكانية نجد صداها في خمياء كويلهو واسم الوردة لأمبرتوإيكو وغيرهما، ونجد صداها المضاد في مراياي التي لا تعدو أن تكون مجرد متاهة سردية حول مواضيع مألوفة وجد منتشرة ... أليس أخطر متاهة نضيع فيها اليوم هي تلك الموجودة داخل رؤوسنا ؟


هكذا إذن كانت مراياي، قلب للمعادلة البوخيسية الثابت فيها هي المتاهة والأحلام والمرايا وهذه تيماته المفضلة التي يؤطرها سرد حكائي ، بينما تيماتي أنا ركام من الأحداث التي نصادفها كل يوم في شوارعنا الضاجة بالفقر والاغتصاب والموت، أطرتها بسرد متجاذب متقابل متصادي متعاكس مثل ذاتي التي تستقل في الإبداع وتُستعبد في العمل، مثل ذاتي التي كلما تقدمت أشواطا في الخلق والإبداع تراجعت أشواطا في العمل... عملي لا يترقى فيه إلا أصحاب العضلات القوية... عملي يحولني أنا الذي أروم في حقول أخرى صنع آلات إلى آلة.


بالأمس فقط قال لي أحد الأصدقاء . " قصصك عوالم متعددة تضعها في تقابلات سردية تكاد تتشابه" أجبته : " سؤالك هذا طرح علي مئات المرات / كرر مئات المرات فهل تنتظر مني أن أصيغ إجابتي عليكم بمئات الأشكال. انظر أمامك ستجد جلستنا هذه مكررة آلاف المرات، أليس نحن مجرد مرايا تنعكس على بعضها البعض ؟


ذهب صديقي حائرا وتركني أفكر في كتابة قصة حكايتها مترابطة ومتلاحمة لكن سير أحداثها متشظ يتوزع على شخوص مشتتين لا يربطهم رابط ولا يجمهم شيء... هذه طريقتي في رصد العالم الذي أراه أصلا واحدا لكن نسخه متعددة تكاد أن تتشابه وتتطابق.


هكذا أرى الفن، هكذا أرى العالم وكأني أرصده من فوق شعاع (كما تمنى إنشتاين) كي أتجرد من ظلي... كي لا أرى وجهي مكررا في المرآة.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق