الخميس، 21 سبتمبر 2017

بقلم الاديب يوسف المصري

لماذا  ؟!!
تمرُّ على ذاكرته كشريط سينمائيٍّ مُسرّع ..  ما بين المقطع والآخر تطفو على سطح الشريط صورٌ هلاميّة غير واضحة المعالم .. شاهد في هذه العُجالة تكثيفًا لحياته .. تراءت له الأحداث منذ وٙعى على سطح الدنيا .. حتى المستقبل القريب ..  تراءى له.. شاهد نفسه وهو ينزف ..  وهو يُدفٙن .. وحضر أيام العزاء .. تراءت له في هذه الثواني أحداث كتيرة يحتاجُ استحضارها منه في الوضع الطبيعي ساعات طوال .. لكنّه الآن في وضع لم يشهده من قبل .. يختبئُ خلف جدار حجريٍّ ضعيف .. والجنديُّ الإسرائيليّ يطلقُ عليه النارٙ من قرب .. ويٙجبُن أن يتقدّم خطوتين للقضاء على هدفه .. ولم يتوانٙ عن السّباب واللعن والشتائم ..  بلغة تمزج  بين العبريّة والعربيّة .. رجع صاحبُنا بشريط الأحداث قبل دقائق ..  عندما قدم لزيارة أخيه السجين منذ بداية الانتفاضة المباركة .. قبل خمس سنوات ..  ترافقه أختاه الكبيرتان .. ويمسك بيده اليمنى يد ابنه البكر .. الذي استقامت خطواته في هذه الأيّام .. منعه الجنديّ من المرور .. متعلّلًا أنه لا يُسمح بالزيارة لأكثر من ثلاثة أشخاص .. كان يعرف هذه المعلومة .. ويتوقّع ما حدث .. إلّا أنّه كان يأمل أن يستثنوا الطفل الصغير من هذا القانون .. خاصّة وأنّه حين الدخول من البوّابة حمله بين يديه .. وكأنّ لسان حاله يقول للجندي المسؤول : إنّه صغير لم يتجاوز العامين .. ولكن عاطفة العدو أقسى من أن تُجيّر القانون لصالح طفل يُعتبر في عرفهم عدوًّا .. وربّما إرهابيًّا ..لم تطل المناقشة .. وسرعان ما سلّم بالأمر ؛ خشية إصدار قانون جديد يمنعهم جميعًا من الدخول .. أوصى أختيه بابنه .. وأدار ظهر الخروج .. فسمع بكاء صغيره .. الذي سرعان ما انقلب إلى نُواح .. فطلب من الجندي أن يُحضر له طفله .. تفهم الجنديّ الأمر .. أو أنّه أراد أن يُحدّٙ من الإزعاج والضوضاء التي سبّبها الصغير .. وكان قد سار في الممرّ الضيّق للتجمّع في ساحة صغيرة .. قبل التوجه في مجموعات للزيارة .. كان كلّ هذا التعقيد من الضرورات الأمنية للعدو .. في هذه اللحظات التفت إلى وقوفه على البوّابة .. ثلاثة حرّاس كانوا يتواجدون في المكان .. وضع قائدُهم يده على كتف صاحبنا يريد سحبه من مكان وقوفه .. فأخبره أنّه ينتظر حضور ابنه الصغير .. الذي يصرخ ويبدو أنّ الجندي أصرّ على إخراجه في هذه اللحظة .. في هذه اللحظة سمع تكبيرًا : الله أكبر .. الله أكبر .. ولمح سكّينًا يغرس في عنق الضابط .. واختطف نظرةً ضبابيّة إلى وجه البطل ابن هذه الأرض الثائرة ..كان متوسّطًا في كلّ شيء : في الطول والحجم واللون لم يتجاوز عمر الزهور ..بداية الشباب .. رضع من والدته الرجولة .. حدث هذا نحو الساعة العاشرة صباحًا وكان الشتاء قد بدأ يلملم عزاله .. لكن تسارع الأحداث أشعر صاحبنا وكأنّ الدنيا مساءً .. امتدت أمام ناظريه الغائمتين يدٌ عُليا تطعن الظالمين في نحورهم .. وكانت الله أكبر قد قامت بالدور الأكبر من إرباك جنود العدو .. ودٙبِّ الرعبِ في قلوبهم .. صرخ الضابط المطعون وقد وقع سلاحُه فارًّا تجاه شارع عمر المختار .. سرعان ما تنبّه الجنديان فأطلق أحدهما على الشاب ؛ فسقط على وجهه دون أن يبدي أدنى حراكًا .. حتى أنّه لم ينتفض .. شاهد الرصاصات تخترق الجسد الممدّد كحبّات العدس .. وبدأت خيوط الدم تنساب بغزارة .. تطهّر الطريق .. وتعلن ميلاد شهيد جديد ..  وسرعان ما أدرك الجنديان الضابط الهارب .. وتركا الساحة خالية إلّا من صاحبنا .. كان المارة والسابلة والباعة وأصحاب البقالة ومكاتب المحامين .. قد اختفت خلف الأبواب التي غُلِّقت .. واختفت الشخوص .. وظلت العيون العطشى ترقب من الفتحات والثقوب .. قٙدِم أحد الحرّاس من باب الخروج .. بعدما أصبح وحيدًا .. وبدأ يطلق النار على الجثّة الهامدة .. وعلى الجدار الحجري .. وفي السماء .. لم تحدّد رصاصاته الطائشة هدفًا .. أطلقتها يدٌ مرتجفة .. وأصابع مرعوبة .. قفز بشكلٍ هستيري بهلواني . . وسانده لسانه يسبّ ويلعن .. فقدٙ السيطرة على نفسه .. بعدما هدأ الجوّ قليلًا .. أطلّ من خلف الأبواب مسنٌّ ومسنّة .. لا تطلق على الجدار .. ليس له دخل .. إنّه زائر .. لم يرحمهما كبرهما .. أو يشفع لهما عجزهما .. فأطلق عليهما إذ اقتربا .. بدأ يحاسب نفسه من خلف الجدار : ما ذنب المسنيْن .. لماذا لم يساند الشهيد فيقيّد له الجنود .. وهي موتة واحدة .. لماذا ؟!  لماذا  ؟؟؟!!  ... نبهه صوتُ العجوز على الأرض القريبة منه تستنجدُ به .. قلبي يا بنيّ .. اتخذ قرارًا سريعًا وسلاح الضابط المطعون قريبًا منه .. قرّر أن يٙقتلٙ ويُقتل .. خطا الخطوة الأولى نحو السلاح .. سمع هرجًا ومرجًا وجلبة .. قفز من جيب عسكري بعض الجنود ..  قيّدوا الحارس المرعوب بعدما أخلوا سلاحه .. واقتادوه ..  والتفتوا إلى بندقية الضابط .. التفت ناحية العجوز التي فدته بحياتها .. كان قلبها ينزف .. حضر أحد أطباء العدو ومعه شاش .. أراد أن يكشف ثوبها ليغطّي الثقب .. شعر بالغيرة على عرضه ولحمه .. فقام بتمزيق الثوب من حول الجرح .. حمل الجنود العجوزين وانطلقوا بهما داخل مقر السرايا  ..
علم فيما بعد أنّ المرأة فدته بحياتها .. فهو مازال يترحّم عليها حتى اليوم .. توجّه ناحية الشارع الرئيسي .. تتعاصفه عشرات الخواطر .. أحضر له أحدُهم زجاجة ماء .. مسح وجهه بقليل منها . .  لم يقدر على الشرب .. أحسّ أنّه يحمل جسدًا آخر ..  وأنّ جسده كان يرافقه .. ويسير إلى جواره .. التفت إلى بقعة من الدماء تشعّ من سرواله .. هي من دم الشهيد تدعوه لمواصلة المسير .. نصحه بعض المقيمين بالابتعاد .. فربّما استدرجه جنود العدو للتحقيق .. ابتعد قليلًا .. توقّف على جدار متنزّه بلدية غزة .. أختاه وابنه .. اقتربوا منه بخطًى متعثّرة حبيبي يا خو .. حبيبي .. بلّلت دموعهما وجنتيه ..
قالوا لنا أنّ شابًا بمواصفاتك طعن جنديًا .. ولمّا خرجنا ولم نجدك بعدما ألغوا الزيارة .. قلنا أنّ الجنديّ ربّما لطمك .. فأخذتك الحميّة .. وطعنت الجندي بسكّين بائع الفلافل .. الحمد لله يا خو  .. والله قلبنا وقع بين رجلينا .. كان يسمعهما .. تشرحان وتبكيان وتعودان لاحتضانه وتقبيله .. وكان ذهنه هناك .. هناك مع الشهيد .. وظلّ سنوات  .. بعدها زار المكان حينما قدمت السلطة الفلسطينية .. شعر بعدها أنّ الهواجس التي تلاحقه خفتت .. صار ينام دون أن يلحّ عليه زائره ..  لماذا لم تؤازره  ؟؟!  لماذا لم تساند أخاك الشهيد .. لماذا غسلت دمه الطاهر عن سروالك ..

         ...  بقلم  ...يوسف المصري 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق