الثلاثاء، 11 يونيو 2019

بقلم د.رمضان الحضري

أدبية النص في الشعر والقص

يعيش المثقف العربي حالة كبيرة من الغربة ، وذلك بسبب أن العالم من حوله قد تغير في كل شيء ، وهو لم يستطع حتى هذه اللحظة أن يغير جدول أعماله ، فلازال الشعر يتحلق حول شعراء الستينيات ، وكذا القصة القصيرة والرواية ، بالإضافة إلى السقطة الكبيرة التي يعاني منها التعليم على جميع مستوياته الحكومية والخاصة والعليا والثانوية وما قبلها.فالأخذ بأدوات العصر وتطوير أو ترك الأدوات القديمة أمر مهم للغاية في حياة الناس في كل مجتمع من المجتمعات ، فالذين يعيدون الناس ليعيشوا في التراث الفكري حياة كاملة دون توظيف وتطوير وتحديث لهذا التراث ، هم من يمسكون بالأقلام الحمراء ، ويصوبون للمطورين الأخطاء ، ظنا منهم أن طول فترة الميراث ، وعلو أسواره يفرضان على المجتمع أن يبقى تحت سقفه ، وأن يعيش بقية عمره داخل أسواره ، وقد كان المجتمع الصيني على ذلك فترة طويلة حتى عام 1949 م ، وكانت الوظيفة الحكومية حكرا على من يحفظ الكثير من التراث القديم شعرا من كتاب الأغاني الصينية القديمة ، ونثرا من كتاب الوثائق الصينية ، ولم تطل فترة الإفاقة ، ودخلت الصين المنظومة العالمية الجديد في نهاية الثمانينيات 1989م ، وتطورت بسرعة تفوق سرعة الصواريخ ، حينما ألقت بعقلها القديم ، واستخدمت عقلها الحالي ، حتى لا يعن لها قديم إلا وأدخلته في المنظومة العقلية الجديدة ، مثل مشروعها الأخير ( طريق الحرير ) .أما في دولنا العربية فلازال الشعر مصلوبا على باب من لم يكتب الشعر ، ولا زال النقد مطية بلا صاحب ولا هوية ، يمتطيها كل من ظن في صوته جعرا ، أو في لغته نحوا ، ولا يملك فكرا جديدا ولا رأيا سديدا ، فحينما استحدثت حلقة براغ مصطلح ( أدبية الأدب ) ، تلقفته الثقافة الفرنسية وطورته ، ثم أخذت الثقافة الأمريكية المصطلح مطورا من النقد الفرنسي فطورت المطور ، فتحولت البنيوية الروسية إلى البنيوية التشكيلية الفرنسية ثم إلى البنيوية التوليدية الأمريكية .ويقصد ( بأدبية الأدب ) أن يكون للأدب مقاييس علمية موضوعية ، تخرج النقد من عباءة الذاتية المفرطة التي تلوي ذراع النص لرؤية الناقد .
كثيرة كتب النقد في وطننا العربي ، لكن معظمها ينحاز لوجهة نظر النقد الأوروأمريكي لأسباب معلومة عند بعض النقاد ، ولأسباب غير معلومة عند البعض الثاني .أحاول أن أعلن على الملأ أن الفنون ليست إبداعا للثرثرة ، ولكنها إبداع لإكساب المجتمع توجها ما يصلح أفراد هذا المجتمع بالتعبير عن معاناة أفراده ، وغرس صحيح المفاهيم الإنسانية في نفوس ذويه ، والذين يظنون أن الفنون وبخاصة الأدب هو ثرثرة صوتية أو رسوم للحروف أو منتج للمتعة فقط ، لا يدركون قيمة الكلمة في المجتمع .والكلمة ذلك المنتج اللغوي اللساني لا ترتبط بقائلها فقط ، بل ترتبط بالمجتمع الذي أنتجها ، وبفكر المبدع الذي صاغها جماليا ، وبعبارة أخرى ، الكلمة بنت البيئة والمجتمع ، فالنص شخصية اجتماعية حتى لو كان منتجه فردا ، ألا ترى أن رجل الدولة شخصية اجتماعية وسياسية واقتصادية عامة لكل أفراد المجتمع ، رغم أنه من بيت واحد ؟ ! ، وكذا النص الأدبي هو من تأليف فرد ما ، لكنه شخصية اجتماعية عامة تؤثر في فكر المجتمع سياسيا واجتماعيا واقتصاديا وثقافيا وفكريا .فالكلمة إنتاج مجتمع وليست إنتاجا فرديا ، فلو أخذنا طفلا لينا من الصين وعاش في القاهرة ، ستكون اللغة العربية عنده هي اللغة الأم ، وسوف يتحدث العامية المصرية التي لا يجيدها مصري يعيش في الولايات المتحدة منذ عقود . 
فاللغة هنا بنت المجتمع ، وحينما يتناولها الأديب بصفتها الكنائية فهو يحاول أن يرسم الواقع كما يحدث في الشعر أو السرد ، أما إذا استخدمها بصفتها الاستعارية  فهو يستبدل واقعيتها بالمجاز ، لتصبح لغة شعرية .سياج / أنور أصفري **********رسم أنور أصفري لوحتين متداخلتين ، فالبناء الخارجي للأقصوصة بناء فنيا دلاليا يعتمد على حزن مستمر ، وألم مقيم ، وذكرى من الماضي ، تتكرر في الحاضر بنفس الأسلوب ، والبناء الداخلي لوحة لشجرة الزيتون ، واللوحتان بلا سور في ذهن المؤلف ، ولكن الأسوار عالية جدا أمام عين المؤلف ، هنا الصراع بين ما يرى وما يتمنى ، صراع بين الواقع وبين ما يجب أن يكون ، ويستمر الصراع في الأقصوصة بصورة جمالية ، هي أقرب للشعرية في اللغة منها إلى السرد ، وهذا فقه المؤلف الواعي الذي يريد أن يؤثر على النفوس بجماليات الكلمة الشعرية حيث إن الحدث معروف للجميع ، فالشعب الفلسطيني شعب مظلوم من قوى استعمارية ضالة وضارة ، ولا تعرف معنى الإنسانية ، وعلو شجرة الزيتون كارتفاع هامة الفلسطيني ، وقطع الشجرة هو قتل للرجل .******النداء / هبة بنداري************نعم هي نجمة السرد العربي الحالي بحق ، لأنها تنتج من القصاصات ثوبا رائعا ، وتضع يدها على مناطق فكرية غير مألوفة ، وتقدم لنا صيغا جديدة غير معروفة ، فالأم التي توفيت تطرح فكرة ، هل يتحدث المتوفي ويسمع ويجيب ؟! ، وهذه الفكرة في عقيدتنا الإسلامية مطروحة منذ غزوة بدر ، حينما نادى الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم على قتلى قريش بأسمائهم ، فقال له عمر _ رضي الله عنه _ يا رسول الله إنهم موتى ، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : والذي نفسي بيده إنهم أسمع لكلامي منكم .وقد طرح أبو العلاء المعري وإخوان الصفا قديما فكرة الميت الذي يتحدث ، وقد طرحها في عصرنا الحديث الروائي عبد الحكيم قاسم في روايته ( الأخت لأب ) .ولست مبالغا حينما أقول إن طرح هبة بنداري قد جاء أكثر فنية من الأطروحات السابقة ، وأرقى في تناسبها مع الشخصية الإنسانية ، حيث تستخدم فنيات السرد المعاصر بلغة رائقة وميسرة ، وتمزج بين السرد الحدثي والوصف بشكل غير مسبوق ، فلم يستطع المتلقي أن يعرف أن السارد في القصة هي أم ميتة ، حيث أسقطت الكاتبة حياتنا الدنيا على الحياة الآخرة ، وكأنها تقول لنا ، كثيرون منا يعيشون أمواتا وهم لا يعلمون .*************الساعة تدق الواحدة / عبد العزيز جويدة 
***************حينما أقول سيد شعراء العرب ، أعني من كتب هذا الشعر ، فهو ليس تشخيصا بل ذات اجتماعية يجب على الشعراء أن يرتقوا لمستوى الحدث الشعري عنده ، وهذا النص يبدأ بحصر بين التفسير واللا تفسير ( وجعي أنا ) ، فهو يغلق الباب أمام كل تكهن ، وأمام كل مخالف ، فهو سوف يتحدث عما يخصه ، ثم يقوم بتوصيف هذا الوجع ، التوصيف الزمني للوجع محدد مثل أذان الفجر ، والفجر هو الفيصل بين الظلام والضياء ، ولحظة الأمل بعد معاناة طويلة مع الظلام ، حينما ينفرد الوجع بصاحبه ، فيغلق عليه باب الغرفة ، ويستأسد الألم ، ويضعف البدن عن التحمل ، وتتداخل الذكريات ، وتأكل المشاعر بعضها بعضا ، وجميعهم ينخر في العظام ، فالغربة مؤلمة ، وفراق الحبيبة مثل موت الأم الحنون  ، إلا أن لحظة الفجر حينما تطل ، تأتي الذكريات الجميلة ، فخديجة أحبت محمدا صلى الله عليه وسلم لله ، تكريما لمحمد وتشريفا لخديجة ، وهذا الحب الذي نزل من عند الله لعباده ، لو فهمه الناس لكان كافيا ليسجد الناس جميعا لله ، ويحرصون على طاعته ، فأصدق لحظات الطاعة ، هي لحظة الحب لله .ينفرد عبد العزيز جويدة بلغة في منتهى البساطة ، وصورة في منتهى الوضوح ، وفكرة في منتهى العمق ، تتراكب القصيدة عنده على شكل جمالي في البناء ، فهذه القصيدة الشاهقة المطولة تشبه ناطحة سحاب ، بناها مهندسها على عمودين فقط للإعجاز ، فالنص كله مبني على كلمتين فقط هما ( وجعي أنا ) ، أما الأدوار العليا ففيها تنوع كتنوع البشر تماما ، فيها الحزن الجميل ، وفيها المحب الخائف ، وفيها النائم المفزوع ، وفيها الذكريات الجميلة والحزينة ، وفيها التاريخ الإسلامي ، وفيها مأتم والدة وهجر حبيبة .
***********ليس ما قلته في هذه القالة هو ما أريد أن أقوله تحت هذا العنوان ، وليس ما قلته من نقد عن أقصوصة أنور أصفري بكاف ، ولا ما قلته عن قصة هبة بنداري ، أو شعر عبد العزيز جويدة .هذه القالة رسالة مني لأحبابي ، رسالة لمدخل نقدي ، كيف نفسر الأدب ؟فالتفسير النحوي للأدب هو درس في النحو .والتفسير البلاغي للأدب هو درس في البلاغةوالتفسير النفسي للأدب هو درس في علم النفس  .فلا يمكننا أن نفسر نصا إلا من خلال النص ذاته باعتبار أن هذا النص بناء وتركيب وشكل خاص به ، وباعتبار أن النص الأدبي شخصية عامة تعيش في المجتمع ، وعلينا أن نتعامل مع هذه الشخصية على عمومها لا على تشخيصها أو حصرها في ذات مؤلفها .بقلم د.رمضان الحضري

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق