الخميس، 17 يناير 2019

بقلم محمد ياسين

دندنة على نغمات "الزهايمر"
على حين غرة، وقفت المسكينة، وقد  أسندت ركبتها بيمينها  لتساعدها على الوقوف، مرددة " خانتنا الصحة العدوة"، انتصب ضهرها بصعوبة ما حمل طوال المسير في هده الدنيا...خدني نموت فداري "بالبلاد"، قالت وعيناها مثبتان في عينيك،  قابلتها بابتسامة من شفتيك محملة ، بثقل ما أخبرتك به طبيبتها ذات زيارة. وجب الاحتياط  في مثل حالتها، صرحت الطبيبة، أحيانا يدخل المريض في ردود فعل غير متوقعة...ذاك هو حال "الزهايمر".
تسمرت عيناها في عينيك، كانت التاريخ كله، بما حملت هي وما حملت أنت، وهي تجول بعينيها الدامعتين، بين تقاسيم وجهك، خلتها تتذكر، يوم كانت تجوب تلك الغرفة المستطيلة الطويلة، بدءا من ركنها المظلم، حتى يستقر رأسها في نافذة الجهة الأخرى ، لتطل على منحدرات ومنعرجات الوادي، آخذة  نفسا طويلا، مرددة "غادي يخرج...غادي يخرج، عتقوني ب "ستي فاطمة"، وهي تتحسس ضربات رجليك هنا وهناك، كانت تضع  يدها على أماكن ببطنها، وكأنها تحاول الإمساك بك. كنت أنت على عجل قبل الوقت، لتغادر موطنك الصغير، وقد خُصِمت قَهْرا شهرين من حياتك هناك. ..ستحكي لك الجدة حين تكبر قائلة " انت سباعي " ، سيكون لك شأن .
لم ينسيها "الزهايمر" دعواتها لك،رغم اختلاط بعض الأمور التي أصبح أعلاها سافلها، وأسفلها أعلاها ،حز في نفسك، أن تراها على تلك الحال، وأنت  الدي عايشت  صولاتها وجولاتها، تغيير جلابيبها بين كل سفر وسفر، تذكرت أحد أعمامك وهو يناديها فقط ب "الجلابة" لكثرة سفرها مع الوالد، ولكونها كانت الكل في الكل، الآمر والناهي في الأسرة الكبيرة والأسرة الصغيرة وكأنها شيخ القبيلة، قلت في نفسك، كيف يتغير حال الفرد منا،  كيف تبدأ مناطق في  دماغه بالتقلص شيئا  فشيئا ، ليفقد الإنسان  تدريجا الكثير من ملكاته ، المركونة هنا وهناك في ذاكرته، القصيرة أو الطويلة المدى على حد سواء.
هالك أن يأتي عليك يوم  -كما يقول الأطباء  - لتفاجئك  - لا قدر الله -  أمك بسؤالها : من أنت؟ قلت في نفسك، اللهم لطفك، اللهم حل بيننا وداك اليوم.
حاول الأحفاد استلطافها  بشتى المستملحات، للعدول عن فكرتها، فما استطاعوا لدلك سبيلا، لم تنفع مع ذلك  سوى جرعة الدواء المضافة في كاس من الماء...
مع كل نظرة في عينيها، كانت تنساب أحداث ووقائع، تذكرت يوم كنت تدرس في الإعدادي في مدينة نائية عن قريتك الصغيرة، كانت العطلة البينية، انتظرت المسكينة  وصولك، حين أخبرها "الحاج" بأنك ستأتي  بعد غياب  بسبب الدراسة، لم تفارق ساحة المنزل، كانت تنصت لعلها تسمع هدير  الشاحنة المحملة بأكياس الطحين،  والتي يفترض أن تحملك معها، في غياب المواصلات هناك. بدأ الليل يسدل خيوط ظلامه الدامس على القرية، تيقنت المسكينة أنك لن تأتي. في حركة انفعالية، طوحت  في القمامة بكل أكلة شهية هيأتها لك ، قائلة " مَلِي مَجَاشْ وَلْدِي والله وَاحدْ لَاكْلاَهْ " سيحكي لك الوالد حين قدومك بعد يومين...
مع الشريط داك، تذكرت  أزمتها النفسية ، حين نزل الوالد من قطار الحياة، وهو  في عقده الخامس، محدثا فراغا، لم يتمكن من سده  حتى نجاحك – الدي كان يرتقبه معك -   في سلك التفتيش... لحظات كانت جد عصيبة، وأنتم جميعا تتأقلمون بمساحة تركها فارغة، من مستملحاته، من هيبته ووقاره، من لمساته الحنونة، غير ما مرة كانت المسكينة تردد  في حصرة، "إوَى أَوَلدِي غِيرْ كَتزْيَان كَتَخْسر"  حين نجحت، غادرنا الحاج، هي ذي الحياة، تغريك بعطاءاتها  المتكررة وعلى حين غرة ينقلب كل شيء... لا تبقي لك  سوى الذكرى تلو الأخرى.
استبشرت خيرا حين عدت من المقهى المجاور ، ووجدت الحاجة في مكانها المعتاد، بنظراتها المعتادة، وقد غاب عنها ما حدث، ذاك هو "الزهايمر" لحظات منفصلة عن بعضها، البعض، أحيانا يحظر الخيط الرابط بينها وأحيانا ينفلت...
بقلم محمد ياسين.
الرباط/ المملكة المغربية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق