الخميس، 16 ديسمبر 2021

د.رمضان الحضري

 الشعر بين الخلود والترفيه

*********

هذا وترٌ جديد أحاول أن أضيفه لألة النقد الأدبي غايته ربط الكلمة بالحياة ربطا حقيقيا لا لغويا ، فلم تتخلف أمة بسبب كثرة البحث في لغتها كما تخلفت الأمة العربية ، ويعود سبب هذا التخلف من وجهة نظري إلى علماء اللغة الذين فسروا اللغة باللغة ، فكانوا كمن يأخذ من بحر ويصب فيه مرة أخرى قصدا منه أن يمتلئ البحر ، فلا البحر نقص ولا امتلأ ، ولا صوت الضجة خفت أو سكت لحظة .

وحينما بدأ التعليم النظامي كان تعليما نظاميا وليس نظاما تعليميا ، وبعبارة أخرى خضع التعليم لنظام الحكم ، ولم يخضع الحكم لنظام التعليم ولازال الأمر على ماهو عليه حتى اشعار آخر بعد عقود وربما قرون .

لستُ في مزاج سيء كما سيظن كل من يقرأ هذه الكلمات ، ولكنني في حالة من يقرأ الواقع العربي الحالي على صفحات عربية تاريخية طويلة ، ليجد أن العربي فهم لغته مرتبطة باللغة ، رغم أن اللغة أعظم اختراع في تاريخ البشرية ؛ لربط العقول ببعضها وربط العقول بحركة الحياة ، وبناء عليه جاءت تفسيرات النصوص جميعها مرتبطة باللغة لا بالواقع .

وكان تفسير القرآن المجيد أخطر التفسيرات تأثيرا على حياة العربي ، فربطوا اللغة باللغة من ناحية ، وربطوا اللغة بضرورة رفعة العربي من ناحية أخرى ، وعلى سبيل المثال لا الحصر ( ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون )  استخدم السادة المفسرون كلمات اللغة العربية في الكتاب المجيد كأنها مختصة بالعرب فقط ، كما استخدموا الحديث النبوي الشريف على أنه ملك للعرب والمسلمين فقط ، وكأنهم لم يقرأوا ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) ، فهم فسروا الآية 

(ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون )  

فقد فسروا الكتابة برسم الحروف ، ولم يفسروها بالفرضية أو التسجيل أو الترقيم رغم ورود كل هذه المعاني في القرآن العظيم ( كتب عليكم الصيام ، كتب عليكم القتال ) بمعنى فُرض ، ( إذا تداينتم بدين فاكتبوه ) بمعنى سجلوه ، ( كتاب مرقوم ) هل هو نوع من الرقمية الحديثة أم ماذا ؟ 

وإذا كنا سبقنا العالم في فترة فإنهم سبقونا في فترات أخرى ، وهم الآن أسبق في الكتابة والتسجيل والترقيم .

كما فسر المفسرون ( الأرض ) في الآية بجنة الآخرة ، وفسروا كلمة 

( الصالحون ) بأولئك الذين يخضعون لعبادة لله ، فجعلوا الآية لاتنطيق إلا على المسلمين ، ولم يستطيعوا أن يفرقوا بين قوانين الله على كل البشر ، ووعد الله لمن يطيع أمره ويتبع رسوله ، فجعلوا صلاح الدين يساوي صلاح الدنيا ، والحق هو كذلك إذا كان المجتمع يتبع المنهاج اتباعا حقيقيا وليس اتباعا لفظيا أو عادات وطقوس تؤدى على منهاج الكهنة وليس منهاج رب العالمين ، فميزان صلاح الدين يرتبط بميزان صلاح العمل ، وأقصد بالعمل هنا كل عمل لايسميه الفقهاء عبادة مثل المخترعات العلمية ، فحينما يترك طبيبا مريضه _  أثناء جراحة خطيرة بالقلب تستوجب أن يبقى الطبيب أكثر من ثماني ساعات داخل غرفة العمليات _ ويذهب ليؤم الناس في الصلاة ، حيث لا يوجد إمام لهم غيره ، فهنا قد أفسد منهج الله بالإهمال في مريضه ، والأدهى أنه يظن أنه ترك المريض لعبادة أفضل ، ولكن يقينا أن وجوده للجراحة هي عبادة أعظم لأنها تحي نفسا من الموت فكأنه أحيا الناس جميعا .

والصوام القوام الذي يظلم زوجته أو جيرانه أو شعبه فلم يعدل أقل درجة في الدنيا من الكافر والملحد الذي يقيم العدل في وطنه ، ولذا فإن 

( الصالحون ) في الآية السابقة أفهمها أنا بأنهم صالحون لعمارة الأرض وإقامة العدل فيها حتى لو كانوا غير مؤمنين بالله جل في علاه ، وهذا يعني أن الأمريكان والروس والصينين واليابانيين والألمان والفرنسيين صالحون لعمارة الأرض ، ولذا فهم قد ورثوها أمام أعيننا .

روي عن أبي عبدالله محمد بن المبارك أنه كان يرحب بكل رجل يدخل إلى مجلسه بقوله : ( مرحبا بالرجل الصالح ) ، وذات يوم دخل عليه لص مشهور في المدينة ولم يكن ابن المبارك يعرفه ، فقال له : ( مرحبا بالرجل الصالح ) ، فلما قضى اللص حاجته وانصرف ، ضحك تلاميذ ابن المبارك وقالوا له : هذا لص مشهور في المدينة ألا تعرفه ، ورحبت به قائلا : 

( مرحبا بالرجل الصالح ) ، فقال ابن المبارك رحمه الله : ( بل هو صالح حتى وهو لص ، فمن لايصلح للجنة يصلح للنار ) ، وهكذا كانت اللغة لتفسير الحياة وليست لتفسير اللغة ذاتها .

ولذلك كان حرص النبي على ربط اللفظ الديني بالحياة الدنيا ، وقد روى البخاري في صحيحه أن رسول الله قال : ( إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة ) فقال أحدهم : ( وكيف إضاعتها يارسول الله ؟ ) فقال : 

( إذا أسند أو وسد الأمر إلى غير أهله ) ، فكل الفساد في عالمنا أن من لايستحق ياخذ مكان من يستحق ، وبالتالي فإنه لايمكنه أن يرث الأرض لأنه ليس صالحا لعمارتها .

هذه تقدمة تبين أمرين مهمين للغاية : أولهما أن تفسير اللغة باللغة لن يأتي بجديد في اللغة ولا في المعنى ، بل سوف يتسبب في ضعف اللغة التي تأكل نفسها من داخلها ؛ لأنها لاترتبط بما يقويها من خارج النسق اللغوي ، ويظل الدارسون كما هم ، قال سيبويه وقال الخليل ولا علاقة لهم بأن قلسطين محتلة من إسرائيل ، ولا علاقة لهم بما يدور من تمزيق وقتل في الدول العربية ، حيث إن هذه القضايا اللغوية صنعت إرهابا نفسيا داخل الأشخاص ومعلمو اللغة لايدركون خطورة هذا بالمرة ، ويمكننا أن نلاحظ أن أساتذة جامعات يشتمون ويسبون ويلعنون بعضهم على مواقع التواصل الاجتماعي ، ويتحدى بعضهم بعضا في اللغة والنحو والصرف والعروض وهم لا يدركون أن هذا الذي يتسابون ويتشاتمون ويتقاتلون به كان منذ مايزيد عن عشرة قرون ، فهم يحرثون بحرا محروثا من أكثر من ألف سنة مما تعدون .

ثانيهما : عدم ربط اللغة بالأنساق الاجتماعية ومحاولات التفريق الدائمة بين اللفظة وموقعها من المجتمع جعل التشابه بين معظم الكتاب حقيقة أوضح من الشمس ، ولست ذاكرا لأسماء بعينها حتى لا نكدر صفوهم ، ولكن حسبنا أن نعرف أن مناهج التعليم تحتوي على نصوص يسمونها شعرية لمن لاعلاقة لهم بالشعر ، ودروس نقدية انتهى عصرها من القرن التاسع عشر ومطلع العشرين ، ولا توجد نصوص تدل على العصر الذي يحياه الناس بالمرة .

هذه تقدمة واجبة لنعرف أن معظم مايقال من نصوص تسمى شعرا إنما هي نصوص ترفيهية متشابهة ، ونص يكفي عن مائة نص ، فالبعد لايتحمله الحبيب ، والقرب مثل الشهد ، والوجه مثل البدر ، وآه ثم آه ثم آه موزونة .

والسؤال المطروح : هل هذه النصوص الترفيهية تفسد المجتمع ؟ 

والإجابة : المجتمع أمام الجميع وليحكم كل إنسان على ما حوله ومن حوله ، ولن أخوض في التفاصيل من شتم لبعض من يسمون أنفسهم شعراء وسب وقذف وتطاول وصور وذكريات وفضائح وحكايات عن الطعام والشراب والليالي والهدايا والمناسبات ومحلات الكشري ، ياااه .

حينما يكون الكاتب صاحب قضية لن يلتفت لهذه النصوص ، فلا زلنا نذكر أمثلة الجماليات من شوقي والمتنبي ، والسرديات من إدريس ومحفوظ ، والنقد من طه حسين وأنيس وتليمة .

للحاكِمينَ قَياصِرَةْ

الجالسينَ أباطِرَةْ

تَعِبَتْ خُطانا يا طَريقَ المَجدِ كَلَّتْ

لوَّحَتْ لي في فضاءِ الكونِ شَمسٌ

للغُروبِ مُسافرةْ

قد كنتُ أبحثُ بينَ أوراقِ الجرائدِ

عن وَظائفَ شَاغِرَةْ

عن أيِّ قُطْرٍ في العُروبةِ أحكُمُهْ

لا تَنظُري لي ساخِرَةْ

يا بَخْتَ مَنْ يَحكُمْ

شُعوبًا

( لا تَهُشُّ ولا تَنُشُّ )

ويَسجُدونَ لِمَن يَجيءُ

ويَعبُدونَ أوامرَهْ

كُنا شُعوبًا ذاتَ يومٍ ثائرةْ

ومُغامِرَةْ

أغمضْتُ عيني داسَني رَكْبُ الخليفةِ

ذَاهِبًا للقُدسِ كانْ

قد كانَ يَمشي خَلفَهُ

رَكْبٌ كبيرٌ

والجَميعُ سَماسِرَةْ

خَجَلي كبيرٌ

حينَما بدَأَ المَزادُ

وبالنَّوايا الماكِرةْ

قالوا بألفٍ

قُلتُ : لا بَلْ ألفِ ألفٍ

ما كُنتُ أملِكُ أيَّ شَيءٍ

غيرَ رُوحي الطَّاهرةْ

أوَّاهُ يا سُوقَ الرَّقيقْ

وَطنٌ يُباعُ لعاهِرَةْ


************

هذا نص شعري حقيقي يتناول قضية آنية يعيشها الأحياء في هذا الوطن ، أما المغيبون فلم يعلماو بها حتى اليوم ، والمشوهون باطنا يغضون الطرف عنها تجنبا للمساءلة ، فما أجمل النضال بغير سؤال !

ما الفرق بين هذا النص والنصوص الترفيهية ؟ هذا ما سوف أتناوله في الجزء الثاني من هذه المقالة بأمر الله جل في علاه


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق