الجمعة، 28 يناير 2022

عبد المالك أشهبون

 يا أهل فاس العامرة من منكم يتذكر أيقونة حي الملاح: "سوليكا" ؟ 



في نهاية الستينيات، بدأ حي "الملاح" يفرغ من ساكنته من يهود فاس بالتدريج مع بروز قصة أرض الميعاد ورواجها، فقد كان إيمان طائفة منهم بفحوى القصة سببا في اقتلاع أنفسهم بأنفسهم من جذورهم الراسخة ومن تربتهم الأصيلة. المهرولون إلى أرض الميعاد لم يتركوا خط رجعة لهم في حي "الملاح" الشهير، باعوا كل شيء، صفَّوا كل ممتلكاتهم إلا القلة القليلة التي لم تنجرف مع التيار العارم، ومن بين من لم تستهويهم قصة أرض الميعاد: شخصية "سوليكا"، وهي المغربية من أصل يهودي...

 في طريقي إلى ثانوية القرويين، ذهابا أو إيابا، كانت سيرة وصورة "سوليكا"، رائجة ومألوفة في حي "الملاح"، بل كانت هذه ترمز لكل معاني التعايش والتآلف بين سكان الحي الشهير في فاس. فقد كانت "سوليكا" يهودية أباً عن جد، مغربية الولاء، فاسية الهوى، وشعبية الطباع حتى النخاع.

أستعيد صورتها وقد تخطت عتبة الشباب بأعوام، وأخذت تنحدر مع السنين في منعرجات عقدها الخامس. تراها تقتعد أرضية أحد الشوارع الأكثر كثافة وضجيجا في فاس، مرابطة على عتبة دكانها الرابض في نهاية شارع "الملاح" الرئيس، بجوار محلات بيع الذهب. كانت "سوليكا" تمتلك متجرا تبيع فيه مختلف العقاقير من قبيل: مواد البناء من ميزان الخيط، والملاسة، والطالوش، وميزان الماء، وحتى بعض الأدوات المستعملة في مجال الفلاحة...

تتجاذب أطراف الأحاديث والنكات مع من تثق في مجالستهم؛ لأنها تعلم أن هناك من يكرهها كرها لا لسبب أو لداع بل لانتمائها الديني فقط. مع أن اليهود المغاربة مخلوقات مثلنا لهم الحق في الحياة والعيش الكريم في وطنهم الأم...


كانت تدور حول سيرة "سوليكا" شبهات لم يصدقها إلا نفر قليل من أهل فاس؛ فقد كان أصابع الاتهام تشير بأنها كانت تبيع، سرا، شراب الماحيا المسكر. فالشيء بالشيء يذكر، حيث كان اليهود متخصصين في صناعة وبيع وتسويق الماحيا عن جدارة واستحقاق في كل ربوع مغربنا الحبيب. غير أن بعض العارفين بأسرار الشأن الفاسي يؤكدون بأن ما يقال هو محض إشاعات كاذبة، يروجها حساد هذه المرأة الجريئة، وناكرو معتقدها الديني من المتعصبين.

 صحيح أن "سوليكا" كانت تضفي على الفضاء الفاسي ألقا خاصا؛ بحيث كانت تثير فضول المارة خصوصا من النساء المحافظات، بما هي ذلك "الغير" المحسوب على نسيج ثقافي مسلم، يعتقد أنه ينتمي هو الآخر لأحد الأديان السماوية الثلاث. غير أنه في الوسط الجمعي الفاسي، فهي مثال للمرأة المنفلتة عن الإطار المنزلي، والمنخرطة بالعالم الذكوري زمنئذ بدون عقد أو خجل أو وجل. كما أنها كانت تتحاور مع زبنائها المسلمين بدارجة مغربية مكسَّرة، لكنها تتحدث معهم باحترام لا يجعلها عرضة لسهامهم الجنسية الذكورية الطائشة.

وأنا في ميعة فتوتي كنت أندهش من طرافة لباس "سوليكا" وتبرجها وجرأتها في الكشف عن مفاتنها. فقد كانت متوسطة الطول، لا يخلو جسدها من امتلاء، يكشف ثوبها عن نحرها وذراعيها، وينسدل شعرها الأشيب على قفا عنقها العاري، تنورتها لا تغطي فخذيها الأبيضين، ومعطفها يكشف عن ذراعيها العاريتين، كل هذا وذاك يجعلها تخطف أعين المارة، وتثير انتباههم...باختصار كانت جريئة في لباسها غير المحتشم، فرغم تقدمها في العمر وقد تجاوزت الستين، كانت "سوليكا" ما تزال تتمتع بغير قليل من الجمال والحسن، إلا أنها كانت تبالغ في مظاهر الزينة، كأن تضع على رأسها باروكة أحيانا، أو تسرف في عناصر التجميل من مساحيق يحول وجهها لوحة ملطخة بالألوان. 

عرفت "سوليكا" في ريعان الشباب. فقد كنت أحتل مكاني بين زمرة من شباب الحي العتيد، حيث كنا نقضي عطلتنا المدرسية في اللهو والعبث البري والصيد... كان صيد الطيور إحدى أهم الهوايات التي درج عليها الفتى وأترابه.. وكانت له صولات وجولات في هذا المضمار، كما كانت له خيبات تذكر، رغم سلاحه الجيد، وهو "رامي حجارة" (الجباذ)...

كان "رامي الحجارة" في مرحلة من مراحل الفتى هو عبارة عن شريطين متوازيين من المطاط الأسود الذي كان يتمطط بصعوبة، ويتعذر التحكم فيه أثناء الصيد، ثم انفتح فتيان الحارة بعدها على الشريط المطاطي الأحمر، قبل أن يرسو اختيارهم على الشريط المطاطي الشهير المسمى "الكاري" الذي كان سلاحا فتاكا وفعالا في مغامرة صيد الطيور. 

يومها قررنا أنا و صاحبي أن نشتري "الكاري"، فكانت قبلتنا هي متجر "سوليكا" الشهير لبيع هذا السلاح الفتاك...

ـــــ قال صاحبي: هل سنشتري "الكاري" من تلك اليهودية؟ 

ــــ قلت: نعم وما المشكل؟ 

قال: وهل ترضى أن ندعم تجارتها المشبوهة؟

الظاهر أن صديقي كان مصرا على كره كل من وما هو يهودي...

قلت له: وما ذنبها إن كان الله قد خلقها في بيئة يهودية؟

قال محاججا: ستستمر في التعاطف معهم والدفاع عن الصهاينة...

قلت ضاحكا: أنا أفرق بين اليهودية والصهيونية يا صاحبي، فلا داعي للتعميم.

وها أنذا أستعيد شريط ذكريات شراء الشريطين المطاطيين، من حانوت تلك المرأة التي كان وجهها بشوشا، وهي تعرض علينا بضاعتها، ويومها قلت لصديقي:

يعجبني "الدومي كاري"؛ فقد وجدته أكثر مطاطية من "الكاري" الذي كان يتمطط بصعوبة، 

ومن يومها كلما مررت من أمام دكان "سوليكا"، أتأملها مليا في سكناتها وحركاتها، وأثني على جرأتها في تصرفاتها مع الزبناء، بل وصراخها المتواصل في الرد على المشترين الذين يتجاوزون حدود الأدب معها، خصوصا المنتقصين من شأن اليهود، لحظتها تغمرها سحابة من الكآبة والحزن...فقد كان لسان حالها يقول ـــ كما أتصور ــــ : "أنا واحدة من النسيج البشري في حي الملاح أيها الناس، حي الملاح برجاله ونسائه، مسلمين أو يهود، أغنياء أو فقراء لا أقل ولا أكثر"...

لكن "سوليكا" كانت مع ذلك لا تتردد في مجالسة بعض أصدقائها الذكور من أصحاب المحلات التجارية المجاورة أو زبنائها الأخيار لا الأغيار؛ فالابتسامة لا تكاد تفارق شفتيها في حالة المرح والسرور، تمازح هذا، وتحادث هذا، تسأل هذا وتجيب آخر.. 

وهكذا كانت "سوليكا" في مجلسها الصغير قرب حانوتها، يلتف حولها أصدقاؤها، تتصدر جمعهم؛ فتظل تحادثهم وتباسطهم، والجماعة من حولها سابحين في جو من المرح والغبطة. فتلفيها ساخرة في ضحكتها ومستهترة في جلستها، حلوة المعشر مع جلسائها الأخيار الذين تَحملُ لهم وُدّاً وتَحملُهُم على مُبادَلَتِه بنظيرِه.

أتذكر "سوليكا" في مشهد غاضب، حينما سمعت من زبون في ريعان شبابه ما أثار غضبها، رمقته بنظرة حادة وأجابته، والغضب باد على قسمات وجهها: أي نوع من السلع تريد بالضبط،  وإياك أن تنظر إلى هيئتي أو جنسي؟! أتخالني جديدة في الميدان؟ وبعدما استوثقت من صحة ما يبتغيه الزبون، طلبت منه أن يدلف إلى داخل المحل لعله يجد بغيته..

بعد لحظات من الحوار المضطرب بين الطرفين أخرج الشاب أوراقا مالية، ناولها لسوليكا بيد ترتجف، وبدورها أخفت الأوراق في جيبها المحكم، وأخذت تعدها، وهي تتحدث مع الشاب لتتأكد من أنها تسلمت النقود كاملة. فلسوليكا مقدرة عجيبة على القيام بمهمة الحساب والمحادثة في آن واحد، والعهدة على رواية من جاورها من التجار والحرفيين وبعض الزبناء...

هكذا لا يمكن الحديث عن مدينة فاس المتسامحة دون ذكر اسم "سوليكا": المغربية الولاء واليهودية المعتقد والفاسية العشق والهوى؛ لأنها كانت تمثل ــــ يومها ــــ رمز التعايش والتسامح، خصوصا في بيئة مغربية ترسخت فيها صورة سلبية عن اليهود.  غير أن ما يحز في نفسها هو رواج الصورة السلبية عن بني جلدتها، بل ما يشعرها بالقرف حين لا يتلفظ بعض العامة من الناس باسمها إلا مقرونًا بكلمة اعتذار(حاشاكم)، وكثيرا ما سمعت بعض زبنائها يتحدثون في ما بينهم، وهم ينعتونها فيقولون: «يهودية حشاكم»، أو يعتذرون عن ذكر اسمها، كما يعتذرون حينما يتلفظ أحدهم بلفظ قذر أمام شخص محترم. هذه الصورة المسبقة عن اليهود عامة، وعن "سوليكا" خاصة، خرج بها عن المألوف، وجعل من حياتها في حي الملاح صورة تختلف عن صور بنات جنسها. فمن طرائف الحكايات أن بعض الأمهات كن يشبهن بناتهن العاقات باسم "سوليكا"... 

قرأت في منشور لا أتذكر مصدره الآن أن صاحب المنشور كانت أمه تنادي أخته "سوليكا" عندما كانت تثير حنقها وغضبها؛ لا لشيء إلا لأن اسمها يحيل في تصوراتنا الفاسية المحافظة على المرأة الخارجة عن النمط النسائي المألوف الذي يربطها بالاطار المنزلي ويسجنها فيه؛ فكأن اسم "سوليكا" كان يعد شتيمة لكل فتاة سوَّلت لها نفسها التمرد على التقاليد المؤسسة على مقاربة النوع بمفهومها الجمعي.

بهذه ترسخت أيقونة الملاح الشهيرة "سوليكا" في ذاكرتنا الجماعية في فاس؛ فهي تمثل نموذجا للتعايش والتسامح الإنسانيين في أبهى تجلياته، لأنها ـــ ببساطة ــــ كانت مغربية حتى النخاع، لم تدغدغ شعورها شعارات أرض الميعاد؛ فظلت مرابطة في حيها الأصيل، ولم تبرحه، بل ظلت مرابطة في ربوع فاس إلى أن وافتها المنية. 

فعلا كانت "سوليكا" تمثل ذاكرة جمعية بفاس العامرة، بتعدد طوائفها الدينية وأصولها الاجتماعية؛ وهي ذاكرة ينبغي حفظها من الضياع، فمصيرُ كثيرٍ من أيقونات فاس العامرة إلى الزوالِ والنسيانِ والإهمالِ وفي كل المستويات الثقافية والعلمية والرياضية، إذ إن "آفة حارتنا النسيان" على حد تعبير رائد الرواية العربية نجيب محفوظ.




هناك تعليق واحد: