الثلاثاء، 26 سبتمبر 2017

بقلم الاديب يوسف المصري

صرّة التموين :
كان ما يخفيه بداخله أكبر من حبّه لتلك الفتاة التي كان يبني معها بيت الأحلام .. أكبر من وطنه المنهوب .. هذا الوطن الذي ماتت أطرافه حزنًا على أهله .. أكبر من هذا الوطن الذي يمثّل بالنسبة إليه خارطة الدنيا .. كان ما يخبئه أكبر من كلّ الأسماء التي كتبها أو عرفها .. كان أكبر من حنينه للماضي . أكبر من كلّ الذكريات .. كان لا يزال صغيرًا يشتهي أشياء كثيرة .. وكان أصغر حلم يشبعه .. كان كقلّة ماءٍ صغيرة في الظلّ تروي حرّ الظهيرة .. كان من الصغر بحيث يلتفّ بطرف عباءة .. كان أصغر من قلب امرأة بصقها الرجال ؛ فلعنتهم كلهمً  ..  كان من أبناء المهاجرين بثوبٍ واحد .. تركوا كلّ شيء أملًا بالعودة في الغد .. ولكنً الطريق طال أكثر ممّا توقعوا .. طال بحيث تمنوا لو أخذوا معهم اللحاف والغطاء .. وكان العيد قد أطلّ عليهم بخجلٍ وحياءٍ ؛ فما أحضره لهم : لا يكفي ولا يسمن من جوع .. كان كيسًا من الطحين وبعض السكّر والزيت والبقوليّات ، وصرّة ! صرّة : ما فيها لا يعلمه إلّا الله .. هي في الواقع صرّة ملابس ..لكن هل هي ملابس أطفال؟ هل هي ملابس نساء .. هل هي ملابس رجال ؟ وكانت المسكينة وهي تفكّ الصرّة تدعو في سرّها أن يسترها الله تعالى معها .. ويبارك في الصّرّة فتكفي الأولاد وإن كانت في سرّها تقبل أن تقيّف لهم ما يتناسب مع أحجامهم ..! يا رب الأرض والسماء .. ياربّ اللاجئين والفقراء..
يا رب .. يا رب .. فتحت الصرّة وتكشّفت لها أشياء .. توقّف عندها النبض ..توقّف الزمن .. تجدّد نزيف الأيّام .. تصلّبت شفتاها .. هرب اللعاب من فمها .. تجمّدت للحظات .. إنّها تمسك بيديها فستان زفافها الذي حاكته بيديها .. وهذه كفولة طفلتها التي انتقلت إلى رحمة الله في طريق الهجرة .. احتضنتها : يا حبيبتي .. هذه الكفولة اشتغلتها غرزة غرزة وأنا حامل بك .. كانت تخاطبها وكأنّها موجودة أمامها ..وغطّت وجهها بها علّها تخفّف من لوعة ومرارة وأسى الفراق لأول حبّ عرفته .. لم يكن يعرف من قبل أنّ له أختًا أكبر من أخته الكبيرة .. وأنّ طريق الهجرة ابتلعها كما ابتلع كثيرًا من البلاد والعباد .. عادت إلى الصرّة وكأنّ بها مسّ وصوتها المخنوق بالدموع : أبو محمود أليس هذا قمباز فرحنا ؟!  تناول القمباز منها بيدٍ مرتعشة .. هو الآخر سرت في قلبه رعدة وفي أطرافه قشعريرة وهو ينظر إلى فستان زفافها .. وإلى كفولة فلذة كبده .. لقد أنجب بعدها وأكرمه الله ببنات وأولاد .. حبّه لها يختلف عنهم جميعًا .. هي حبّ ليس تفسير سوى أنّه الأكبر .. أمسك بالقمباز وبدا قلبه كبالون في يد طفل لا يكتفي من النفخ .. تسللت يده إلى الجيب الداخلي .. فخرجت أوراق عَبثَ بلونها الزمن .. : إحداهما عقد ملكية الأرض في مدينة يافا . والأخرى عقد زواجه من المتهالكة أمامه ..

                                             ... بقلم يوسف المصري

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق