الخميس، 13 يونيو 2019

بقلم سميرة مسرار

في رحاب « رواء مكة » لحسن أوريد
علِمت بصدور رواية رواء مكة لحسن أوريد بفضل الفيديو الذي نشره الشيخ أبو
زيد الإدريسي، ثم حصلت عليها كهدية من شخص أعزّه وأقدّره كابن لي، وكم تمنيت لو كان واحدًا من أولادي. ورغم فرحتي العارمة بهدية كهذه لم تُتح لي فرصة قراءتها إلا في عطلة العيد. آنذاك وجدت نفسي هائمة بين صفحاتها، تتقاذفني أحداثها وترحل بي عبر أزمنة مختلفة جعلتني أتعثر بين قصصها  ووقائعها ... 
سبق لي وأن قرأت للكاتب حسن أوريد أكثر من رواية كربيع قرطبة والحديث والشجن وسيرة حمار، بالإضافة إلى مجموعة من المقالات النقدية والدراسات السياسية والاقتصادية. لكن رواية رواء مكة وما تحتويه من معلومات ووقائع ذكرتني بما عشته في طفولتي وبطرق التربية التي شاءها القدر لي .
حين استعرض الكاتب عدد الكتب التي قرأها ومشوار دراسته وبداية عمله، أحسست به وكأنه ينفض الغبار على جزء من حياتي حيث أرجعني إلى ثمانينات القرن الماضي. لحظتها تذكرت أبي ــ رحمة الله عليه ــ وولعه بالقراءة وحرصه على تأديبي بالمطالعة المستمرة. كان لا يكلمني إلا وفي يده كتاب جديد يهديني إيّاه والمتعة بادية على محيّاه. أذكر أنني كنت في سن الثامنة من عمري عندما وضع في يديّ الصغيرتين كتاب العبرات للطفي المنفلوطي وطلب مني قراءته، وأتبعه في الأسبوع الذي يليه بكتاب النظرات الذي وجدت صعوبة كبيرة في فهمه، ومع ذلك أتممت قراءته وانتقلت فيما بعد لرواية بول وفرجيني التي أبكتني لشدة تأثري بأحداثها. لاحظ أبي ذلك فتأثر لبكائي، ثم انتقل بي إلى كتب أقل حدّة كروايات جرجي زيدان ومؤلفات طه حسين، فتأثرت من جديد بأيّام عميد الأدب العربي وتهتُ في سيرته الذاتية.
هكذا بدأ مشواري مع القراءة فصرت أقرأ كتابًا في الثقافة العامة مرة في الأسبوع وقصة من القصص المثيرة كل ثلاثة أيام. ثم انتقلت في سن الرابعة عشرة إلى قراءة الجرائد كالشرق الأوسط، وكثير من المجلات كالوطن العربي والمختار وغيرها مما كانت تحفل بها مكتباتنا أنذاك. لقد قرأت كثيرًا واستمتعت بكل ما كنت أقرأ، وواصلت القراءة حتى أنه ليصعب عليّ الآن سرد كل ما قرأت. كنت أقرأ بنهم للاستفادة، ولكن في الحقيقة كان كل ذلك لأجل المتعة والقراءة، الشيء الذي قادني وأنا في سن السادسة عشرة إلى الانغماس كليًّا في عالم رفيع فالتهمت قصص يوسف السباعي ونجيب محفوظ وتوفيق الحكيم.
 في بداية دراستي في الإعدادية لاحظت اختلافي عن باقي زملائي مما كان يرجّح كفتي عند أساتذتي. آنذاك لم انتبه لهذا الأمر ولم ألاحظ تميّزي عليهم ليس في الدراسة فقط، بل في معاملة الأساتذة لي. لقد كنت الفتاة الأصغر سنًّا، تلك التي جاءت من الرباط، الفتاة التي كانت ذات شكل مختلف ولهجة مختلفة ولباس مختلف، بل والكثيرة الحديث والضحك والمشاغبة نفس الوقت. هكذا توالت بطولاتي وقراءاتي مع الزمن!
نعم، لقد كبرت الطفلة التي كنت أحمِلها في ذاتي، كبرت كنجاحها. لكنني أصبحت ــ وأنا أكبر ــ مشروع أمي التي بدأت تحرص على أن أكون ربة بيت ممتازة وزوجة مهمّتها إنجاح مؤسسة الزواج، ودورها يكمن في مساندة زوجها لينجح ويتفوق. لأجل ذلك كان عليّ أن أُلمّ بكل ميكانزمات النجاح كإتقان آداب الحديث والجلوس والضيافة والاستقبال وفن الطبخ والحرف التقليدية، معتمدة في ذلك على عدة أجهزة أوّلها جدتي وخالتي  فضلاً عن نادي الشبيبة والرياضة. كنت كارهة لكل هذا، ولكني صمدت إلى حين بفضل غنائم جولاتي التي توالت إلى أن وصلت إلى السنة الأولى من الثانوي، فمضيت في صمودي للدفاع عن قلعتي.
لم يتجاوز عمري الحادية عشرة، ومع ذلك كنت قد لمست قدرة سحري على حروف الراء والضاد أي أستاذ الرياضيات وأستاذ الرياضة. هذا الأخير كان يناديني الجُبنة البيضاء وقسم أنه لن يتركني ألعب مع هؤلاء البدو! أما الأول فقد أضاف لمهمته التربوية حرصه على العناية بشعري الذين كان طويلاً وكثيفًا حتى أنه كان يصعب عليّ تسريحه إن لم تتولّى أمره أمي .كل هذا كان يشعرني بالمحبة من حولي وباهتمام الكل بي مما جعل أيام طفولتي من أسعد أيام حياتي، وتوالت إنتصاراتي وإثنين اصبحوا ثلاثة  وأربعة......
لقد كبرت الطفلة التي بداخلي وهي تسمع كل يوم طموح أبيها في أن تصبح محامية ناجحة كصديقته المقربة اليهودية المغربية التي كان يصطحبني معه لزيارتها وهو يردد على مسامعي أنه يجب عليّ أن أدرس القانون مثلها، وأنه سيشتري لي مكتبًا كمكتبها، وأنه متيقن من أنني سأكون ناجحة مثلها. لم أكن أعير هذا الكلام أي اهتمام. كنت أقول في نفسي إنها أحلام والدي الطيّب، أما أحلامي أنا فدراسة الرياضيات والعلوم كباقي إخواني. لكن غلبني إصرار أبي وانتقلت إلى الثانوية لأدرس الآداب العصرية وأنا كارهة لذلك.
وأنا أقرأ رواء مكة، وقعتْ عيني على بيت شعري لحسان بن ثابث ذكره الكاتب في الصفحة 57 عند سرده لأحداث حياته وحديثه عن كيفية حبه للغة العربية وتأثير محمد شفيق عليه. هنا فقط رجعت إلى تلك الفتاة التي كبرت وكبرت ثقتها بنفسها مع مرور الزمن حتى أصبح من المسلّمات لديها حب الناس لها. صحيح، لحد الآن لم أصادف الكره ولا الشر ولا الحقد، كما أنني لم أسمع سوى المديح في حقي، فكيف لي إذن أن أعرف السب والنقد الذين أعتبرهما أبنية بلا معاني؟ كان أستاذ اللغة العربية لا يخرج عن هذا النطاق إذ لم يكن يرفض لي طلبًا. ذات يوم درّسنا قصيدة لحسان بن ثابث شاعر الرسول ــ صلى الله عليه وسلم ــ، فرفضت أن أدرسها أو أحفظها، بل وامتنعتُ عن أن أُمتحَن فيها مستغلة قدرتي على الإقناع فأثرت في أستاذي الذي أعفاني من كل هذه الواجبات.
كنت تلك الطفلة التي أتذكرها الآن وكأنني هي بالذات رغم النضج وفارق السن. ها أنا أتذكرها الآن فأضحك من نفسي وأقول إن حسن أوريد حفظ شعر حسان وأنا تهربت منه لاعتقادي آنذاك أنه شاعر جبان فرّ من القتال في سبيل الله إلى كتابة الشعر، فأقنعت نفسي بحجتي هاته لأتنكر لشاعر رفيع حفِلت به الكتب واحتفل به النقد ولا زالت تتغنى به الألسنة بعد مرور خمسة عشر قرنًا. أعترف اليوم أنني أشعر بذنب لا أعتقد أن عمر الصبية التي كنتها كفيل بأن يكفّر عنه!
ليتك يا أبي عشتَ إلى اليوم لتُعدّد معي الكتب التي قرأتها في العشر سنوات الأولى من حياتي لتشهد لي بأنها تفوق بعشرات المرات أضعاف ما قرأته في العشرين سنة التي أتت بعدها!
ها أنذا أتحول من مشروع محامية، لا أعرف هل كنت سانجح فيه أم لا، إلى مشروع زوجة وأمّ، أتداول أيامي بين الطبخ وتربية الأولاد. يا للزمن، لقد فارقتِ الفتاة التي كان الكل يَجدّ في إرضائها إلى امرأة تبذل الغالي والنفيس لإرضاء أسرتها! ومع ذلك فقد ظللت أحمل بداخلي صمود المحامية التي تدافع عن رأيها أوّلاً وعن الأفكار التي تؤمن به ثانيًّا مع أنّني أُمنَع من الكلام في الجلسات التي أحضرها، وكأن لعنة الصمت ارتبطت بالمرأة التي أصبحتُها أبد الآبدين. لقد ضاعت مني الطفلة الطليقة التي كنتها وحلّ في جسدي كائن آخر لا أعرفه، روح ما عادت تقرأ كما كانت، بل وربما ضاع منها الكثير مما حفظته الذاكرة، أو أن مخزونها شحّ عندما توافدت عليها الدلاء الكثيرة.
أتذكر ذات يوم، خلال تجاذب أطراف الحديث في إحدى الجلسات، أنني استشهدت بجملة لكاتب فرنسي أخطأت في بعض الكلمات، فاستدرك عليّ زوجي هفوتي قائلاً:
ــ ماذا كنت تفعلين في المدرسة؟ هل كنت تدرسين أم منحوك الشهادات إكرامًا لأبيك؟؟
كانت الصرخة التي أوقفتي، فتساءلت في نفسي:
ــ هل ما حقَقته بكل ما أوتيت من صبر وعزيمة كان إنجازي أنا أم كان إرضاءً لأبي؟ هل ما كنت أحظى به من رعاية كان حبًّا حقيقيًّا أم مجرد مجاملة؟ هل كنت التلميذة الوحيدة التي نشرت لها جريدة»  لوبنيون دي جون « قصيدة بالفرنسية؟ هل كانت حياة الطفلة التي كنتها حقيقة أم كذبة من أكاذيب الطفولة؟
صرخة أيقظتني من سباتي لتُخبرني أنه انتهى زمن أبي وجاء زمن زوجي، صرخة أبكت الطفلة الساكنة المتخفية في جسد المرأة، صرخة سجنت الروح وقست عليها، صرخة ذكرتني بأنني يتيمة الأب، وجعلتني أدرك لأول مرة في حياتي أنني أصبحت جامدة وسط مهام ومسؤوليات قتلتْ فيّ براءة الطفولة ورغبتي في القراءة!
ها أنا اليوم أتقاسم مع مؤلف رواء مكة هذا العالم الجميل وهذه الرحلة عبر الزمن والكتب، وإن كان كلٌّ منا قد سار في اتجاه مخالف. إني أراه يتنفس عبر ماضيه ويرشف من معين ذاكرته ما يرتوي به ليقاوم الزمن وهو ينتشي بلذة متعة القراءة والكتابة اللامتناهية؛ ولعه يراني فيحسّ ببؤسي ويبكي بنات أفكاري التي دفنتها حينما تحولت من روح تقتات من عبير خيالات الكتّاب إلى صدر يختنق بحمل أعباء التسلط، من ملكوتي الجميل إلى بطن يحبل، ويا ليته يضع جيلاً جديدًا يعيد للحياة تلك البهجة كي لا تموت، تلك الروح التي سكنتني وأنا طفلة في مملكة والدي!

بقلم سميرة مسرار 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق