اعلام راحلون ، من حلب
وجمعية العاديات
" عبد الكريم الأشتر "
1929 / 2011
نص كلمة الأديب محمد قجة في تأبين صديقه الراحل استاذنا الدكتور عبد الكريم الأشتر .
ها أنت تغادرنا في رحلة غيابٍ لا تستثني أحداً.. ولكنه غيابٌ لا يقوى أن يمحو الأثر المضمّخ بالعطر الذي تركتَه، وكما أن الذِكْر للإنسان عُمرٌ ثانٍ، فإن ذكراكَ هي العمر الباقي، ذكرى الأستاذ والمعلم والأديب والناقد والباحث والأكاديمي والمفكر، وقبل ذلك كله ذكرى الإنسان والوطني والقومي وعاشق الأمة وتراثها.
*****
لن يغيب عني مشهد اللقاء الأول بين الأستاذ والتلميذ، حينما كنتَ قادماً لتوّك من القاهرة تحمل شهادة الدكتوراة في الأدب العباسي، وكنتُ طالباً في كلية الآداب في جامعة دمشق، إنه مشهدٌ عمره نصف قرن. وفي الامتحان الشفوي سألتني: هل أنتَ من حلب؟ فأجبتك: من أعماقها. وانفرجتْ أساريرك عن بسمةٍ أضاءت الوجه الوسيم بملامحه الهادئة والمحببة، وكنتُ أعلم أنك من أسرةٍ متجذرة في حلب العريقة، أسرةٍ أنجبت رجال الفكر والأدب، وكانت لها بصماتها في الحياة الاجتماعية لمدينة حلب المحروسة.
ولم تنقطع الصلات بيننا: زياراتٌ وأحاديث هاتفية، وتبادلُ كتبٍ ومتابعاتٌ ثقافية، ومحاضراتٌ كان لنا شرف استضافتك خلالها، في منبر جمعية العاديّات أو في منابر أخرى، وكنتُ دائماً أقف أمامك موقف التلميذ من أستاذه، فلقد بقيتَ دائماً الأستاذ والقدوة وموضع التقدير والإجلال، وكنت أتابع كتاباتك في الدوريّات المختلفة، ولقد شدّني حديثك عن ذكريات العمر التي سفحتها على صفحات (مجلة المعرفة) في حلقات متواصلة، وكانت ذكريات عمرك الشخصي، وذكريات عمر الوطن في الوقت نفسه، الوطن بأحداثه ورجالاته وماضيه وحاضره وآفاق مستقبله.
ولا تزال مكتبتي تعتزّ بكتبك وعليها إهداؤك العزيز إلى قلبي، وبخطّك الجميل وتوقيعك الغالي، كتبٌ فيها سجلُّ فكر وأدب وثقافة وتجربة إنسانية عميقة. وكان آخر اعمالك فبل الرحيل " ايليا أبو ماضي " الذي قمت بجمع ديوانه وضبطه وشرحه ، ويحمل تاريخ 2008 , وتم طبعه في الكويت ، ولدي نسخة ثمينة منه بإهدائك النبيل .
*****
ولعل أجمل الذكريات التي أحملها وأعتزّ بها، هي مشاركتك في حفل التكريم الذي أقامته لي وزارة الثقافة عام 2008 ، وكانت موافقتك على المشاركة في تلك الندوة تكريماً لي بكل المعاني. وكانت الكلمة المركّزة التي ألقيتَها تاجاً رصّعتني به. وكان مما ورد فيها:
(أوَليس من جميل العرفان أن يقف الأستاذ موقفي من الشهادة لتلميذه في حفل تكريمه؟ ولكن ما الذي يعنيه التكريم: إنه تكريم العمل وحفز الآخرين على الاقتداء بمن يعملون، وعند هذا المعنى يجب التوقّف لما يعني التكريم عنه من سدّ السبل أمام العاملين أو تصفيتهم والإخفاق في السعي إلى الخير العام، وما يصيب أصحابه من اليأس والإحباط والعجز، تتعدّى نتائجها أصحابه إلى المجتمع الذي يعيشون فيه، ويلتمسون الخير له ولأنفسهم جميعاً. وفي نفسي وأنا أقول هذا الكلام أمثلة لا تحصى من مواجهتهم بالحسد المستور أو الغيرة من النجاح فيما أخفق الحاسد فيه أو قصّر عن بلوغه. انتهزتُ فرصة شهادتي فيك لأقول هذه الكلمة، التي ما أريد منها أن أتمثل بك وقد نجحتَ فيما قصدتَ بحمد الله، ولتبقَ سمحاً ودوداً، وإلى جانبك من أصدقائك العاملين في الحقل الثقافي العام، إخوةٌ يتمنون لك ما تتمناه لنفسك.
احفظ رسالتك التي تؤديها في جمعية العاديّات، وأوصيك يا "أبا الحسن" -ولي الحق في وصايتك- أن تتسلح بالحب والسماح وكرم النفس، وهي الصفات التي عرفتها فيك).
هذه كلمات "عبد الكريم الأشتر" التي سوف تبقى نبراساً لي وقدوةً ومنارة تأخذ بيدي إلى منابع العلاقات الإنسانية الرفيعة.
*****
وفي مرضك الأخير يا أستاذنا الجليل، كنتُ أعودك وأنت على فراش المرض، في المستشفى الذي يحمل اسم أسرتك الكريمة، وكنت تحدّثني عن القوة الروحية والمعنوية التي يمتلكها الإنسان، والبسمة الرقيقة لا تفارق محيّاك الوديع، وذاكرتك اليقظة تواكب الأمور وتستعرض ما يجري، ويؤنسها ذكر الأصدقاء من تلاميذك الكثر الذين يحفظون ما لَك من يدٍ عليهم لا يطويها الزمان.
وكنا نتهيأ لإقامة حفل التكريم لك، ونسألك عمّن تريد أن يتحدث فيه، ولكن المنيّة عاجلتك فاختطفتك منّا، لتترك فراغاً في ميدان الثقافة والفكر والعمل الوطني والقومي والإنساني، وعشق اللغة العربية، وضرورة العناية بها في كافة مجالات العلم والإعلام والحياة. وبدلاً من حفل التكريم بحضورك، ها نحن نشارك في حفل تأبينك وأنت الغائب الحاضر، ويتقاطر المحبون والأصدقاء ورجالات الدولة ليدلوا بشهاداتهم بحق عميد الثقافة في مدينة حلب.
لن يغيب ذكرك عن أذهاننا، ولن تغيب صورتك عن عيوننا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق