الله، العلم، البراهين: فجرُ ثورةٍ
صدر في باريس، حديثاً كتابٌ جدليٌّ بيع منه في السوق زهاء مليون نسخة. الأمر نادرٌ في الكتب الصادرة باللغة الفرنسيّة. غير أنّ الكتاب الذي يحمل عنواناً لافتاً: "الله، العلم، البراهين: فجرُ ثورةٍ" (Dieu – La science – Les preuves : L’aube d’une révolution) يستجمع أبلغ النظريّات العلميّة التي تؤيّد فرضيّةَ وجودِ إلهٍ خالقٍ في أصل نشأة الكون.
صاحبا الكتاب ميشال-إيڤ بولّورِه، مهندس المعلوماتيّة ودكتور العلوم بجامعة باريس (دوفين)، وأوليڤييه بوناسي، خرّيج معهد البوليتِكنيك الباريسيّ ومجاز في اللاهوت المسيحيّ من معهد باريس الكاثوليكيّ.
قدّم الكتاب العالمُ الفيزيائيُّ وألمعُ علماء كوسمولوجيا الأحياء الأميركيُّ روبِرت ويلسون (1936-....) الحائز جائزةَ نوبِل عن أبحاثه التي أفضت إلى اكتشاف البيغ بانغ أو الانفجار الكونيّ الأصليّ الأعظم.
ينطوي الكتاب الضخم (حوالى 550 صفحة) على قسمَين رئيسَين: يتناول القسم الأوّل (12 فصلاً) البراهين المرتبطة بالعلم، في حين يعالج القسم الثاني (8 فصول) البراهين المستخرجة من سائر الحقول المعرفيّة والوجوديّة الأخرى. أمّا الفصول، فلا تقترن بعضها ببعض اقتراناً مضمونيّاً يضطرّ القارئ إلى مواصلة القراءة حتّى لا ينقطع الخيط الناظم والصلة الهادية، إذ يكفي المرء أن يقرأ فصلاً ويغوص على معانيه، ومن ثمّ ينتقل إلى فصلٍ آخر من غير أن يفقد الرابط الذي يؤهّله للإدراك السليم. أراده الكاتبان كتاباً قريباً من الإدراك الثقافيّ المتوسّط المستوى حتّى يقرأه جميعُ الناس الراغبين في فهم مسألة وجود الله. لذلك استقرأا كثيراً من الشبّان والشابّات الذين لا ينتسبون إلى أيّ خلفيّة علميّة أو فلسفيّة، وأظهرا حرصهما على تبسيط التناولات والتحليلات، فزيَّنا الحواشي بمعلومات علميّة ضروريّة، وأضافا الملاحق لكي يساعدا القارئ في الاستزادة والتعمّق. واستعانا بحوالى عشرين من أبرز العلماء في الاستشارة والتوجيه والتقويم من أجل تجويد كتابة موادّ الكتاب.
ضرورة القول بأصل إلهيّ
ينطوي الكتاب إذاً على استقصاءاتٍ علميّةٍ وتعريفاتٍ دقيقةٍ تُبيّن خلاصات العلم في شأن مسألة الله الخالق. فالبحث كلّه ليس اجتهاداً لاهوتيّاً أو دينيّاً يستعرض طبيعة الله وصفاته، بل سعيٌ علميٌّ إلى استيضاح نظريّة الخلق الإلهيّ. وليس الكتابُ دفاعاً لاهوتيّاً عن تدبير الحكمة والخلاص في الأديان التوحيديّة وغير التوحيديّة، بل نظرٌ حياديٌّ موضوعيٌّ في طبيعة الكون والاستفسار عن مادّته الأقصى: هل العالم كتلةٌ مادّيّةٌ محضٌ؟ أم إنّه ينطوي على أثر روحيٍّ منبثقٍ من فعل الخلق الإلهيّ الذي يفترضه العلمُ قبل الإيمان الدِّينيّ؟
في هذا السياق، يُكبّ الكاتبان على استيضاح العلاقة الممكنة بين الفيزياء والمِتافيزياء (ما بعد الطبيعة أو ما وراءها أو ما فوقها). أمّا الفرضيّتان الأساسيّتان اللتان يقوم عليهما البحثُ كلُّه، فأعاينهما في قضيّتَين خطيرتَين. ترسم الفرضيّة الأولى أنّ العالم يحتاج إلى مهندسٍ أو خالقٍ أو مصمّمٍ حتّى يستقيم قوامُه، وتنضبط حركتُه، ويتّسق مسارُه، ويكتسب معناه الذي يليق بمقام الكون والإنسان. إذا كان الكون قد بدأ بالانفجار الأعظم (البيغ بانغ)، فإنّ السؤال عن الأصل الأوّل الخالق يضحي مشروعاً، لا بل حتميّاً. أمّا الفرضيّة الثانية، فتعلن أنّ العلم انعطف انعطافاً جليّاً في مستهلّ القرن العشرين، فغدا يميل ميلاً أشدَّ إلى اعتماد مبدأ الهندسة الأصليّة الإبداعيّة الإلهيّة.
ومن ثمّ، يحاول الكاتبان أن يبيّنا أنّ مسألة وجود الله ليست مستحيلة التناول، ولو أنّ الناس مختلفون في معالجتها، منهم من يرفض هذا الوجود، ومنهم من يثبته، وفي كلا الجانبَين نخبةٌ من أهل الذكاء الألمعيّ. فإنّ قضيّة الله ليست معلّقةً على الإطلاق، بل أضحت تؤيّدها علناً ضمّةٌ من الاكتشافات العلميّة الواضحة التي أنجزتها البشريّة في المئة سنة الأخيرة والتي لا يمكن المرء العاقل أن يُنكر وقعها وأثرها ومدلولها. غير أنّ الكتاب لا يفرض حقيقةً نهائيّةً تُكره الجميع على القبول بوجود الله، بل يستعرض الوقائع العلميّة التي يُفترض أنّها تؤيّد هذه النظريّة تأييداً منطقيّاً جليّاً.
يقتصر التناولُ الناشطُ في تحليلات الكاتبَين على تصوّر الله كائناً متسامياً خالقاً، وعقلاً مهندساً مصمِّماً، وروحاً متعالياً مقتدراً. لذلك يمتنع الكاتبان، لا سيّما في القسم العلميّ الأوّل الأكبر، عن تسمية الله وحصره في تقليدٍ لاهوتيٍّ متواترٍ تأثره لنا الأنظوماتُ الدِّينيّة العالميّة، على تنوّع تصوّراتها وبناءاتها ومعتقداتها ومفاهيمها ومقولاتها. يعتني الكاتبان باستجلاء ضرورة العقل الأسمى الروحيّ الفائق الوصف، مهندس الكون الرحيب المعقّد، ومصمّم النظام الضابط الكلَّ، والجامع شتيتَ الأشياء والوقائع والأحداث. بين نظريّة الصدفة والإمكان المحض والتطوّر الداروينيّ العفويّ التلقائيّ الانتظاميّ، ونظريّة الخلق القصديّ والتصميم العمديّ، يختار الكاتبان موقعهما، فيؤيّدان النظريّة الثانيّة ويدعمانها بالأدلّة العلميّة، لا بالاستدلالات العقليّة المجرّدة.
إشكاليّة مقولة البرهان العلميّ
يقينُ الكاتبَين أنّ العلماء اكتشفوا حقائقَ علميّةً لم يكونوا يتوقّعونها أو حتّى يريدونها في حياديّة الموضوعيّة البحثيّة التي اتّسم بها موقفُهم العلميّ. فطرأ على العلم عينه تحوّلٌ جليلٌ أفضى إلى الاعتراف بأحقّيّة نظريّة الخلق الأصليّ والهندسة الناظمة. بيد أنّ المشكلة تنشأ من إدراك مقولة البرهان العلميّ إدراكاً صائباً. ذلك بأنّ الناس يخطئون في مسألة البراهين، فيتوهّمون أنّ البرهان العمليّ على وجود الله برهانٌ قاطعٌ قاهرٌ راسخٌ يضطرّ الجميعَ، من غير استثناء، إلى القبول بخلاصاته والاعتراف بالإيمان سبيلاً وحيداً إلى الحياة. غير أنّ الكاتبَين يذكّران الجميع بأنّ البراهين المطلقة لا تصحّ إلّا في الرياضيّات، إذ إنّ حقائقها ثابتةٌ حتّى لو تبدّلت الأحوالُ أو تغيّر وجهُ العالم، فتوطّنت نخبةٌ من الناس من أصحاب الهندسة الجينيّة المختلفة كواكبَ أخرى.
في وقائع الحياة، ليس من براهين مطلقة، بل نظريّاتٌ تصحّ أو تبطل بحسب طبيعة الأدلّة المسوقة والمعطيات المعرفيّة الممكنة في قرائن البحث الإبّيستِمولوجيّة المتّصلة بأساسيّات المعرفة. ومن ثمّ، فليس من برهانٍ علميٍّ قاطعٍ على وجود الله، بل بالأحرى مجموعةٌ من البراهين التي يستخرجها الكاتبان من حقولٍ معرفيّةٍ شتّى. من خصائص هذه البراهين المتنوّعة المصادر العلميّة أنّها منفصلةٌ بعضها عن بعض ومستقلّةٌ استقلالاً واضحاً، وأنّها تصرّ على وجوب الأصل الإلهيّ الخالق حتّى يستقيم معنى الكون.
المنعطف العلميّ في القرن العشرين
في مُستهلّ الكتاب تصميمٌ يقارن اكتشافات العلوم وخلاصاتها في القرن التاسع عشر بفتوحاتها ونتائجها في القرن العشرين. مالت العلومُ في القرن التاسع عشر إلى إنكار وجود الله والإعراض عن فرضيّة الأصل الخالق. وانبرى العلماء والمفكّرون، من أمثال كوبرنيك وغاليليو ولابلاس وداروين ولامارك وفويرباخ وفرويد ونيتشه، يرفضون مبدأ الوجود الإلهيّ الماورائيّ المِتافيزيائيّ. أمّا في القرن العشرين، فجرى تحوّلٌ خطيرٌ في مسار العلوم أفضى بها إلى إثبات البدء الكونيّ إثباتاً علميّاً. منذ تلك اللحظة، كان من واجب العلماء أن يبيّنوا طبيعة البدء المذهل هذا. فإذا بهم يستعينون بالاكتشافات العلميّة الثوريّة التي أخذت تميل بهم إلى ضرورة القول بالأصل الإلهيّ الخالق. تناصرت على هذه النظريّة علومٌ شتّى، منها الديناميّات الحراريّة، والمِكانيك الكوانتيّة، والنسبيّة الكونيّة، وكوسمولوجيا البيغ بانغ، وبيولوجيا التركيبة العضويّة المعقّدة في الكائن الحيّ، والباليونتولوجيا (علم الإحاثة) والأركيولوجيا (علم الآثار القديمة)، وعلوم التدقيق الجزئيّ في قياس حجم الكون المتحوّل تقلّصاً وتمدّداً.
يتناول الكاتبان مثلَ هذا التحوّل، ويسوقان الأمثلة المفيدة على تطوّر العلوم. فيتّضح لهما أنّ أينشتاين كان ما زال يعتقد في عشرينيّات القرن المنصرم أنّ العالم قديمٌ، لا بدءَ له، غيرُ مخلوق، وأنّه في حال الثبات الستاتيكيّ لا يتحوّل ولا يتبدّل. بيد أنّه، على غرار معظم علماء القرن العشرين، ما لبث أن أدرك صعوبة مثل هذه النظريّة. فطفق يعدّل في أقواله وينحو منحى الاعتراف بارتباطيّة الكون الضروريّة في الأصل والمسار والمنتهى. ومع أنّه حاول أن يلوي المعطيات العلميّة لوياً يتيح له أن يتجنّب الاعتراف بالبدء الأصليّ وبتبعاته ونتائجه، إلّا أنّه عاد فاعترف باستحالة الإنكار، وبضرورة القول بعقلٍ علويٍّ متسامٍ قادرٍ على تصميم الخلق تصميماً مذهلاً. في الفصل الذي خصّصه الكاتبان لهذا العالم، يتبيّن أنّ القول بالعقل المهندس لا يستتلي اعتراف أينشتاين بالإله الشخصيّ.
زواليّة الكون دليلٌ على البدء الإلهيّ
وعليه، فإنّ الحياة ليست واقعاً بديهيّاً عفويّاً، بل إمكانٌ شديدُ التردّد في احتماليّته الأصليّة، إذ إنّه في صميمه جائزٌ جوازاً مطلقاً، بحيث إنّ عدم قيامه في الأصل يوازي واقعَ انبساطه بالفعل. شأنُ الكون كشأن الشمس التي نشأت منذ أربعة مليارات سنة وستنطفئ بعد خمسة مليارات سنة. إذا كان للشمس من بدءٍ ومنتهى، فإنّ للكون أيضاً بدءاً ومنتهى، وللحياة وللعالم وللإنسان. بعد ملياراتٍ من السنوات ستنطفئ أيضاً الكواكبُ كلُّها، وسيتضخّم الكونُ تضخّماً عظيماً، ويتجلّد تجلّداً مرعباً، ويتّشح بالسواد المطلق، وتتضاءل كثافتُه إلى الحدّ الأدنى. إنّه الموت الحراريّ ينتاب الكون في مختتم مساره الرهيب.
في هذا السياق، يحرص الكاتبان على تيسير فهم النظريّات العلميّة. فيسوقان على مسألة زواليّة الكون قصّة الإنسان التائه في غابةٍ من الجليد القارس يستهدي إلى قبوٍ ينبعث من عليّته دخانُ المدفأة الحطبيّة، فيلوذ بالقبو الفارغ من غير استئذان، ويجلس إلى الموقد ويحتمي من البرد بالنار المضطرمة. غير أنّه لا يلبث أن يعاين انطفاء جذوع الحطب الواحد تلو الآخر. فتعتريه شكوكُ المآل المظلم بعد انطفاء النار. ولكنّ الشكوك ليست عبرةَ العبَر في هذه القصّة، بل الاستفسار عن أصل النار. لو كانت هذه النار أزليّةً في بدئها، لما انتهت إلى الانطفاء. الخلاصة أنّ الكون، بما أنّ أنواره ستنطفئ في يومٍ من الأيّام، فإنّ في ذلك دليلاً دامغاً على اشتعالها في زمنٍ من أزمنة البداية. ومن ثمّ، فإنّ النار التي تنطفئ ليست ناراً أبديّة، شأنها شأن الشمس المتّقدة التي ستخبو نارها بعد خمسة مليارات سنة.
في أثناء الدقائق الثلاث الأولى من نشأة الكون (الانفجار العظيم) نشأت جميعُ الذرّات الأصليّة التي ينعقد عليها الكون. منذ تلك اللحظة، ما برحت جميع عناصر الكاربون المنتشر في الكون تتحوّل إلى مادّة الإليوم التي تحترق في أتّون الشمس، فتختفي اختفاءً نهائيّاً لا رجعة عنه. وحدها المعاينة العلميّة هذه تُبيّن أنّ نظريّة العود الأبديّ والتكرار الدائم لا ترتكز على مستندات علميّة موثوقة. لذلك نشأ الكون على بدءٍ وعلى منتهًى وعلى قانونٍ صارمٍ من التطوّر القصديّ الغائيّ الهادف. زد على ذلك أنّ القوانين التي تحكم تطوّر حركة الكون منذ الانفجار الأوّل تتّصف بقدرٍ عظيم من الدقّة اللامتناهية يتيح للكون أن يتمدّد من غير أن ينحلّ، وللمجرّات أن تنشأ وتنمو وتتطوّر من غير أن تنفجر، وللكواكب أن تتكوّن وتتحرّك وتكتمل من غير أن تَفنى قبل أوانها المرسوم لها. إنّه قانون التعادل الحراريّ أو الطاقة اللامتاحة (الأنتروبيا) الذي ينظّم عمل الكون وفق معادلة رقميّة دقيقة إذا تغيّر فيها كسرٌ زهيدٌ من الكسور المغرقة في الصغر، فَنيت الكائناتُ كلُّها. لذلك يسوق الكاتبان أقوال العلماء الملحدين الذين ينذهلون انذهالاً مطلقاً يجعلهم ينطقون بعبارة المعجزة. ومن ثمّ، ينشئان في ختام القسم الأوّل فصلاً كاملاً يخصّصانه لسوق أقوال العلماء في مسألة سرّ الكون هذا.
قبل ذلك يتناولان في فصلٍ آخر قانون الأنتروبيا أو التعادل الحراريّ في فيزياء ديناميّات الحرارة، فيشبّهان الطاقة المنبعثة من الكون بالنار المضطرمة في موقد المنازل. أمّا في الفصل الذي يستعرض نظريّة تمدّد الكون، فيشير الكاتبان إلى معاناة العلماء، ومنهم ألِكساندر فريدمان (1888-1925)، الذين كانوا في جرأتهم الاستثنائيّة مستعدّين للدفاع عن آرائهم واحتمال جميع ألوان التعذيب والتنكيل تحت حكم الأنظمة التوتالتياريّة الشيوعيّة الستالينيّة والفاشيّة والنازيّة. لذلك اضطهد ستالين العالم فريدمان الذي فهم نظريّة أينشتاين فهماً أفضل أفضى به إلى اعتماد نظريّة التمدّد. ذلك بأنّ ستالين كان يخشى نظريّة البدء الأصليّ، إذ أيقن أنّها تستتبع القولَ بالخلق الإلهيّ وبالخالق المبادر.
البيولوجيا المعقّدة تجعل الكائن الحيّ قمّة الإبداع الإلهيّ
أمّا في الفصل المعقود على البيولوجيا، فيبيّن الكاتبان أنّ التركيبة المعقّدة في الكائن البيولوجيّ تُظهر أنّ الخليّة تحتاج إلى 200 صنف من البروتينات حتّى يستقيم كيانُها، وينضبط عملُها، ويتّسق مسارُها. والحال أنّ صنعَ صنفٍ واحدٍ من هذه البروتينات يتطلّب جهداً ذكائيّاً إبداعيّاً يوازي خلقَ مجرّةٍ من المجرّات العظمى. في هذا السياق، يقارن الكاتبان تعقّدَ التركيبة الفيزيائيّة في الكون بتعقّد التركيبة البيولوجيّة في الكائن الحيّ، ويخلصان إلى الاعتراف المنذهل بتفوّق درجة التعقّد البيولوجيّ على درجة التعقّد الفيزيائيّ.
يستذكر الكاتبان أيضاً التجارب البيولوجيّة التي أجراها العلماء في مختبرات الولايات المتّحدة الأمِريكيّة في منتصف القرن الماضي علّهم يعثرون على التركيبة الهندسيّة الناشبة في الحمض النوويّ (ADN). عبثاً حاولوا اصطناع الخلطة التي كان داروين قد تحدّث عنها معتقداً أنّ الإنسان يستطيع أن يستخلصها بنفسه. ولكنّهم لم يحصلوا على النتيجة المرتقبة، لا بل اكتشفوا أنّ الباكتيريا الأصليّة أشبهُ بمركَبٍ فضائيٍّ رحبٍ استودعه الناسُ آلافَ الكومبيوترات الضخمة الناشطة في تدبّر كلّ المعطيات، وضبط كلّ المتغيّرات، واحتساب كلّ المرتقبات. الخلاصة أنّنا لا نعلم كيف انبسطت العناصر التكوينيّة الأصليّة التي انطوى عليها الانفجار الكونيّ الأعظم، وانتشرت وانتظمت واتّسقت حتّى أصبحت على هذا النمط الهائل من التركيب الحمضيّ النوويّ الفريد. حتّى اليوم لا يعرف العلماء كيف جرت عمليّة الخلق، ولو أنّهم أضحوا يعترفون بضرورة الخلق الهندسيّ الأصليّ. وعلاوةً على ذلك، فإنّ هندسة الحمض النوويّ الشديدة التعقيد انتهت منذ ثلاثة مليارات سنة ونصف. ولكنها ما فتئت الهندسة الأساسيّة التي تضبط الانتظام البيولوجيّ في كلّ الكائنات الحيّة حتّى اليوم من غير تبدّل.
الدليل الوجوديّ الاستثنائيّ في المعجزات الدِّينيّة
في القسم الأخير، يكفّ الكاتبان عن التحليل العلميّ المحض، ويستغرقان في استنطاق الخوارق الدِّينيّة في سياق الاختبار الإيمانيّ المسيحيّ. فيتناولان الأدلّة غير العلميّة على وجود الله، ويستحسنان استذكار عجائب فاطمة في البرتغال والأثر الإعجازيّ الذي تخلّفه الخوارق في حياة المؤمنين. ومن ثمّ، فإنّهما يتأمّلان في سيرة السيّد المسيح الذي أحدث تغيّراً عظيماً في مسار البشريّة، ويقينُهما أنّ حياته وأقواله وأفعاله وعجائبه كنايةٌ عن حدثٍ مفصليٍّ بارز يفصل بين زمن وآخر.
قد يستغرب القارئ الجرأة الإيمانيّة هذه، وقد اعتلنت في ختام الخلاصات العلميّة الموضوعيّة. اللافت البارز في تفكير الكاتبَين أنّهما يستنجدان بعضَ الظواهر الخارقة، ومنها العجائب التي محّصتها الكنيسة الكاثوليكيّة في لورد (فرنسا) وفاطمة (البرتغال)، من أجل إظهار الطابع السرّيّ الذي ينبغي استجلاؤه في إدراك مثل هذه الخوارق. لو كان الكون مادّيّاً محضاً، لما ظهرت عليه علاماتٌ مربكةٌ خارقةٌ معجزةٌ، ولاتّضحت جميعُ حقائقه ووقائعه، ولتَيسّر للعقل أن يعلّلها ويسوّغها.
التقويم الأوّليّ والخلاصة الموقّتة
قد يعترض بعضهم، فيعلن أنّ العلوم في تحوّلٍ مطّرد. إذا كانت قد استقرّت في القرن العشرين على هذا الوجه من الاعتبار النظريّ، فليس ما يمنعها من الاستقرار في القرن الحادي والعشرين على وجهٍ آخر يخالف خلاصاتها السابقة. بيد أنّ العلم، بحسب الكاتبَين، لن يتراجع عن بعض الحقائق الجوهريّة الأساسيّة، ومنها على سبيل المثال أنّ الكون له بدءٌ، وسيكون له منتهًى، وأنّه في حالٍ مطّردة من التمدّد المستمرّ.
لكلّ نظريّةٍ في وجود الله نتائجُ وتبعاتٌ وعواقبُ وآثار. إذا نفى الناس وجود الله، كان عليهم أن يبيّنوا طبيعة الأصل الأوّل، إذ إنّ الكينونة في الكائنات (الوجود بحسب العرب)، في نظر الكاتبَين، لا تأتي من العدم. فالعدم يُعدم كلَّ الكائنات. والحال أنّنا في الكينونة منذ حوالى 14 مليار سنة. لذلك قال أينشتاين بتعادل المادّة والطاقة (E=mc2)، وألغى إمكان القفز من العدم المطلق إلى الوجود.
لا ريب في أنّ المشكلة تستوجب النظر في طبيعة أصل الكون، وأيضاً في مآلات نهاية الكون، إذ إنّ العلم أثبت أنّ الكون ليس قديماً، أي أزليّاً (القدَم في الأصل) وأبديّاً (القدَم في المنتهى). في حزيران 2022 سيحتفل العلماء بمرور قرن على اكتشاف فريدمان نظريّة تمدّد الكون. يجدر إذاً بنا أن نعيد النظر في المسلّمات العلميّة التي تتناول مسألة الأصل والمنتهى. إذا ثبت أنّ للعالم أصلاً وبدءاً ومنتهًى، كان علينا أن نتدبّر طبيعة هذا الأصل في حذر شديد، وفطنة بالغة، وحكمة متجلّدة صبورة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق