الأربعاء، 23 فبراير 2022

كتب محمد إقبال حرب

 نُباح

- قصة قصيرة

 من كتاب "موت شاعرة"


بينما كنت أتسول في أزقة المدينة نهرتني تلك اللعينة. فقلت رويدك ارحميني ولا تظلميني. فوخزتني بحرارة وزادت عليَّ المرارة. فقلت ارأفي بحالي وقلّة مالي فأنا بالكاد أقوى على المسير ولا أملك من الدنيا نقير. صرخت معدتي من أعماقي دون استئذان "أيها الجبان، تحاول النسيان. إن لم تحضر طعاماً الآن لأزيدنك رهقا وألـمًا غدقًا" فقلت على مضض رحماك رحماك، ليتني أنساك.

نظرت إلى السماء وطلبت من رب البشر أن يمرّ هذا اليوم بسلام كما مرّت بقية الأيام، لعلي أجد في الطريق شريحة من خبز طري نسيها صبي أو لفافة طعام تَرَفَّع عنها موسر، أو أوفق بطعام أسرقه من جاهل. ما إن جد بي المسير أحسست وكأنني أسابق الحمير فكنت أسير ناظرا إلى الأرض خوفا من رؤية ما لا يحمد، كمطعم يذكرني بأن الأكل موفور أو لحمة تثير الشهية فتزفر أحشائي المستور. فجأة، وجدت نفسي في منطقة لا عهد لي بها. أخافتني نظافتها أكثر من هدوئها، لكن خضرتها أنزلت في ذاتي طمأنينة أخذت معدتي درب السكينة.

سرت بين الشوارع خائف ضائع حتى رأيت فكهاني تزينت واجهته بشتى الألوان كالبساتين الغنية في لوحة شرقية، أنزلت على جوعي جرعة سلام. أخذت أمقت الفاكهة والخضار متخيلاً طعمها بين الأسنان مشتماً رائحتها فوق النار. مددت يدي إلى جيب خاوية عليَّ أعثر على قرش قد اختبأ ليوم فيه هذا النبأ، لكن الفراغ كان رهيبًا وسكون الرنّة غريبًا. فاستفقت على الفاكهاني يهزّ كياني بأن أخرج قبل أن يدق عظامي. رجوته بنظرات حيوان طريد أن يخبرني عن موقع زبالته. فثارت عليَّ ثائرته وقفزت في وجهي غرائزه وقال بأن شكلي مقزّز منفّر وقذارتي لا يحتملها بشر فإن رآني أحد سيهاجر إلى القمر.


سرت في الطريق بكياً، للرحمن شَكِيَّا ومعدتي تلطم لطماً عتياً. إلى أن لاح طرف حديقة، جميلة أنيقة على ناصيتها مقاعد خشبية أعدّها الأغنياء لسبب أجهله، بل أخاف أن أعرفه. ولكني لما رأيتها تدلى جفناي وارتخت أعصابي وهجم عليَّ النوم هجمة الكلاب. خفت أن أجلس عليها وأرتاح فتتسخ من قذارة ثيابي فيأخذني حرس الحديقة إلى مكان مشبوه أجد فيه ما لا يليق. فنمت على الأرض يحبوني ظلّها وأتودد بطرفي إلى شكلها. فكان النعاس سلطانا الحفني بدثار النوم.


أخذني النوم بسرعة وأرداني في الأحلام صريعاً. فرأيتني في تلك الحديقة أمُوج في بدلة أنيقة أجلس على الكنب جلسة مريحة. وفجأة جلست بجانبي سيدتان أنيقتان. قالت إحداهما للأخرى: ماذا تفعلين في هذا الحي الراقي.

 فأجابت الأخرى: أفتش عن عائلات عريقة تكون ملاذاً لحيوانات رقيقة.

 فقالت الأولى متسائلة: وهل تبيعين الحيوانات؟

 فردت الأولى: لا يا صديقتي فأنا من جمعية الرفق بالحيوان. تلك المخلوقات المسكينة لا تجد في البشر لِينة. فبعضها هارب ومن القسوة غارب، وغيرها برّي ضعيف مات أهله وهو عاجز. نجمعهم في دار وقاية تضمن لهم الرعاية.

 فقالت الأولى: يا للوضع الحزين وهذا الحيوان المسكين. وماذا تفعلين بهم بعد جمعهم. 

قالت الأولى: نجمع المال من المحسنين لنهتم بهؤلاء المساكين فإما نجد لهم متبنياً أو نستر ما تبقى من المشردين ونطعم الجائعين.


دقّت كلمة جائعين في ذاتي كالإسفين فصحوت من الرقاد مذعوراً لأجد السيدتين حقيقة لا حلماً. كانتا على المقعد تجلسان وكما في المنام تتحادثان. فوقفت أمامهما كالطير مذعوراً والمظلوم منصوراً. فالأمل قد هلَّ واقترب لنيل المراد فناشدتهما برقة وحنان: أنا هو المحروم، أنا من تركه الزمان والبشر. ليس لي في الدنيا أحد، لا مال ولا ولد. أنا من يقف على باب الرحمن يطلب الإحسان. فلا تتركاني قبل أخذي إلى دار الرعاية فيكون من الذلّ وقاية.


استمعتا إليَّ بضجر، وأمعنتا في ذاتي النظر حتى تدلت الشفاه وانحسر النظر فكأنما سقط عليهما خسف من السماء. وقالت صاحبة الرفق والإحسان: اذهب أيها الإنسان فنحن جمعية الرفق بالحيوان.

تركت المكان بوجودهما يرتع ومشيت على أربع وبدأت أتعلم النباح والركض في الفلاء لعلني أجد جمعية رفق بالحيوان لا تعرف بأني إنسان.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق