الأربعاء، 9 فبراير 2022

انطوان جوكي

 مراسلات جديدة لأندريه بروتون تكشف مزيدا من أسراراه


 قضية الشعر والثورة والمطلق تعكس صداقة عميقة بين زعيم السوريالية  وجان بولان




منذ أن انتهت في 2016 مهلة الخمسين عاماً التي وضعها رائد السوريالية أندريه بروتون (1896 ــ 1966) كشرط في وصيته لنشر مراسلاته مع أبرز الوجوه الشعرية والفكرية التي ربطته بها علاقات وثيقة، انطلقت دار "غاليمار" الباريسية في إصدارها، كتاباً تلو الآخر. مراسلات لا تكمن قيمتها فقط في منحنا فكرة دقيقة عن طبيعة كل واحدة من هذه العلاقات المهمة وسيرورة تطورها، وعن الأفكار التي تبادلها هذا العبقري مع مراسليه، بل أيضاً في إنارتها جوانب معتمة وحميمة من شخصيته، وكشفها الدور الثقافي والسياسي المحوري الذي لعبه على طول مسيرته الإبداعية المجيدة.


الجديد في هذا الموضوع هو الرسائل المرجعية التي تبادلها بروتون على مدى أكثر من أربعة عقود مع الكاتب الكبير والناشر جان بولان (1884 ــ 1968). مرجعية ليس فقط لأن قارئها يرى، رسالة بعد رسالة، كيف حيكت شبكة الطلائع في باريس، مع بروتون في مركزها وبولان على هامشها، ولأنها تلقي إذاً نظرة فريدة على مختلف مراحل الحركة السوريالية، بل أيضاً لأنها ترفع للمرة الأولى الحجاب عن الدور الحاسم الذي أداه بولان على الصعيدين الفكري والاجتماعي، في انبثاق هذه الحركة وبلورة فكرها النقدي.


قضية الشعر


ولعل أول ما تعكسه هذه المراسلة، التي يصبغها غالباً، إخلاص أوالتزام لا شائبة فيه بقضية الشعر، هو الإعجاب المتبادل بين طرفيها، وتواطؤهما العميق في الميول والمصالح، وكمّ من النقاط المشتركة. مراسلة لا يتردد كل منهما داخلها في ذكر أسباب هذا التواطؤ والإشارة إلى شكل من أشكال الضرورة في علاقتهما، خصوصاً بروتون الذي يسترسل أحياناً في وصف صداقتهما الشعرية بانفعال صادق يكذّب الصورة السلبية التي رسمها له مبغضيه.


في امتدادها من 1918 إلى 1962، تتميّز هذه المراسلة بعدم انتظامها، وبثقوب تعتريها لأسباب مختلفة. فالرسائل التي كتبها بولان لبروتون قبل عام 1935 لا أثر لها، وعلى القارئ الاكتفاء إذاً بمراسلة بصوت واحد على مدى 17 عاماً تبيّن، مع ذلك، مشاركة بولان الفاعلة في مغامرة صديقه الحداثية إلى حين الالتزام الماركسي لبروتون الذي أدى إلى قطيعة بينهما. وبين عامي 1935 و1946، وإثر عودة المياه إلى مجراها بينهما، تستعيد مراسلتهما توازنها، ثم تنقطع أثناء إقامة بروتون في أميركا خلال الحرب العالمية الثانية، لتعود فتُستأنف فور رجوعه إلى فرنسا عام 1946، قبل أن تتوقف نهائياً عام 1962 إثر انتخاب بولان عضواً في "الأكاديمية الفرنسية".


بالتالي، شهدت علاقة هذين العملاقين تقلبات كثيرة، وفي المراسلة التي نتجت منها، لم تحفظ على مر السنوات سوى السبب الشعري للقائهما الأول. لكن ما يمنح هذه المراسلة عمقاً لافتاً هو من دون شك نشاط بروتون النهم في خدمة السوريالية، وطاقته التي تجعل من كل واحدة من رسائله بورتريه حياً لشخصيته المغناطيسية، من دون أن ننسى القناعات التي شاركه بولان إياها في ما يتعلق بأدب حرّ ومؤمن إيماناً راسخاً بلغزه وقدرته على التغيير.


من لغز إلى آخر


وفعلاً، بولان هو إحدى الشخصيات الأولى التي علّق بروتون عليها أملاً جاداً في تجديد الأدب وفكرته. وحين عُيّن مديراً لـ "المجلة الفرنسية الجديدة" (NRF)، جهد في إيصال صوت مجموعة بروتون الفتية الساعية بلا كلل خلف ذلك السر في الأدب الذي يمنحه كل أهميته. ومن لغز المعنى إلى فن المجانين، ومن الروح الجديدة إلى الفن السحري، ومن رامبو إلى شارل فورييه،

 اهتم بولان بشكل وثيق، بأبحاث صديقه الشاب إلى حد مشاركته أحياناً فيها، وترويجه دائماً لها. ومع مرور الزمن وتوطّد روابطهما الفكرية، تحوّل هذا الاهتمام إلى شغف بطاقة بروتون، الثورية بعمق. ولا عجب في ذلك، ففي حماسة صديقه الحيوية والراديكالية، عثر بولان مجدداً على ميله إلى الحرية، وعلى شكل من أشكال النقاء، أحيا قناعاته الفوضوية الأولى. ولذلك، يرتفع في رسائله إلى رائد السوريالية صوت الفوضوي الثائر، أكثر منه صوت المنظّر والناقد.


أما حجم هذه المراسلة، ومضمونها، وتوزيعها غير المتكافئ بينهما، وعدم انتظامها، فنقاط تعكس طبيعة صداقتهما التي تغذّت من ومضات حملت رسائلهما تارةً إلى أعلى شهادات الإعجاب، وتارةً إلى أدنى درجات الشتيمة. نجد أيضاً في هذه الرسائل عدداً مذهلاً من الأسئلة الأدبية والتعليقات التاريخية والجمالية والنقدية، وأيضاً تلك الحساسية الملموسة الخاصة بشخصية بروتون، والتي تمنح بعض رسائله قوة نادرة، تارةً غنائية وتارةً جدلية. وبالنتيجة، شكّلت هذه المراسلة فضاء اختبار لذلك التقارب العميق في وجهات النظر بينهما، وأيضاً للاختلاف الجذري في طبيعة شخصيتيهما ونبرة صوتيهما.


في رسائل بروتون الأولى، نتابع اكتشافه لصداقة سعيدة بولادتها، تتقدّم وفقاً لأسئلة من المفترض فيها أن تولّد تواطؤاً وتضفي مشروعية على هذا الرابط: المراجع المشتركة، النصوص المفضّلة، الاهتمامات المتقاربة... وفعلاً، من رسالة إلى أخرى، نراه يشيّد سردية علاقة مرغوبة إلى حد تشبيهه إياها بثمار الصدفة الموضوعية الغالية على قلبه: "أنت الصديق الذي كنت أنتظره في ذلك الوقت من حياتي"، كتب لبولان عام 1918. وعلى الرغم من فارق العمر بينهما (12 سنة)، نستشفّ تطابقاً كاملاً في مسعاهما، لا يقوم فقط على تفجير الحدود بين الأدب والحياة، بل أيضاً على رؤيتهما في الشعر مكان حقيقة إنسانية لم يتوقّعها أحد من قبل.


الدادائية والسوريالية


ومن المرحلة الدادائية إلى الثورة السوريالية وبيانها الأول، نرى أيضاً في رسائل بروتون الأولى سيره نحو مواقف أكثر فأكثر طلائعية وسياسية، وتقديره لدور بولان في منح مجموعته الباريسية وبحثها المجدِّد دعماً مؤسساتياً ومشروعية أدبية، ولأهمية مقاربته موضوع علاقة الفكر باللغة، أو ما سمّاه بولان "قوانين التعبير". وفعلاً، سعى هذا الأخير في كتاباته آنذاك إلى إعادة النظر في الإبداع الأدبي وطريقة استقباله، محدداً بذلك نقاط انطلاق لثورة في التفكير أمضى بروتون حياته في الترويج لها. من هنا إقراره بقيمة دعم صديقه وضرورته: "كي يبلغ مشروعي هدفه، أعتمد عليك وعليك فقط".


لكن حين سعى بروتون إلى تطبيق هذه الثورة في المجالين الاجتماعي والسياسي، مرتكزاً في ذلك على أفكار استقاها من رامبو وشارل فورييه وكارل ماركس، بدأ في خسارة تواطؤ صديقه معه، قبل أن تحلّ قطيعة كاملة بينهما إثر انخراط السوريالية في الثورة الاجتماعية. قطيعة تعود إلى إيمان بولان بأدب محرّر من أي تدخل سياسي أو التزام حزبي، وإلى اعتباره إهمال بروتون سعيه الأول خلف واقع علوي، خيانةً ، وكذلك تقديمه الأيديولوجيا السياسية على المسعى الأدبي والميتافيزيقي، الذي تأكّد عام 1926 في مجلة "السوريالية في خدمة الثورة"، ثم في البيان السوريالي الثاني عام 1930.


القطيعة بين الصديقين دامت ثماني سنوات، ثم عادت الحرارة إلى علاقتهما عام 1935، إثر قطع الحركة السوريالية صلتها بالحزب الشيوعي، وإعادة بروتون تحديد شروط علاقتها بالعمل الجماعي الثوري، وعلاقة الثورة الشعرية بالثورة الاجتماعية. حرارة تتأكد عام 1936 مع نشر بولان الفصل السادس من كتاب "الحب المجنون" في مجلته "مقاييس"، ثم الكتاب كاملاً في سلسلة "تحولات" التي كان يشرف عليها داخل دار "غاليمار". لكن يجب انتظار عام 1939 كي تنتظم مراسلتهما وتتكثّف، مرة أخرى في سياق الحرب: "لا لزوم للتأكيد بأنني سأكون سعيداً جداً بتعاونك داخل مجلتي"، كتب بولان في نهاية العام المذكور لبروتون. دعوة تعكس ثقة صاحبها بصديقه الذي سيلبيها بحساسية مستعادة، مؤكّداً أيضاً لبولان أهمية ذلك الحاضر الذي يعيده إلى ظروف لقائهما الأول.


اقتراحات منتظمة


ومع أن مراسلتهما تتوقف مع استقرار بروتون في أميركا عام 1941، لكنهما يستعيدان تواطؤهما الفكري فور عودته إلى فرنسا عام 1946. تواطؤ لا يتجلى فقط في حجم الرسائل المتبادلة ومضمونها، بل أيضاً من خلال الاقتراحات المنتظمة التي يقدّمها بولان لصديقه من أجل نشر نصوصه، وتعكس اهتماماً شديداً بعمل بروتون الشعري والنقدي، وإعجاباً يشهد عليه النص الذي كتبه حوله عام 1949، ضمن أول احتفاء جماعي بالشاعر، وكان جواب هذا الأخير عليه: "لا يمكنك أن تتخيّل كم أثمّن هذه السطور وكيف أنظر إليها. (...) أنت وحدك القادر على شحن الكلام بمثل هذا السحر. وأن تتفضّل عليّ بإدراج اسمي داخل هذا النور، أمرٌ لا يقدّر بثمن بالنسبة إليّ".


ثلاث مسائل رئيسية تطغى على هذا الجزء من مراسلتهما: المسألة السياسية بعد تحريرها من أي بُعد عقائدي، مسألة النقد ورهاناته وشروط استقلاليته، والسؤال الشعري المطروح وفقاً لإيمان مشترك بسلطة الشعر الكشفية والتحويلية. وثمة نقطة تقارب أخرى بين بروتون وبولان تتجلى في هذه الرسائل، ونقصد اهتمامهما بالعلوم الباطنية واعتبار بروتون في هذا السياق أن الأدب يحمل داخله حقيقة مخفية، والشعراء مرتبطون حتماً بالتقليد الخيميائي. فمن "الحب المجنون" إلى "الفن السحري"، يعبر هذا الإيمان بسرّ كامن في قلب اللغة، كل كتبه، خصوصاً كتاب "المصباح في ساعة الجدار" الذي احتفى فيه بنظريات الشاعر مالكولم دو شازال، ويؤكّد مضمونه قناعة صاحبه برابط وثيق بين الشعر والتقليد الباطني، وبالدور الذي يمكن أن تؤديه الميثة في تغيير العالم. قناعة تقاسمها بولان معه، كما يشهد على ذلك قوله له في إحدى رسائله: "لقد قرأت هذا الكتاب بانفعال كبير. (...) هنا يكمن شاغلنا، لا في أي مكان آخر".


علاقة نادرة


يبقى أن نشير إلى أن هذه المراسلة، على الرغم من عدم كشفها لقارئها كل أسرارها، نظراً إلى الثقوب التي تعتريها، تُبرِز علاقة أدبية نادرة الأهمية في تطلعاتها وقيمة ثمارها، وغير متوقّعة في بعض جوانبها الحميمة، كما تُبرِز الديناميكيات والتوترات التي كانت فاعلة بين المؤسسة الأدبية، التي كان بولان خير تجسيد لها، وجيل طلائعي تمسّك حتى النهاية بأدائه المستقل، ويشكّل بروتون أبرز وجوهه.


نكتشف أيضاً في هذه المراسلة ليس فقط بولان الناشر والناقد كبير، بل أيضاً الناشط داخل الدوائر الحداثية الذي أثار مشاعر إعجاب عميقة بين الطلائع الفتية، ودعَمَ فكرة جديدة كلياً للأدب، محررة من الهاجس التاريخي ومنشغلة بفهم أعلى رهانات التعبير.


نكتشف أخيراُ ذلك التواطؤ الذي جمعه ببروتون حول تطّلب نقدي حرّ كلياً ومفهوم مثالي للأدب كممارسة نبيلة في خدمة مطلقٍ إنساني.


ختاماة: هذا  التواطؤ لن ينتهي مع توقّف مراسلتهما إثر انتخابه عضواً في "الأكاديمية الفرنسية"، كما يشهد على ذلك النص الرائع الذي افتتح به الملف الخاص الذي كرّسه لبروتون داخل "المجلة الفرنسية الجديدة"، في مناسبة وفاته، ولا يعكس فقط افتتانه حتى النهاية بصديقه، بل أيضاً وخصوصاً معرفة بشخصه وفكره لم يتجاوزها بعد أي باحث في حياة رائد السوريالية وإنجازاته.



* الاندبندنت عربية 

  29 يناير 2022

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق