الأحد، 6 فبراير 2022

عبد المالك ابو الأنوار

 مناقب الفضاء الافتراضي العربي ومثالبه

 سعيد يقطين



لا مراء في أن وسائط التواصل الاجتماعي الجديدة أدخلت عادات وتقاليد غير معهودة سواء على مستوى العلاقات الاجتماعية، أو الثقافية، أو الاقتصادية، أو السياسية. ولا لأحد أن ينكر أدوارها الإيجابية في تحقيق التواصل بين الناس، وتجديد ما انقطع من صلات وعلاقات، بما صارت توفره من إمكانيات للعثور على من نبحث عنه، أو نود التواصل معه، أو التعرف على وجوه جديدة لم نكن على معرفة بها من قبل. غير أن هذه الإيجابيات تقابلها سلبيات نختصرها في كلمة واحدة: إنها بدل أن توثق عرى العلاقات القديمة والجديدة بنقلها من الفضاء الافتراضي إلى الواقع، أبقت عليها أسيرة ذاك الفضاء، بل وعزلتها داخله، مما يجعل إمكانية فكها، أو قطعها يسيرة وسهلة في أي وقت.

يظهر ذلك بجلاء في أننا كم من مواقع التواصل انخرطنا فيها، وكم من طلبات الانضمام، نقترحها، أو ترد علينا، ويكون الترحيب والمشاركة في أغلب الأوقات. تتولد علاقات «المودة» و«الصداقة»، وكلما تعرض أحد أصحابنا في هذا الفضاء الافتراضي لخبر سار باركنا له، وتمنينا له التوفيق. وإذا، لا قدر الله، أصابته مصيبة موت أحد الأقارب، أو المرض، دعونا للفقيد بالرحمة والمغفرة، وللمريض بالشفاء العاجل. لا أحد يجادل في استرجاع هذا النوع من العلاقات التي كان آباؤنا وأجدادنا يرونها جزءا أساسيا من حياتهم اليومية. بل يعتبرونها أهم مقوم لحياتهم: «أن تسأل عني، وأسأل عنك»، و«تفرح لي، وأفرح لك»، مهما كانت الظروف، والملابسات، حتى وإن عرفت العلاقات ما يكدر صفوها أحيانا، وأحيانا أخرى، حتى وإن وصلت إلى حد القطيعة. هذه التقاليد ذات البعد الاجتماعي هي التي حافظت على قسط مهم من تميز مجتمعاتنا الإسلامية والعربية عن نظيرتها الغربية. وإنها باتت الآن معرضة للزوال؟

إن هذه العلاقات التي نربطها فيما بيننا في الفضاء الافتراضي مهمة جدا، ولكنها قابلة في أي وقت لتنقطع نهائيا. وأرى بين الفينة والأخرى رسائل الانسحاب من الكثير من المجموعات مما يعني أن بعض العلاقات في هذا الفضاء هي مثل «رُفقة الخرشف (الخرشوف)، دَغْيا (بسرعة) كَتنشف (تيبس)»، كما كان يقول والدي رحمه الله. وما يجري في هذا الواقع الافتراضي من تواصل وتقاطع بين الناس عموما، يجري بين المثقفين والمبدعين. لكن مسؤولية المثقفين أعظم وأضخم.

كانت العلاقات بين المثقفين، تتم من خلال متابعة ما يكتب، ومناقشته، ومواكبة ما يكتب بهدف التعرف على أوجه النظر المختلفة بهدف الاصطفاف إلى بعضها، مقابل بعضها الآخر. كان التعارف والتواصل يتم في قاعة الدرس، وفي حضور النشاط الثقافي، وفي كتابة الرسائل. وكان الميل إلى تشكيل الجماعات التي تنسجم فيما بينها مؤشرا لاستثمار الوجوه الجديدة للمساهمة في تطوير العلاقات، وجعلها ترقى إلى «مؤسسة» تشترك في جملة من الهموم، وتسعى إلى التفكير فيها بشكل جماعي. ما كان يؤدي إلى هذه الرؤية، وتحويلها إلى ممارسة هو القناعة المشتركة بحمل هموم الوطن، والتفكير بضرورة التغيير حسب الإمكانات والاستطاعة. لا عبرة بالكيفية التي كانت تشتغل بها تلك الجماعات، ولا بمدى النتائج التي حققتها. إنها كانت وليدة حقبة من تطور الوعي في المجتمع العربي، وكانت محكومة بجملة من القيود الاجتماعية والفكرية، والإكراهات السياسية، وبسياق مختلف عما نجده الآن. وكان من نتائج ذلك: تشكيل الجمعيات الثقافية والمسرحية والسينمائية، ودور النشر، وإصدار المجلات التي لم تكن في ذلك الوقت تتلقى أي دعم من الدولة أو الحزب. أضرب هذه الأمثلة مما عشناه، وعايشناه في السبعينيات والثمانينيات.

تتشكل الآن مجموعات للتواصل والتفاعل بين المثقفين عبر الواتساب، أو عبر متابعة صفحات الفيسبوك أو التويتر، لتبادل الأخبار الثقافية، وتوطيد العلاقات بين المثقفين والكتاب، أو تحميل الكتب، وما شابه هذا من أشكال التواصل والتفاعل. لكن هذا الجانب الإيجابي القائم على التعرف على الآخر، ومتابعته، لم يتم استثماره على الوجه الأكمل. لقد اتخذ بعدين متناقضين ينهضان على أساس إما المغالاة في استدرار العواطف الإيجابية، والمقبولة، أو المبالغة في ممارسة العنف اللفظي الذي يؤجج المشاعر، ويقوض العلاقات، وهو من الأهواء المرذولة، أو التجاهل والنكران (أنا لست هنا، وإن كنت هنا؟). وهنا يمكننا الحديث عن المناقب والمثالب.

إن المناقب التي تحققت مع الفضاء الافتراضي كثيرة، ومهمة، ولا يمكن أبدا تناسيها. وأهم ما تحقق منها، إلى جانب تبادل أواصر المحبة، والمتابعة الدائمة، والتعليقات المشجعة، هو البقاء على صلة مع الآخرين، في الوقت الذي صارت فيه مسوغات الدفع إلى العزلة أكثر من مبررات العمل على التواصل مع الآخرين.  وفي ذلك تعبير واضح على هيمنة روح التشاؤم الذي تفرضه السياسات العربية التي تسعى لتكريس واقع لم يبق أي مبرر لاستمراره.

أما المثالب التي لا تحصى، وخاصة ما اتصل منها بجعل الفضاء الشبكي مساحة واسعة للخزعبلات، وممارسة مختلف أنواع الدجل والتجهيل، والذي يمارسه جملة من أشباه المثقفين، والذباب الإلكتروني الذي هو في خدمة تكريس الواقع، فتكمن، من زاوية النظر إلى واقع المثقفين، في نوع من الحياد السلبي الذي يكشف بالملموس القناعة التي باتت هي المهيمنة في ظل واقع بئيس، والتي نختصرها في: «ليس في الإمكان، أبدع مما كان». هذا النوع من الحياد يبرر واقعا نعيشه جميعا. وبدون التفكير في طرح الأسئلة الملائمة لتجاوزه، تسود الرؤيات التشاؤمية والانعزالية.

صار الفضاء الافتراضي في ظل هذا «الحياد السلبي» بالنسبة لبعض المثقفين دليلا للتعبير عن حالة نفسية مؤداها: «إنني ما زلت موجودا حاليا كمثقف قديم». أما عن كيفية هذا الوجود فلا تتعدى إثبات الذات، أو إحياء صلة الرحم، أو الإدلاء بتعليقات تدل على نوع من التفاعل والقبول، أو إبداء رأي، أو طرح سؤال. إذا كنت أجد لمن هم من جيلي، أو قبله بقليل، بعض العزاء بسبب انقطاع بعضهم عن الكتابة، أو عدم القدرة على المواصلة بسبب السن، أو أي سبب آخر مقبول، فإني لا أجد للأجيال الجديدة، من مواليد السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات، ما يسوغ ممارستهم لهذا «الحياد» الذي لا يبحثون من ورائه سوى عن فرض وجودهم الأدبي، أو النقدي، أو الثقافي، بشكل فردي لا يخدم، في المحصلة النهائية سوى مصلحتهم الذاتية.

إن العلاقة بين الواقع الافتراضي بما يسَّره من إمكانات للتواصل والتفاعل، والواقع الحقيقي الذي نعيشه، وكأننا منعزلون عنه، لا يمكن أن تتخذ بعدها الحقيقي ما لم تكن مبنية على أساس جدلي: نذهب من الواقع إلى العالم الافتراضي، لنعود إلى الواقع. إذا لم نحول العلاقات التي نقيمها، افتراضيا، إلى علاقة واقعية، فهي «خيالية»، أو «متخيلة». إن الجماعات التي تتكون في الفضاء الشبكي إذا لم ترتق إلى مستوى ترجمتها واقعيا تظل سرابا.

ما جدوى أن نخبر عن صدور كتاب إذا لم نفكر في تقديم قراءة له في فضاء عمومي، أو أن نكتب عنه قراءة في جريدة. وما فائدة تشكيل جماعة افتراضية إذا لم يكن من مراميها الانتقال إلى ترجمتها في الواقع من خلال تأسيس جمعية ثقافية، أو مختبر، أو مركز للبحث في دار الشباب، أو في الكلية. إنها مسؤولية الشباب لتحويل مناقب الواقع الافتراضي إلى واقع.


*كاتب من المغرب الثقافي


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق