الثلاثاء، 1 فبراير 2022

محمود عبد شكور في قراءة نقدية للمجموعة القصصية بلاد الطاخ طاخ

 المجموعة القصصية" بلاد الطاخ طاخ" لانعام كجه جي



«بلاد الطاخ طاخ».. سخرية بحجم الألم والحنين

السبت 29 يناير 2022 - 7:35 م

 محمود عبد الشكور

مثل أثر الفراشة الذى لا يُرى ولا يزول، على حد تعبير محمود درويش البليغ الذى يليق بمعنى الفن، تترك هذه المجموعة القصصية، المنسوجة من مادة الألم والخيبات، والمطرزة بالحنين والذكريات، مساحة واسعة من التأمل والدهشة، وبعض الشجن العابر وراء السخرية اللاذعة. تقول القصص ولا تقول، تعيد قراءة العادى والمألوف، وتفضح الادعاء وجنون العظمة، وترد على المخاوف بسردها ومواجهتها، وتنتقم بالفن من القبح والإحباط.


الروائية العراقية إنعام كجه جى التى رصدت التغريبة العراقية فى روايتها «طشارى»، والتى عادت إلى قراءة التاريخ فى «النبيذة»، تقدم فى هذه المجموعة القصصية، الصادرة عن الدار المصرية اللبنانية، بعنوان «بلاد الطاخ طاخ»، 12 حكاية تستوعب عالما بحجم الوطن، وبحجم قدرة الكاتبة على التقاط اللحظات والتفاصيل.


لعلها رفقة بلاد لا شفاء منها، تسكن فى القلب ولا تغادرها مهما كانت قسوة الظروف، وليست هذه القصص البديعة إلا تنويعة على «الانفلات السعيد»، أو «رحلة العمر»، التى عاشتها بطلات إحدى قصص المجموعة: حاصرهن الخوف لأسبابٍ مختلفة، فكان الانفلات السعيد، وكانت رحلة العمر.


تحكى إنعام مستعيدة ذاكرة خصبة وحية، فتمنح الأشياء (مرأة أو صورا قديمة أو جواز سفر أو كاميرا عتيقة أو نخلة وحيدة أو تمثالا شمعيا أو مسدسا ذهبيا أو حافلة منطلقة) دلالاتٍ شديدة الثراء، تستدعى التاريخ، وتنقل الفكرة من دون صخب أو هتاف، بل يمكن القول إن هذه القصص ترد على زمن الصخب والهتاف و«الطاخ طاخ»، وتهزمه بالسخرية، رغم التسليم بأن الاستبداد، وفشل السياسة، قد دمر البلاد، وأسقط النخلات العاليات، وجعل الكثيرين مثل بطلة إحدى القصص، التى تترجم هزيمتها بأن ترفع علامة النصر، وهى تمسح دمعتها بردائها.


يمكن أن تقرأ المجموعة أيضا عبر مفتاح تجسده عبارة تقولها بطلة إحدى القصص: «يطاردنى بلد الألف ليلة حيثما حللت، ليس بينها ليلتى»، ورغم أن أبطال وبطلات الحكايات يواجهون قوة عاتية، فإنهم لا يتوقفون عن محاولة العودة للبلاد، سواء عبر السفر، أو من خلال استدعاء الذاكرة.


لعل القصص «نشيد الحياة السرى» الذى يتحدى الإحساس بالعجز والألم، وأن يبتكر ما يعادل تلك التجارب المختلفة، وأن يجعل مصطلح «أن تسافر» بديلا عن مصطلح «أن تهرب أو تهج»، كل قصة تمتلك مفاجآتها ودلالاتها العميقة، رغم بساطة ظاهرية فى الاستهلال، سرعان ما ندرك عمقها مع كلمة الختام، وإن كنا أمام نهايات تفتح بدورها على أسئلة معلقة.


فى «مرأة كرداسة» تبدو المرآة شاهدة على تحولات التاريخ، وعلى فقدان الأصدقاء، وفى «صورة المرحوم» تقوم صورتان بنفس الدور، من صورة بومدين فى الجزائر، إلى صورة شهيد فلسطينى معلقة فى باريس، الصور تشهد وتعيد التاريخ كاملا بأبطاله وأنذاله، والسخرية تصنع جسرا واصلا بين «الحسرة» و«الحصرة»، فيصبح فعل التبول تحررا وتمردا وتعليقا فى الوقت نفسه.


فى «عارية فى الوزيرية» يصبح رماد النحات العائد إلى وطنه جزءا من تمثالٍ يتحدى التزمت، حتى الرماد يتحالف مع الأحياء فى مواجهة القبح، وفى «الكاميرا الأولمبس» ترصد تغيرات عاصفة عبر كاميرا حديدية عتيقة، صاحبت صحفية خلال نصف قرن، وعندما يمتلك الكاميرا أحد السادة الجدد، يصبح امتلاكها مصادرة للتاريخ وللشاهد معا.


السخرية من الاستبداد تعبر عن نفسها فى قصة «بلاد الطاخ طاخ»، فيتحول الديكتاتور إلى تمثال شمع يريد حريته بعيدا عن المتحف، ولو فى مقابل رشوة الحارس، ويتحول أيضا إلى ممثل لشخصيته فى فيلم، وفى «مسدس من ذهب» يحصل الشاعر على سلاح ذهبى من الديكتاتور، فيهرب الشعر إلى الأبد، وفى القصة المدهشة «المترجم رجب»، يتسلل جنون العظمة من الحاكم إلى مترجمه، فلا نعرف كيف انتشر الداء العجيب؟!


وسط قصص المجموعة، تبدو قصة «الخوافات» كجوهرة لامعة، إنها حكاية الخوف والتمرد عبر سبع شقيقات، كل واحدة تخاف من شىء مختلف، ومن خلال رحلة خيالية ينتصرن على مخاوفهن، ويسحقن من أراد إنهاء الرحلة، المرأة هى الحلقة الأضعف فى سلسلة المجتمع، وتتحمل نصيبا أكبر من الخوف، ولكنها قادرة على أن تتغلب عليه، وأن تنطلق إلى البحر.


يبدو الحب ملاذا ووطنا بديلا، ولكن ببعض الثمن والألم: فى «مرارة» يصبح الزوج الذى اختارته المرأة رغم الرفض واحة مواساة أمام ألم استئصال المرارة، وفى «نخلتى» يبدو الحب قصير العمر أمام صوت الشعارات التى لم يتحقق منها شىء.


ولكن الوطن يستعيد حضوره فى القصة الأخيرة «عهود وحدود»، عبر رحلة معاناة لعراقية عائدة برا من الأردن إلى بلدها، تفكك القصة تجليات الحصار والاستبداد، وترد على السخرية بسخرية، ترى العائدة إلهام قائمة بأسماء نسوة تحملن نفس اسمها، فتعلق: «كل هؤلاء إلهامات ممنوعات من السفر؟»، يسألها ضابط المخابرات: «دكتورة بأى مرض؟»، فترد ساخرة: «حاشاك بالأدب»، فيعلق بدوره: «يعنى شغلة ميتة»، تتساءل إلهام وهى ترى الأجانب فى بلدها يديرون الأمور: «أى وطن هذا الذى تدخله بالقاموس؟»، وتختزل أصل المأساة فى عبارة: «يذهب بعبع، ويأتى بعابع».


يتعلم أصحاب البصر من العميان أصحاب البصيرة (قصة عمياء فى ميلانو)، وتمتزج تراجيديا أم لم تعرف ابنها بعد 16 عاما من رحيله، بملهاة سوداء تجعل أما تدفع كفالة لتسفير ابنها من الوطن، بدلا من أن تدفع فدية لمختطفيه، إذا ظلَ فى الوطن.


لم ترد إنعام كجه جى أن تمد خيط العبث إلى نهايته، رغم بذرة عبث ضمنية حاضرة فى القصص، ولكنها اختارت أن يظل الواقع مسيطرا، باستثناء قصة الشقيقات السبع.


تركتنا نتأمل المفارقة فى حضورها الثقيل الواقعى، مثلما نتأمل غلاف المجموعة المعبر (لوحة للفنان على آل تاجر) التى تجعل جيفارا راقصا من راقصى المولوية، فكأنه يعبر بذلك عن تلفيقٍ فج، يعادل أحوال البلاد والعباد الملفقة.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق