قراءة في : نباح على باب العفران
لميشو ن فاخر
__________________________
تحيلنا رواية (الكلب الأسود) للعراقية ( ميسلون فاخر) الى الترابط بين الفضاء النفسي، وهو تمثيل للجرح العميق الذي سببه انتهاك الجسد، وبين الصراع كهوية للحكاية. و في ثنائية اخرى متصلة، يتقاسم اللاوعي صراعه في المتن الحكائي، اللاوعي باعتباره خطابا نازفا في جلسة علاج، مع السرد الموجه للآخر، على شكل خطاب ينطوي على تصورات ومفاهيم هي تمثيل لعلاقة الشخصية الرئيسة بالعالم. القصة تبدأ عندما خطف مجهولون الشابة (إيناس،) من الحي الذي تعيش فيه مع عائلتها، هذه الحادثة ينتج عنها اغتصاب متكرر يشكل فيما بعد الثقب الاسود الذي تحاول طيلة السرد( ضمير المتكلم) استيعابه قبل الخروج منه، لكن هذا الثقب رافقه انشطارفي الذات، إذ يظهر السرد بصوت الراوي كما لو انه صوتان، الاول نقي، واعي، شديد الالتصاق بواقعة الاختطاف وماترتب عليها من نتائج مخزية نفسيا، والثاني لاواعي، وقائي بصيغة علاج يحاول التخلص من الماضي بالنسيان، ويتمسك بالذكرى في الوقت نفسه من أجل الانتقام.
تكتب البلجيكية( آميلي نوثورمب) في روايتها (ذهول ورعدة) شيئا يتعلق بالعزلة، بالمكان الذي يذهب اليه المجروحون، تتحدث عن النساء المغتصبات اللواتي يذهبن عادة الى حيث يجري الماء، إذ يمكنهن هناك تنفيذ مشهد القيء حيث لا يوجد الناس! وبطلة
( الكلب الاسود) تذهب بعيدا
الى المنطقة التي تشعرها انها في موضع يظهر فيه الماضي مثل طيف، لكن مشهد الاغتصاب_ رغم ذلك_ صار في نسيج التجربة الوجودية للبطلة، مثل شريط يتكرر، حاولت أن تعيده على شكل قيء، سرد الذكرى الأليمة التي لم تتردد في نسجها بلغة ذو رائحة نتنة، أذ استخدمت مفردات البول والخراء امعانا في كراهية الجسد الملوث المنتهك، وهو السبب الذي منعها من اقامة علاقة جسدية متوازنة مع عماد، صديقها في السويد، لهذا ظلت العلاقة بينهما غائمة وغير مفهومة، فعماد هو الآحر يحمل أعباء جسد منتهك مستسلما لكوابيسه، لكن جمانة من جهة اخرى، وتعبيرا عن الصراع النفسي بين الصفح والانتقام، تحاول أن تقبض على لحظة الانتهاك ذاتها، على الرغم من كونها في الظاهر تبدو وكأنها تسعى لمحوها من خلال عملية القيء. والقراءة المتأنية لإعماق( جمانة) الذات الاخرى ل( ايناس) تحيلنا الى كونها شديدة الحرص على منطقة الجرح، لاتريد في لاوعيها المغادرة، لان هذه المغادرة تعني التنازل عن فكرة الانتقام.
بورخيس في شذرة له، يتحدث عن النسيان باعتباره الانتقام الوحيد، والغفران ايضا. وهو قول يتناقض مع السياق الدلالي الذي ينطوي عليه المبنى الحكائي لرواية الكلب الاسود، فالعالم في حكاية (ميسلون فاخر) يشتمل على القليل جدا من الصفح، والكثير من الانتقام، حتى لو كان هذا الانتقام_ مثلما حدث في نهاية الرواية_ على شكل بصقة. ربما أرادت الرواية طرح تصور قريب من الواقع، ينطوي على أن الوصول الى الغفران لابد أن يمر أولا بالتخلص من الرغبة المتوحشة بالانتقام.
وبشكل عام يظهر الماضي في تجربتنا _ نحن البشر_ باعتباره قوة الزمن الباقية، وجاذبيته المعمرة، لكن النقطة المخصصة للألم لا يغادرها النباح، هذا هو الكلب الأسود، كما جاء في رواية ميسلون فاخر، إذ يتحقق في المتن السردي، التصور الشعبي، والقادم من الاساطير في الحضارات القديمة، عن هذا الحيوان الذي يقوم _ بشكل اساسي_ بوظيفة الحراسة، فهو حارس عالم الموتى عند الفراعنة، وقرين الموت في ثقافات اخرى، أما اللون الاسود، هو المعنى المظلم المرتبط بالموت وعتمة العوالم السفلية، والذي يتآلف مع مقاصد هذه الحكاية، فهو يتحقق كاستعارة عن الماضي، والذي يتسم بظلامه وايضا بكونه الشعور الذي يدل على بالموت، او الرغبة فيه، والذي يرافق شخصية جمانة الساعية الى ( الصفح)، في الظاهر على الاقل، والمتضمن محاولتها التخلص من ايناس المحبوسة في دائرة ( الانتقام) حتى يظهر الحب باعتباره خلاصا، صحيح ان الحب هنا يبزغ بطريقة مفاجئة، و تقريبا غير مقنعة، لكنه على حال بديل لكي تعيد ثقتها بالعالم، كما استعاد عماد، شريكها في الجرج ذاته المنتهكة من خلال الحب.
وعلى الرغم من وجود بعض الملاحظات التي تتعلق بالحبكة، المصادفات والطيف البوليسي، مشاعر الحب التي تشكلت لديها باتجاه ( ابو أنس) تحويل ابو انس لثروته كلها ل( جمانة) عشقه لها خلال ايام دون ان يعرف عنها اي شيء، وايضا حجم الشركة التي تعمل، غهي شركة ازياء لانعرف عنها شيئا ليبرر لنا اصرار رجال اعمال يملكون المليارات على التعامل معها،وايضا علاقة النص بالمكان ضبابية، فهي لم تشعرني كقارئ بان الشخصية تعيش في السويد، ولاحتى في بغداد، ولا في بيروت التي زارتها. لكن هذه الرواية_ كما أرى_ مكتوبة بشكل جيد، فعلى مستوى اللغة السردية، نجحت الكاتبة بالحفاظ على لغة تجنبت فيها الدخول الى منطقة البناء الشعري للجملة، المربك لتنامي السرد، وعلى مستوى توظيف الحمولة الرمزية للعتبة النصية الاولى_ العنوان_ حافظت على نقطة مركزية، كانت تدور حولها خيوط الحكاية بدون التوغل في مناطق بعيدة، وايضا نسجت على مستوى التوتر المتصاعد لصوت السارد، تعاضدا تفسيا مع تصاعد الحدث. صحيح أن العمل بدأ بلغة مرتبكة قليلا، لكن مسار السرد، وبعد عدة صفحات استقر على السكة، وعلى الرغم من كون النص _ في تقنية كتابته_ تقليديا، خيطيا، لكنه حافظ على نمو الحكاية، وبالقدر الذي حقق فيه، وبشكل ممتاز، عنصر التشويق حتى السطور الاخيرة.
زهير كريم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق