لأسباب قد يتعذر حصرها أصبحنا كلنا ورثة لهيجل ونظرته إلى تاريخ الأفكار. لم يعد في وسعنا أن ننظر للفكر إلا في كليته وهو يعمل متجها نحو غاية بعينها. صحيح أننا تمردنا ضده مع الوضعيين فمع الماركسيين ثم مع الوجوديين بل حتى مع الهايدغريين، إلا أننا لم نكف حتى مع هؤلاء عن البحث عن نقط النهايات وسبل التملك و طرق التجاوز. فربما لا يتعلق الأمر في تاريخ الفكر باكتمال فكر أوتملك تراث، وربما لا يتعلق بتحقيق الفكر في الواقع، ولا حتى بتجاوز تراث أو تبشير بالنهايات. ربما كان الأهم السماح لصيرورات مبعثرة أن تبرز في عملها فيما وراء ما يقدم نفسه تراثا فكريا.
آنئذ لن نشغل بالنا بنقط نهاية ولحظات اكتمال، ولن يهمنا في شيء ما إذا كان الانعراج يحمل اسم هيجل أو اسم كونت أو غيرهما من الأسماء، ولن نثير الصخب مع من أثاره حول ما إذا كان نيتشه ينتمي، أولا ينتمي، لتاريخ الميتافيزيقا. إذ أن نقاط النهاية ستغدو لا متناهية. وسيصبح بالإمكان رصدها عند كثير من الأسماء، بل سيغدو من واجب الفكر البحث عن نقاط الخروج التي قد ينفلت فيها الفكر عن الرقابة التي يفرضها على نفسه، والمنطق الصارم الذي يخضع إليه نفسه.
لن يعود ميدان الفكر، كما شاء له الهيجليون ومن دار في فلكهم نفيا وإيجابا، قائما على أساس مشترك. ولن يطرح المفكرون الأسئلة ذاتها، ولن يستعملوا التصورات عينها. لن يكون هناك ما من شأنه أن يجمع المفكرين ويضمهم داخل تاريخ موحّد، لا المذهب ولا التيار ولا “النظرة إلى العالم”. كل ما هناك حركات متفردة وخطوط متقاطعة. وربما غدا عمل الفكر أساسا ليس بناء المذاهب ولا رصد التيارات ولا تكوين “النظرات إلى العالم” ، وإنما فك الوحدات الموهومة بحثا عما هو متفرد. يتعلق الأمر ببعث الحدث في وحدته وتفرده داخل ما يقدم نفسه حركة كلية. فلسنا هنا، كما أثبت فوكو، لا أمام وحدات، ولا إزاء كليات، وإنما أمام تفرّدات. إبراز هذه التفردات هو وقوف عند الحدث داخل الفكر، بل هو إبراز الفكر كحدث.
*
نحو رؤية لاهيجلية لتاريخ الفكر
عبد السلام بنعبد العالي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق