الحلم مكتوبا : الحلاّج مثالا
"الحلم نشاط دماغي غير مُراقب. يقول العلماء إنّ الانسان ينفق ما يقرب من 10% من حياته أحلاما وكوابيس طبعا".
على أنّه «مراقب» في الكتابة الأدبيّة. من ذلك ما نقف عليه في المخيال الإسلامي، حيث ينهض تعبير الأحلام بوظيفة مهمة في الحياة الدينيّة «الاستخارة». وكان من الطبيعي عند المتصوّفة أن يحلم المريد بمعلّمه بعد موته، وأن يسأله عمّا صنع الله به. وفي حال الحلاّج تشكّل هذه الأحلام موضوعا أدبيّا لا يخلو من غرابة. ولعلّ في هذا القليل الذي أسوقه منها، ما يعزز وجهة نظرنا فيها من حيث هي شطح صوفي أو تعبير، أي تفسير؛ خاصة أنّها ليست بالملتبس المضطرب الذي يصعب تأويله. نقول هذا على الرغم من أنّ الفهم قد لا يكون ضروريا، من منظور صوفيّ خالص؛ فالصوفية وهي المعقودة على الوجدان والذوق والإلهام، تقدّم الانفعال على الفهم. على أنّه ما يسلك حالمان اثنان في طريق واحدة، وحظّ هذا من الوضوح أو الغموض، ليس حظّ ذاك. ولعلّ الجامع بينهما هذه الكتابة «المرحة» التي تطعم العربية بروح جديدة، وتحمل النصّ على دلالات الكشف وسبر المجهول وغبطة السفر، أو الرحلة ومتعة الكتابة، حيث الحلاّج في هذه الأحلام، صورة من بوذا «المغتبط بالأبدية».
قال الشبلي: «استخرت الله ذات ليلة، صلّيت فيها عند مقام الحلاّج حتّى الفجر؛ فسألته وكان الفجر قد طلع: يا ربّ كان الرجل من عبادك، مؤمنا بك، حكيما شاهدا على وحدانيتك، وواحدا من أوليائك، فلماذا حلّت به هذه النكبة؟ ثمّ غلبني النوم، فرأيت يوم البعث؛ وقد قامت الساعة، وانتصب الميزان؛ فسمعت صوتا يصيح: إنّه عبد من عبادنا، أذنّا له بأن يدرك سرّا من أسرارنا؛ لكنّه ادّعاه لنفسه أمام الناس؛ فأنزلنا به ما رأيت». وقال الشبلي: «رأيت حسينًا بن منصور في المنام بعد قتله. قلت له: ما فعل الله بك؟ قال: أنزلني وأكرمني. قلت: في أيّ محلّ أنزلك؟ قال: في مقعدِ صدقٍ عندَ مليكٍ مقتدِر. قلت: ما فعلَ بهذا الخلق؟ قال: قد غفر للطائفتين: المشفقين عليّ، والمعادين لي. فأمّا من أشفق عليّ؛ فلأجل أنّه عرفني فأشفق لله؛ عليَّ. وأمّا من عاداني، فلأنّه لم يعرفني؛ فعاداني لله أيضا. فكلّهم معذورون وأصحاب فضائل».
ومأساة الحلاّج أشهر من أن أذكّر بها: صلبه (26 مارس/آذار 922م) وتقطيع أطرافه وحرقه سوى الرأس الذي حفظ في «خزانة الرؤوس» في قصر الخليفة؛ ثمّ طِيفَ به في خراسان لإقناع مريديه بموته. وكان ذلك بعد تعذيب شنيع؛ في مشهد رسمه كأبلغ ما يكون المستعرب الفرنسي لويس ماسينيون في مصنّفه الشهير «آلام الحلاّج» وكأنّه شاهد عيان ينقل الحدث بكلّ تفاصيله وشوارده. ولا أحبّ هنا أن أعود إلى هذا المشهد، وما أعقبه مثل منع الورّاقين وهم بمثابة الناشرين اليوم؛ من نسخ أعماله، وإجبارهم على حرق كلّ ما بين أيديهم من النسخ الأصلية؛ وإنما إلى ناحية لم أجد من اعتنى بها، على غرابتها، وأعني أحلام مريديه وتلاميذه أو رؤاهم التي كان الحلاّج بطلها أو «المحلوم به». وكان الدافع إلى مثل هذه الأحلام السؤال ما إذا كان المقتول قد قُتل (بأجله) المقدّر أم لا؟ وهو السؤال الذي كان الحسن البصري أوّل من طرحه على ما يبدو؛ في مسألة الأجل والأرزاق، كلّما تعلّق الأمر بقتل مؤمن بيد مؤمن آخر. بيْد أنّه لم يقطع فيه برأي أي هل الضحيّة شهيد أم هل هو مرتدّ؛ وهو الذي لم يمت بأجله في الحالين.
ومأساة الحلاّج أشهر من أن أذكّر بها: صلبه (26 مارس/آذار 922م) وتقطيع أطرافه وحرقه سوى الرأس الذي حفظ في «خزانة الرؤوس» في قصر الخليفة؛ ثمّ طِيفَ به في خراسان لإقناع مريديه بموته.
والأمر هنا أشبه بتعبير الحلم أي تفسيره، فهو لا يتكوّن من صور الحلم وإنّما من سرد الحالم لها، أي أنّ الصور الحلمية التي تمثل قاعدة التعبير أو التفسير ليست صور الحلم «محلوما» ؛ وإنّما تلك التي يرويها إنسان مستيقظ، ويستدعيها من حيث هي حمّالة معنى. والأصوب أن نقول إنّه يتمثّل محتوى الصور المستدعاة في سرده، من حيث هو معنى لا صورة. على أنّه معنى ظاهر مرتهن بمعنى باطن؛ وكلاهما لا يوجد إلاّ بوجود قرينه. لكن من غير أن يسوق ذلك إلى استنتاج متعجّل، كأن نقرّر أنّ الصورة الغريبة، شأنها شأن الحلم، ليست إلاّ ذريعة من بين ذرائع شتّى يتّخذها الحالم لتجميعات حرّة مرسلة غير مقيّدة. فإذا كان سرد الحلم متمكّنا من الحلم، دون أن يكون هذا ذاك، فإنّ قراءة الصورة متمكنة من الصورة؛ لكن دون أن تكون هذه تلك. وأيّ تراسل مفترض بينهما إنْ هو إلاّ باطل خادع. والأمر في حال الحلم، أو بعبارة أدقّ عند تعبيره أو تفسيره، راجع إلى تباين بين وضع «حلميّ» ووضع «يقظ». ففي اللّحظة التي يتكلّم فيها الحالم، فإنّ العبور من النّوم إلى اليقظة عبور من نمط من الإدراك إلى نمط آخر. والمسألة هنا لا تتعلّق بتعبير مجازيّ وإنما بقانون فينومينولوجيّ (ظاهراتي) فبنى الإدراك الحلميّ تتعارض والإدراك الواعي.
لنقل إذن، إنّه مثلما تتبدّد صور الحلم ومعها «الفضاء» الذي كان يضفي عليها هيئة، حالما يتحوّل الرّسم الجسميّ، وينشرخ استقلاله بذاته، بأوّل خروج من الذّات؛ يضع المستيقظ في وضع تمكّن أو وعي، فإنّ القراءة، إذ تعبر من نصّ إلى نصّ يمكن أن تكون هي أيضا فعل تبديد أو مراوحة بين معنى ينشده المنشئ (الحالم) ومعنى يؤدّيه القارئ؛ فلا تكون لصورة الأوّل البنية نفسها التي لصورة الثّاني. وكثيرا ما تترجّح القراءة، بسبب من ذلك، وتظلّ «مقبوليّة» المعنى معلّقة مقدّرة؛ بل إنّ الصّورة تمّحي في المعنى الذي تُضِيفه القراءة إليها أو تُضْفيه عليها. ذلك أنّ التّفسير يقتصر على وضع «المعنى» في علاقة مباشرة مع صيغة تعبيره، أو مع البنى القوليّة المخيّلة التي تدلّ عليه، وكأنّ الصّورة قول مركّب لا يسلّم فيه بالمعلول إلاّ إذا لزم عنه لذاته علّة. وربّما غفل البعض عن أنّ هذه البنى وقد «تحيّنت»؛ لا يمكن أن تعني ما هي عليه في النصّ، فالمعنى يتحوّل وينتقل من/ إلى أي من حلم إلى تعبيره أو تفسيره، وأنّ ما يعدّ معنى أصليّا يدير عليه الحالم صورته، إنْ هو إلاّ نواة المعنى وليس المعنى الصوفي الذي يغنيه السياق ويبدّله تبديلا. وهو في الحلم المعنى الباطن الماثل في موضوعه وليس المعنى الظاهر، على الرغم من أنّ الاثنين، في ما يتهيّأ لنا من هذه الأحلام التي نحن فيها، قطبان لمعنى واحد يصعب أن ندركه، إلاّ من حيث هو وجهة معنى أو توطئة لمعنى.
والأمر، من وجهة نظر حديثة، أقرب ما يكون إلى «النقد الظاهراتي» أي (الفينومينولوجيّ) الذي يذهب واضعوه إلى أنّ العمل الأدبي ينهض على أفعال قصدية من شأنها أن تفسح للقارئ معايشته عبر تداخل بين تجربة الكتابة وتجربة القراءة. ذلك أنّ هذا العمل عالم خيالي ينبثق من العالم المعيش، ليجسد وعي صاحبه. وهذا الوعي ليس مستقلاّ وإنما هو دائما «وعي شيء ما». على أنّه في الأدب وعي فريد أو هو وعي فرد بعينه. وهو من ثمة على وشيجة بذات كاتبة، لكنّه موصول، على نحو من الأنحاء، بشكل من الوعي العام المهيمن على حقبة تاريخيّة بأكملها. وهذا ما يجعل التّواصل الوجدانيّ الحاصل بين القراءة والعمل المقروء، تواصلا واعيا مدركا لاختلافه، بحكم أنّ النصّ يظلّ مثل صاحبه مختلفا أو غريبا. وربّما كان الحلم قراءة مخصوصة؛ أي عملية إبداعية أو عملية محاكاة تجاري فيها لغة القراءة لغة الكتابة.
والمقصود ها هنا نمط الظاهراتيّة المخصوصة بالقارئ أي ما اصطلح عليه «جماليّة التلقي» التي تعتبر العمل الأدبي إجابة عن أسئلة موضوعة من خلال «أفق التّوقّعات» وحاصلها أنّ تأويل العمل ينبغي أن لا يكون محوره تجربة قارئ خاصّ (مستقل) وإنما تاريخ تلقي العمل في علاقته بالمعايير الجمالية المتغيّرة؛ بما يجترح شتّى التّوقّعات التي تجعل العمل قابلا للقراءة في مختلف الحقب. على أنّ السياق الذي نحن فيه، يمكن أن يحيل أيضا، على ما يسمى «نقد استجابة القارئ» الذي يحلّل الكيفيّة التي ينتج بها القرّاء المعنى، توقّعا وتخمينا. والرّأي الذي نذهب إليه أنّ قرّاء الحلاّج، إنّما هم المتصوّفة أو الشّعراء، الذين ترسّموا طريقته أو تقيّلوا مذهبه مثل الشاعر الهندي عبد القادر البديل (ت 1720):
في نخلستان [بلاد النخيل] حيث الحسّ يثمّن الأشياء
لا يمنحُ الخيالُ الوضيعَ سوى فاكهةٍ فجّة
إنّ قطفَ لوز اليقين، غير ميسور؛ وهو الألذّ
إنّما هو كرامة باركت الحديقة من دم الحسين بن منصور
أو من المعاصرين الذين «وظّفوا» نصّه (صلاح عبد الصبور وأدونيس وعبد الوهّاب البيّاتي). على أنّ هذا مبحث قائم بذاته.
منصف الوهايبي
كاتب وشاعر تونسي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق