الثلاثاء، 21 ديسمبر 2021

د.محمد المعلمي

 جمالية الخاتمة في ديوان "بستان خدها" للشاعر التطواني الأنيق عبد الرحمن زوزيو.


* إضاءة:

    هذا الديوان عمل إبداعي أسرني من أول نظرة لما وجدت في قراءته من متعة ناتجة عن نبض نصوصه بالفعل والحركة، مقرونة بحسن اختيار المفردات، وإجادة سلكها في خيط ناظم.

    وقد تجلى ذلك في مفردة "القلب" التي يسمع نبضها في كثير من النصوص موظفة بطرق شتى، تبعا لطبيعة ورودها في سياق القصيدة، مما مكن الشاعر من إضفاء الفاعلية والنشاط الحركي على اللحظات التي اهتزت وربت فيها أوتار قيثارة ذاته التي راحت تبث مكنونها وتبوح بأحلامها؛ وهو ما عناه د. محمد الفهري في تقديمه للديوان بالإشارة إلى أن قصائده ((تسعى جاهدة للقبض على الجذور، والبحث عن كينونة الذات المحترقة، والإمساك بمباهج الحياة المتوارية، وبما تكسر من الأماني والأحلام.)) (ص.8)


*جمالية الخاتمة:

    إذا كان العمل الإبداعي الناجح مرهونا بوقع نبضاته في متلقيه، وبما يخلفه فيه من تأثير، فإن أبرز ما وقر في نفسي بعد فراغي من قراءة نصوص الديوان الخمسين، تمثل في جماليةالخاتمة التي توج بها الشاعر كثيرا من قصائده، محققا بذلك إنجازا فنيا يحسب له، ذلك أن هذه الخواتم هي آخر ما يبقى في الأسماع اعتبارا لكونها الغاية في كمال جمالية النص .

    ولأن المقام ليس مقام استقصاء، فلن أتطرق إلى مسألة الخاتمة في نقدنا العربي القديم والحديث، مكتفيا بإيراد عينة من الديوان الذي تلقيته هدية كريمة من مبدعه.

  ففي قصيدة "ما رجوت العود" ختمها بربط جميل بين القلب والبوح فقال:

يا قلب قد وهن الصمت وناح العمر

لا تصخب في بوحك ودع الغدر.

  وفي قصيدة "تحت المطر" ختمها بكلمات متجانسة: (الصب - الصبابة - السعيد - لسعت - جديد) فقال:

جف الصب وأذبل

العشق السعيد

إنها الصبابة وأنا بجمرها

لسعت من جديد.

   وفي قصيدة "عبرة" يختم بمقطع ضمنه عنوان القصيدة في سلسلة متجانسة: (عبرة - نبرة - نظرة - مرة) فقال:

في عيني عبرة

ولقلبي نبرة

فتنت لنظرة

وأقبرت مرات ومرة.

وفي قصيدة "مكمن الروعات" يختم بمقطع متناغم الكلمات: (سقمي - يأسي - جلدي - بأسي) فقال:

سقاني الهجر سقمي ويأسي

خلعت جلدي

ولبست نوبات بأسي.

وفي قصيدة" ألغيت سكراتي" ختمها بعنوان القصيدة فقال:

ويلات لبست بردة من أسمالي

مزقتها في زقاق مأتم زف زفراتي

عشت موتي

وألغيت سكراتي

وفي قصيدة "نصف" يختمها بترديد عنوانها فقال:

حاجبها حارس يحجب

عني نصف حجابها

هل أرضى بحرماني

أم أسعد بنصف من دلالها؟

وفي قصيدة"النار سابحة" يختمها بعبارتين متناغمتين موسيقيا: (فارتديت هواني - فانتشيت فنائي) فقال:

رسمت

لحياتي فارتديت هواني

وخاصمت

قلبي فانتشيت فنائي.

وفي قصيدة"كفن عشقها" يختمها بمقطع ضمنه طرفا محورا تحويرا لطيفا من عنوانها فقال: 

دثر يا كفن العشق عرسها

إني محوت قلبي

وسكنت ظله.

   وبلغت جمالية الختم سنامها في قصيدة "بستان خدها" وهي خاتمة الديوان؛ إذ ختمها بنداء مفتوح إلى غرناطة فقال:

غرناطة.. اصدحي عاليا

وقولي حيا على الفلاح

لنسترد المجد وينشر

التاريخ العبق الفواح

 لقد أفلح الشاعر في جعلها منطوية على لمسات موحية تمثلت أولاها في اتخاذه عنوانها عنوانا للديوان؛

   وثانيتها في كشفه خلالها عن عائد الضمير في عنوان الديوان لما أماط الخمار عن خد مدينة غرناطة، أيقونة الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس؛

   وثالثتها في جعله خاتمة قصيدة الختم الخمسين منصة انطلق منها نداء الفلاح، وهو بذلك يستبشر ببقاء خاتمتها حاضرة في الأسماع تتردد على طرف كل لسان !

 مع تردد نداء الفلاح عند كل أذان !

 وتلك - لعمري - قمة جمالية الختم !

 

وبعد؛

   فهذه وقفة تأمل في ديوان جديرة كل قصيدة فيه بوقفة خاصة لما تنطوي عليه لغتها الشاعرة من مشاعر، وأحلام، وآمال، وأشواق، ومكابدات، انتقى لها مبدعها اللحن المناسب وزنا، وإيقاعا، وصياغة، ولونا، بدءا من الحروف وحركاتها، ومرورا بالأفعال وأزمنتها وبنياتها، وانتهاء بالكلمات وتركيبها.

 وختاما، لا يسعني  إلا أن أدعو لديوان "بستان خدها" بأن يبقى ممرعا تذلل قطوفه تذليلا للمتيمين بالشعر الرفيع معنى، العفيف لفظا، السامي رؤيا.

  وفي انتظار تفتق بستان جديد، دمت أخي عبد الرحمن شاعرا مفلحا.





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق