السبت، 8 يونيو 2019

بقلم الشاعر بكري جابر

مساؤكم طيب يارفاقأعلم أن أصدقاء الفتى الطيب لا يقبلون بغير التفرد والتميز والجمال ، لذا أقدم لكم كأسا من خمر النقد الصافي  ، من ديوان  ( روى ) للشاعرة الرائعة ( عبير عبد المنعم ) ، فلنحلق في سماء من سماوات الإبداع الحقيقي ، يصحبكم فيها  خيال الفتى الطيب وقلمه........وفي القتلِ حياةٌ  يا أُولي العشاق ....( لغة المجاز و مجاز اللغة )في قصيدة ( المحكمة ) لعبير عبد المنعمإذا كانت اللغةُ هي ألةُ التواصلِ الحياتي بين البشر ، بها يتعارفون و يتواصلون عقلاً و روحاً ، مشاعراً و احتياجاً ، فلا شك أن للغةِ عند الشعراءِ ماهيةً أخرى و استخداماً غير ... ، فاللغة عندهم حياةٌ  وعوالم أخرى ، فهي كونٌ فسيحٌ فيه يتريضون ويعيشون حيواتٍ  لا يعرفها غيرُهم ، يُخلِّقون بها عوالمَ سحرية وتشيكلاتٍ إبداعية تليقُ بجلال ما يحملون داخل ذواتهم الشاعرة  من صراعات و زفرات و رؤى و أحلام ، ينسجون بها أثوابا جمالية مغايرة ، بما يكنون داخل صدورهم من زفرات ، وما يحملون داخل ألبابهم من رؤى وقناعات ، متجاوزين بها حد المتعارف عليه ، فيُحمّلونها دلالاتٍ مجازية و وجدانية ترتقي بالروح وتسمو بالعقل ،  فللغةِ عندهم سحرٌ و استعمالاتٌ أخرى ، لها عبقٌ و بخورٌ يسلب الروح و يأسر العقل ، دون أن تقترب من جذوة نيرانهم  أخليةُ العوام ، أو تقبض على جذع الشجرة داخل أرواحهم ؛ لغةٌ يستنشقها المتلقي في جلالٍ و هُيام ، دون أن يقبض على  سر الوهج ، أو يُحجِّم بؤرة الفوران الشعوري داخل الذات الشاعرة ، فيحاكمها ، أو يوجه إليها لوماً  أو عتاباً ؛ و تلك مهارةٌ لا يمتلكها كثيرٌ ممَنْ يقرضون الشعر ، بل تتأتي للشاعرالشاعر بعد توغلٍ في بحور اللغة  ، والسبح عبر أمواج معانيها و فضائتها ، واقفاً على أبعاد تلك المفردات الحيّة وكُنهها ، فيستطيع تطويعها  كيفما يشاء  ، ويحمّلها ما يشاء من معانٍ و زفرات ، متواريا خلف حروف البيان بكل مكرٍ و دهاء ، مُحتَجبا خلف ذلك الحجاب اللغوي الشفيف ، إنْ خوفا من جورمجتمعٍ أو محاكمة سلطانٍ أو عُرف أو معتقدات ؛ فاللغة عندهم ذلك الفانوس السحري ، الذي يسكنه جِني المعني ، فيَتلوّن كيف يشاء ، حسب مقدرة الشاعر الساحر ، دون أن يصيبه عُتبٌ أو حساب ، وتلك الميزة تمتلكها جُل اللغات ، ولكن تقف لغة الضاد  فوق قمة هرم الإبداع  توريةً و مجازا و حلاوة وسحرا ، (فإن من البيان لسحر) .ونرى في قصيدة ( المحكمة ) للشاعرة عبير عبد المنعم ، ذلك بوضوح وبجلاء ، مجسدة (لغة المجاز  و مجاز اللغة ) بكل مهارة و اقتدار ، فنراها تُحمِّل اللفظة الواحدة  أبعادا غيرالأبعاد ، ورمزية ساحرة تفتح للمتلقى آفاقا  فوقية و تحتية غير تلك  الآفاق ، وممُسِكة بزمام اللغة في مهارة غير عادية ، فتُحمّلها ما تشاء من أبعاد و أبعاد ، متوارية خلف ألفاظ اللغة بدهاء الأنثى و مكر الشعراء ، حفاظا على ما لديها من أعراف و معتقدات ، تبثُ بين حروف قصيدتها ( المحكمة )  نيران لوعتها و احتراق الذات  لهفة و رغبة و اشتهاء ؛ ونحن هنا في ساحة محمكتها ، نحاول السبح عبر دلالات تلك اللغة المغايرة ، علنّا نفك طلاسم تلك الذات، ونفسر سر بخور اللغة و رمزية تلك الثورات الداخلية  لمجاز اللغة ولغة المجاز  .بداية ، نقف عند العتبة الأولى للنص ألَّا وهو العنوان ( المحكمة ) فأي محكمةٍ تلك ؟ ومَنْ أطراف المحاكمة ، وما الجُرم ؟ وما الحيثيات ، ومَنْ ذلك القاضي ؟ ومَنْ هو القاتل ومن المقتول ؟ وما سبب تلك الجريمة الشريفة النكراء ؟ نرى منذ الوهلة الأولى انفتاحا في التأويل ، وتفجيراً لفضاءات عِدة ، وذلك من خلال عناصر التشويق في النص ، وتعلن الشاعرة عن ذاتها منذ البداية ، أنك أمام رمزية عميقة و دهاء أنثوي ماتع ، ومجازا مغايرا، وأنك لابد أن تستجمع كل حواسك البشرية عند الدخول إلى ساحة محمكتها الشعرية ، و أنك أمام لغة تمتلك من المجاز مجازاتٍ ومجازات :محكمة ..... قال وأسنانه تصطك. قتلتهوأعترفمنذ البداية تختبئ عبير عبد المنعم خلف ضمير الغائب (قال ) ، وكأنها الراوي العليم المحايد، لتُبعد عنها تلك السُبة في القتل المتعمد ، وتتوراى خجلا وترفعا عن عين المجمتع و المحيط الأسري  ، الذي قد يكشف عن خبيئة نفسها  ، و سر تلك الجريمة الحب ، ثم تعود إلى ضمير المتكلم ( قتلتُه ) و كأنها تستحضر ذلك القاتل المجهول المعلوم  إلى ساحة محكمتها  ليتحدث عن نفسة ، فهل هي القاتل أم المقتول  ، أم كلاهما ؟! فأي مكر أنثوي ماتع هذا المكر ؟!..!! كان لابد أن يموت.. حياته فخ لوجودهم وفنائه... سيدي القاضي.... قتلته لأصنع من عموده الفقري دعامة لظهورهم... من أضلعه حصيرا لهم ... ومن عينيه غيما يمطرهم. ويلتهم لهيبا يتربص بهمونرى هنا تلك المشهدية المسرحية في ساحة القصيدة المحكمة ؛ قاضٍ و قاتلٌ و مقتولٌ و صغار ، وما  وراؤهم من فضاءات و مجازات متعددة ، ولنتسائل عن ماهية ذلك القاضي ، ومن ذلك القاتل المدافع عن جرمه ؟ ومن ذلك الشهيد المقتول  دون ذنب أو جريرة ؟ ومن هؤلاء الصغار  الذي من أجله ارتكب القاتل الشريف جرمه في قتل بعض ذاته ؟ وهنا تقف اللغة الشعرية شامخة ، ويتحدث عالم المجاز البراح ، ليفتح مجالا للتأويل  و وضع كل الفرضيات أمام المتلقى ، كلٌ حسب قرائته للنص ومدى جناح خياله و عمق لغته ، وفق ثقافته  وبصيرته  وتمثله لدلالات الألفاظ ، فهل القاضي  هنا هو ذلك الضمير الأنثوي الذي بين جنبيها  يحكامها على قتل ذاتها العشق ؟! قد يكون  ، وقد يكون ذلك الحب القتيل يقف قاضيا ومحاكما وجلادا ؟ قد يكون  ،  وهل المقتول هو ذلك الحب الذي وأدته بين جنبيها ، وجعلت من جوارحها قبرا له ؟ أم المقتول هو تلك الذات العاشقة التي قتلت جنينها حتى لا تُوصم به ويقضي على صغارها و يهدم عشها ؟ قد يكون ؛ ومن هؤلاء الصغار الذين من أجلهم قتلت مع سبق الإصرار ؟ هل هم صغارها الذي خشيت أن يكون ذلك الحب سببا في قتلهم وتشريدهم ؟ قد يكون ، أم هؤلاء الصغار هم تلك المشاعر البريئة الطهر ،  التي خشيت عليهم تغول ذلك الحب ، و أن تُقتل ـ المشاعر العذرية البكر ـ يوما ما ، تحت وطأة نار الجسد و برودة الوجد  ، أو تحولهم من العذرية البكر إلي المادية البحت ،  فتموت تلك الصغار البرئية على صخرة التوهج مرة أو الرفض ؟ قد يكون  ، هنا نرى المجاز هو البطل الأول في تلك القصيدة الساقية ، التي لا تكف عن الهدرو الهذيان حتى نهاية المحاكمة .قصيدة الساقية ،أو هكذا نطلق على ذلك النوع من الهدر الوجداني و العاصف ، الذي لا يقف إلا مع انتهاء تلك الشحنة العاطفية من البوح  والفوران .و لنقف عن لغة المجاز أو الصور الشعرية المجازية ،والنسج الخيالي من تصوير بلاغي ، مستخدمة التشيكلات البلاغية ، فنرى (قتلته لأصنع ، من عموده الفقري دعامة لظهورهم ، من أضلعه حصيرا لهم ،ومن عينيه غيما يمطرهم ، ويلتهم لهيبا يتربص بهم )فهنا يحلق التصوير البلاغي  بأجنحة  التصوير الإستعاري ، باستخدام الإستعارة التصريحة و المكنية  بوضوح جلي ، ومهارة العزف على منوال الإستعارة والتصوير الكلي للوحة الشعرية الكلية ؛ أما عن مجاز اللغة ، فهو تلك الأبعاد الدلالية التي تفجرها تلك الألفاظ ، و استخدام اللغة استخداما مغايرا ، لتتسع لمعاني و دلالات  فكرية ونفسية  مغايرة ،  بإستخدام تلك المرادفات بصورة مختلفة ، تفتح آفاقا متعدد أمام التأويل و وضع فرضيات متعددة ، فنرى (( دعامة، غيما يمطرهم ،لهيبا ، يتربص )وهنا من خلال التأمل لكل لفظة على حدة ، نراها تفتح دلالات متعددة  وتأويلات متباينة  ومتوازية لأفق اللفظةالواحدة  ، فعلى سبيل المثال ( غيما ) فهل أصبح دماء القتل غيما و سحابة تروي ؟! فالغيم هنا يفتح آفاقا مغايرة لتلك الفظة الغيمة المتعارف عليها ، من رِي وسقاء ، بفضاء أوسع من المتعارف عليه ، في لغة التضاد  المتنافر  ، وكذلك لفظة ( لهيبا ) فيتحول هنا ماء العشق العذب إلى لهيبا يحرق و يدمر ، وعلى البعد الآخر ، نجده هو ذلك اللهيب الذي يدفئ القلب من برودة الحياة  ويمنحه حياة ، فهنا أصبح إخماد ذلك اللهيب غيما و حياة  ، ولكن للصغار فقط ، وكذلك أصبح قتلا و هلاكا لتلك الذات العاشقة ، فأصبح لفظ  اللهيب ، يأخذ أكثر من بعد ومعنى ، فهو لهيب الحياة وماؤها ، وهو الهلاك  والتشريد و القتل ، وكذلك بقية الألفاظ التي تفتح مجالا لمجاز فوق المجاز، ولغة تحتية للمعني الظاهري .ثم تستمر القصيدة الساقية الهادرة في النزف ، والبوح في ساحة المحكمة الداخلية ، وجلد الذات الشاعرة للذات الأنثوية ـ التي سوغت في عرفها وثقافتها الجنوبية ـ جريمة القتل فأحالتها إلي حياة و نجاة ،تقول :سيدي ... قتلته وفجرت ذاته التي تشبهني..  أهديه لهم نشيدا لحنه فورة أعضائي حين رغبة !!.. ترانيم صلاة أوردتي.. تخرج من عينيتهتك ستر نيران متقدة في !!وهنا تظهر الذات الشاعرة جلية و اضحة وضوح الشمس ، في محاكمة الذات للذات ، ( ذاته التي تشبهني ) ( فورة أعضائي حين رغبة ) ( ترنيم صلاة أوردتي ... تخرج من عيني ) ( ستر نيران متقدة فيِّ ) هنا تبيّن الذات الشاعرة ، أنها القاتل و المقتول في آن واحد ، وأن القاتل ، هو الغائب الحاضر فيها و لا يغيب ، وهم كذلك لا يغيبون عن المشهد ( الصغار ) ، و الأعجب جملة ( ترانيم صلاة أوردتي ) فالمتعارف عليه أن القتل يكون للرجس والدنس الحرام ، ولكن هنا القتل للطهر والبراءة  ، لتتجسد تلك الثقافة الشرقية ، بعقل عبير  عبد المنعم  واقعا حيا ، في أن العشق الطاهر قد يتعارض مع البُنيان المجتمعي الجامد  ، فتقتل براءتها بمحض إرادتها ، إحياء و تجسيدا لتلك الثقافة الجنوبية ، و الموروث مجتمعي الذي نشأت فيه و تتبناه ، حتى و إن كانت رافضة له ، فتقتل ذاتها لتحيا في ذوات أخرى ، ولكن هيهات لذاك المقتول أن يغيّب في غياهيب قبر الضلوع ، فلايزال ( متقدة فيّ) فماذا فعلت إذن ؟!.ولكن تأبي تلك الذات الشاعرة ، إلا أن تكون حكيمة و فيلسوفة ناصحة للغير ، علّها تهدم ذلك الموروث  القميئ  في غيرها ،ناصحة و محذرة  ، فتتحدث  بلغة الحكمة والحزن ، قائلة و بعلو  صوت الذات الداخلية ، حذار أن تبحثوا عن سعادتكم في عيون الآخرين مهما يكن  ، فلن يمنحكم الغير  مهما كانوا حياة  بديلة عن تلك التي فقدتموها ، فتقول  :...  سأنشر رسالتيلا تدسوا احلامكم في عيون الأخريننقبواعن صرخات في عمق انفسكمهكذا تعترف  ، وهكذا تنقل خبراتها الحياتية بلغة الأنثى المقتولة إلى بني جنسها ، حتى لا يموتون مثلها ، ثم تسترسل منفصلة عن الوعي الشعوري  إلى اللاوعي  ، مفجرة صرخاتها في ساحة محكمتها التي تنصبها لذاتها ، و لمجتمع الجبر  ، محاكمة وجلدا علّها تتطهر ،  وتغسل ببوح إعترافها على مذبح التطهر ما يعتري روحها من عذاب  و ذنب ، علّها تهدأ قليلا ، فتقول  :.. سيدي القاضي.. قتلته فلم يكن معي ثمنا لحلوى يحبها لم استطع ان ادفأ اطرافه قتلته ... كان صراخه يجعلني هشا قتلته خفت عليهم حشرجة المناجل ووحشية المعاولفقتلته ...بفلسفة ( المطهر ) في الثقافة المسيحية ، تقف لتتطهر أمام الذات ، ولتنفض عن روحها ذلك الغبار المجتمعي الآثم ، هامسة في غفلة عن عيون المجتمع ، ومستخدمة أرقى لغة للإعتراف ، بلغة  المجاز  المتعدد الأبعاد ، وكأنها مريم البتول ، التي تُنزّه ذاتها عن دنس الخطيئة ، وكأن الحب قد صار في عينها خطيئة  وذنبا ، و لا ندري مما تتطهر ، أمن جريمة القتل أم من جريمة العشق ؟!  .لم استطع أن أدفئ أطرافه ،قتلتهكان صراخه يجعلني هشايا للصراع الداخلي ، و المصارحة  بطبيعة الأنثي التي تقف هشة  نشوانة، فاقدة القدرة على التحكم في صهد الذات أمام رغبة الذات ، فتقتل روح أنوثتها بمحض أنوثتها ، وهنا تظهر شموخ الأمومة و كبرياء التضحية و إنكار المشاعر و الذات ؛ (قتلته خفت عليهم حشرجة المناجل ، وحشرجة المعاول  ) لنقف هنا ليس عند لغة المجاز ، في التصوير الإستعاري للعواطف وشهوة الأنثى  بالمناجل الحادة و المعاول المفترسة ، لنتحول إلى مجاز اللغة في تلك الألفاظ الخلابة، فهنا تأخذ  (المناجل و المعاول) دلالات متباينة متوازية متنافرة ومتوافقة ، فنرى فورة الوجدان وثورة المشاعر تتحول إلى مناجل ، و المتعارف عليه أن المنجل للحصد و الذبح ، فهنا  المنجل قتل ، وهناك على المعني التحتي  يكون  طعام وحياة ، حياة لهؤلاء الصغار ، و في ذات الوقت قتل لبراعم الحب و ورد الحياة في الأنثى ، و كذلك لفظة ( المعاول ) التي تحيلك إلى معني غير المتعارف عليه من أنه آلة  للهدم  ، فيتحول على البعد الآخر  إلى آلة للتشييد والبناء ،  يشيد ويبني حياة هؤلاء الصغار ، فالمعاني التحتية للألفاظ أكثر عمقا وفتحا للعديد من التأويلات .ثم تأتيك  عبير عبد المنعم في لحظة صدق ، و اعتراف باكٍ ، ينزفها لغةً شعرية ، ودموعا  تتواري خلف حجاب الأمومة و الشموخ ، بمفتاح القصيدة  ، في لحظة صدق وندم  ، فتقول :
.. ربما كنت انانيا ربما تحطمت نظارتيفلم تعد تسعف خطواتي أو كانت المسرحية لا تحتمل وجوده.... مع أنه بريء نقي هاديء عبقري... لكن كان لابد أن يموتخشبة المسرح لم تتحملنا سويافهنا تعترف بالأنانية و قصر النظر ، و انعدام البصيرة و الجبروت ، وكل ذلك يتماس بقدر كبير  مع طبيعة المنشأ والمحيط المجتمعي في جنوب الصعيد ،من وأد لأية مشاعر قد تُعرض حياة الأسرة إلى ريح الهوى وعواصف العشق ، حتى و إن كان برئيا و هادئا ، نديا وعبقريا ، فخشية المسرح الجنوبي لا يعترف بمثل تلك الدراما الإنسانية ، فتأد المرأة الجنوبية جنينها العذري بين شقي رحى ، الأمومة و العُرف ، جبروتا و قهراً ، وقد نرفق بها فنقول فداء و وفاء .  ثم تأتي مرحلة العواء و العديد و الصراخ و الجلد ،  و الإنهيار في ساحة المحكمة ، أمام قاضيها الذات ، فنرى تلك الذات الشاعرة المتجبرة ، تتخلي وبكل جبروت أنثوي عن كل أقنعتها الجمود ، فتهذي حد الهذيان ، فنراها متحدثة بلا وعي ، ممزقة كل أقنعتها التي تتوراى خلفها ، في لحظة صدق ، و انفصال الذات الشاعرة عن تيار الوعي ، متماهية في اللاوعي ، فتزلزل أركان محكمتها وقاضيها  ، باكية نادمة ، عاشقة شرهة حد الجنون ، مستحضرةفي ذاتها المقتولة، كمحامي دفاع ، وصكوك غفران يغفر لها جريمة اللوعة و التصريح و المكاشفة الداخلية ، إن لام لائم أو صوّب نحوها سهام  الملامة والعتب ، فتصرخ و تتوجع ، خلف تلك الجدان الحجرية التي  قتلت نفسها عشقا و كبتا ، فتقول :الغيم لن يلد مثله ... أما هياتت اخذتهحملت فيهخبأته رحم روحها ميتاميتا ... سيدي القاضيأنا قتلته.... هي تحاول لملمة اشلاءه أنا اعترفكلما حاولت هي ...أنا افتته من جديدوهيهي تحاول ...!!!وهنا نرى ذلك الجبروت من تلك الأنثى ، التي رُغم مرحلة الإنهيار والصدق  الوجداني في  قمة الإنشطار الإنساني ، تتوارى خلف ضمير الغائب ( هي ) ، وكأن تيار الوعي ، عندها أقوي من اللاوعي حتي في لحظة الهذيان  ، وأن ذاتها التي ضحت بها وقتلتها ، تخشى عليها  حرارة التصريح  و الكشف ، فتخشي أن تخسر تلك الذات الواعية أن يُنزع عنها وسام  التضحية ، وتفقد نوط الشهادة  وأن تفقد  عرش المهابة و الجلال الذي ضحت من أجل أن تناله في عيون الآخرين ،  فالتصريح والمكاشفة بمكنون اللوعة و الوجد في نظرها لن يجدي ، و لن يعيد ما قد مات ،  فيكفيها خسارة واحدة بدلا من  خسارتين ، فلتبقي على ذلك الثمن الزهيد، الذي لن يشبع و قد يفيد ، و يكفي أنه المكسب  الوحيدالذي خرجت به من تلك الحرب الضروس ، التي فقدت فيها صهد الأنثوية  وزهر القلب ، فبكل وعي شعوري ، لا تتماهي في رفع الحجاب ، بالكشف عن مكنون الذات  ، وإِنْ يكن  حيا ذلك الذي قد تواري خلف حجاب ، فليظل متواريا . ... سيدي القاضي انتابتني حمى لا بل حراب تمرق عبر أكتافي ورياح توثقني ... ... قتلته ال بريء لأجلهم ليتني تركته يأكل نصف حلوىيحلم نصف حلم ...... هم الوهم الحقيقي ليتني تركته... يلهو معهم ويمرح ولم اقتلهوألقه غياهب الخديعة ...... كم مرة استدرت كي أنقذه.... لكنهم كانوا بحاجةلحصير وعمود يقيهم تصدع الغد حولهم ....كانوا بحاجة لعينيه ....... كان لابد أن أقتلهسيدي القاضي ... أعترفقتلني ...لابد لنا من وقفة نفسية و سيكلوجية مع طبيعة اللغة ، من خلال الإبحار بين أمواج حروف جملتين من أخطر  جمل القصيدة ، وتعبر بدلالة قاطعة الدلالة على تطوير طبيعة الأنثى مع مراحل الحياة و الزمن ، وأن مشاعرها تتنامي بتنامي الزمن ، ككل كائن  كلما مرت عليه السنون و تفاقم عليه  تيار الحنين  ، ألا وهما جملتي (  قتلته فلم يكن معي ثمنا لحلوى يحبها ) وهنا تعبيرا عن مرحلة عمرية معينة ، من الحدة و الصلابة  التي تتوافق مع ريعان الشباب ، ثم جملة  ( ليتني تركته يأكل نصف حلوى ) وهنا مرحلة أخري ،  فنري مرحلتين من حياة  المرء على العموم ، و الأنثى على وجه الخصوص ، خاصة تلك التي تنحدر من أقاصي الجنوب ،  فرغم أنها كانت تمتلك الحلوى  بكل نضارتها ( كل حلوى الأنوثة الطاغية الناضرة في ريعان الشباب ) ثم تمنعها  وتقصرها على هؤلاء الصغار ، و تدعي بتحجر قلب ظاهري ، و فطنة عقل و واقعية حياتية متوافقة مع المحيط المجتمعي الذي نشأت فيه ، فتدعي أنها لا تمتلك تلك الحلوى ، ثم عندما تمر السنون ويكبر هؤلاء  وتكبر هي معهم ، تشعر بالوحدة و الحنين ، خاصة عندما  ينصرف كلٌ إلى غايته في الحياة  ، مخلفين لها فراغا روحيا وحياتيا ، تفتح صندوق الذكريات ، وتتحس مظاهر حلوتها فتندم أشد الندم ، خاصة بعدما ينقضي دور الأمومة ،  يظهر بكل جلاء وجه الأنثى الأنثى  ، متحسسة بعض حلواها في مرأة الزمن ولسان حالها يقول :  ليتها كانت منحته بعض حلواها  ، ليلهو معهم ، وتلهو هي معهما  ، ولكن هيهات هيهات !!فهناك جملة مفصلية في قصيدة المحكمة عند عبير عبد المنعم،  تتكئ عليها ، وكأنها تلتمس لنفسها صك البراءة أمام نفسها ، و أنها ما ارتكبت تلك الجريمة النكراء ( القتل ) إلا شرفا ونبلا  ، وتلتمس لنفسها أيضا العزاء والسلوان ، ألا وهي جملة ( لكنهم كانوا بحاجة  ، لحصير وعمود يقيهم تصدع الغد حولهم )  ولنتسائل  إذا كان قتلك و قتله داخل جنبيك عمودا فقريا وحصيرا لهم ، فأين عمود أنثاك  الفقري و حصيرك أيتها الذات الشامخة المتهدمة ؟؟!!.تلك القصيدة الساقية الهادرة حد الهدر بهمس وصراخ  ، وعواء ونحيب ، تتشكل كل آليات النسج الدرامي  من خلال المنولوج الداخلي ، والبعد الفلسفي والنفسي  لمجاز اللغة  في التعبير عن الوعي و اللاوعي الشعوري للذات الشاعر ، والنسج بالتعبيرات المجازية في تصوير ليس تقليدي ، بل يتماهي مع فورةالوجدان وصدق التجربة  ، خاصة إذا كانت تلك الذات تمتلك و بمهارة من كنز اللغة ، ومعرفة دلالاتها البعيدة للمعاني التحتيه للمضمون الدلالي و لفحوى المفردات في كل حقل  ، فتستخدمها بوعي رمزي ، محافظة على بكارة تجربتها الشعرية من الوقوع في الغموض ، مع الإبحار الممتع في عمق الخيال ، و فتح فضاءات جديدة لأبعاد لغوية ، نطلق عليه مجاز اللغة ، الذي يحيل المتلقي لأبعاد جديدة للغة الشاعرة  بفضاءات قد تكون متنافرة ومتوازية ومتناقضة و منفتحة على شتى التأويلات ، ليغترف المتلقي من ذلك المعين الدلالي ما يتوافق وثقافته ، وما يسمح له جناح ذائقته بالتحليق مع الذات الشاعرة  ، مع الإمساك الجيد للخيط الدرامي ، وتصاعد الهذيان و الفوران الشعري ، واستخدام اللغة التي تتماشي مع طبيعة البيئة المكانية و الزمانية ، وكذلك الموروث الديني والقيمي ، والحفاظ على الحجاب الأنثوي الشفيف ، الذي لا يشين  حجاب التصريح ، باستخدام الضمير بكل مهارة واقتدار ، و التنقل الواعي  ما بين ضمير الغائب  و المتكلم والمخاطب ، بقلم المكر و الجمال و الدهاء ، وذلك حجاب رقيق يصف و لا يشف ، فتظل معه متوارية  في خفر ودلال ، خلف لغتها المتمايزة ، وإن كانت تنزف حد النزفن وهي الواقفة على باب البوح و الرجاء  .و إن كان ثراء التجربة ومجازا اللغة وحلاوة العرض  ونصاعة النسج ، لا يغني عن إغفال الإيقاع الموسيق و الإيقاع الذي افتقدته القصيدة ، ولكن نلتمس العذر لفورة الوجدان ، وغلبة الحالة  والصدق على الحبكة الصناعية ، فجاءت القصيدة مطبوعة بروح الوجد و النزف ، لا مصنوعة  بحبكة الصناعة و النظم .
بقلم .. الفتى الطيب / بكري جابر

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق