الخميس، 16 ديسمبر 2021

د.رمضان الحضري

 مقالتي عن نجيب محفوظ المنشورة بعدد اليوم من مجلة المصور المصرية تحت عنوان:

في قصر أديب نوبل (حوار لم ينشر ) صـ 38،39

******************************

تتسع المسافة بين الواجب والممكن حسب ارتباط كل منهما بالواقع، فمن يرتبط بالواقع يكون أكثر قدرة على تحقيق الهدف، ومن لا يرتبط بالواقع يكون عرضة لضياع الفرص والعودة للبحث من جديد في أساليب تمكنه من تحقيق الهدف .

هذا يذكرني برَجُلٍ وقف في آخر الليل تحت عمود للإنارة يبحث عن مفتاح بيته، فمر عليه جاره فسأله: عمَّ تبحثُ ؟ فقال أبحث عن مفتاح بيتي، فقال الجار : وهل سقط منك المفتاح هنا ؟ قال الرجل: لا، بل سقط في الشارع الآخر، فقال الجار: ولماذا تبحث هنا ؟، فقال الرجل: لأن المكان هنا مُضاءٌ ولكن الشارع الآخر مظلم .

رغم فكاهة المثل إلا إنه يبين أن الرجل يبحث حيث يمكنه أن يبحث، فهو سوف يرى في النور ولكنه لن يرى في الظلام، والواجب أن يبحث في الظلام حيث سقط المفتاح ، فالبحث في الظلام أقرب للواقع، فالواجب هنا أقرب للواقع، بينما الممكن بعيد جدا عن الواقع .

فلو تمسك بما يجب عليه فسوف يحقق هدفه، وأما التمسك بالممكن كثيرا ما يكون سببا في تخلف الأمم .

ربما أتستر بهذه التقدمة لأدلف إلى قصر من أكبر قصور السرد العالمي وهو قصر نجيب محفوظ السردي ، حيث بدأ محفوظ كتاباته بالواجب وليس بالممكن ، فقد حاول إحضار الماضي في الحياة المعاصرة في وقته ( منذ الثلاثينيات وحتى منتصف الخمسينيات ) ، فاستحضر التاريخ المصري القديم في الحاضر وكأنه سوف يتتبع التغيرات التي سوف تطرأ على الشخصية المصرية، ولم يكن يكتب تصويريا كما قال عنه نقاد كثيرون، نعم؛ كان يصور المواقف تصويرا فريدا، ولكن هذا التصوير كان يحمل بعدا فلسفيا معاصرا في تقديم الفكر القديم بصورة حديثة، وهذا معنى أنه يأتي بالماضي ليجعله يعيش في الحاضر وليس العكس، فلم يجر القارئ للماضي، بل أتى بالماضي ليتفاعل معه القارئ وهذا ما جعل القارئ المصري يفخر بسرد محفوظ في روايات كفاح طيبة، ورادوبيس، وأرمانوسة المصرية.

وحينما كتب محفوظ عن الشخصية المصرية في الوقت الحاضر لم يكن توصيفه لها أقل من توصيف علماء الاجتماع أو علماء الجغرافية السياسية، بل كان هذا التوصيف مهما للغاية في جانبين؛ الأول هو تقديم الحقائق بصورة فنية مذهلة تجعله يتفوق على معظم الكتاب العالميين ناهيك عن الكتاب العرب، لأنه كان يستطيع أن يخترع فضاءات سردية مرتبط ارتباطا شديدا بالزمان والمكان الواقعي بأسماء الحارات المصرية، فلم تكن عينه كاميرا تصور الواقع، ولكن عقله كان يقف في المنتصف تماما بين ما يريد أن يقدمه من وجهة نظر في المجتمع، وبين ثقافة المجتمع من عادات وقوانين وسلوكيات، فلا يستطيع قارئ أن يفصل بين الشخصية السردية، والشخصية الواقعية، لأن كاتبنا الكبير كان لا يتحكم في شخصياته ولا يسيرها حسبما يرى، ولكنه كان يدخل في الشخصية من الداخل ويراها كيف تفكر ليجعل سلوكها من داخلها وليس من فرضيات الكتابة، والدليل على ذلك أن معظم الشخصيات التي قدمها في رواياته لا زالت تعيش في المجتمع كعناصر اجتماعية مؤثرة وليست كعناصر روائية؛ فشخصية السيد أحمد عبد الجواد يتحدث عنها الرجال أو النساء تحت مسمى "سي السيد" فلو سألت امراة عن زوجها ستقول لك "عامل فيها سي السيد"، وهنا عبقرية الكاتب الذي يجعل عمله 

عنصرا اجتماعيا يعيش داخل المجتمع، ينبع منه ويصب فيه، وبين المنبع والمصب تبدو المؤثرات الموجية في ارتفاع وانخفاض، فلم يكن محفوظ يقدم أعماله الروائية على البناء السردي الذي يعرفه جيدا، ولكنه كان يتخطى وجهة النظر، ويتخطى الرؤية الشخصية إلى تقديم مقترحات جديدة في الفكر الروائي وبث إضاءات متنوعة على المناطق المظلمة في الحارة المصرية فجعل القارئ الأجنبي يعيش في هذه الحارات وينفعل بها، وربما هذا ما جعل روايات محفوظ تصبح أفلاما في المكسيك، والهند، وبعض الدول الأوروبية، ولم يهتم نقاد الرواية بكتابات سردية عربية كما اهتموا بنجيب محفوظ حتى قبل حصوله على جائزة نوبل، فقد تناوله بالنقد عدد من الصعب أن نحصره منذ عميد الأدب العربي طه حسين، وعباس العقاد، وتوفيق الحكيم، وعز الين اسماعيل، وسيد حامد النساج، وأحمد إبراهيم الهواري، وعبد المحسن طه بدر، وشكري عياد، ونبيل راغب، وصبري حافظ ، وعبد القادر القط، ورشاد رشدي، وغيرهم كثيرون، هذا من النقاد.

أما الجانب الثاني فهو وجود نجيب محفوظ كحلقة وصل بين بداية الرواية المصرية في صورتها التي لم ترق للعالمية، وحتى فتح الطريق أمام الروائيين العرب، لكسر الجمود الذي كان قد أصاب الرواية المصرية حتى أصبح مؤثرا في معظم كتاب الرواية الذين عايشوه، والذين جاءوا بعده مذ الستينيات، وحتى لحظة كتابة هذا المقال، وكان تأثيره واضحا في يوسف القعيد، وجمال الغيطاني، وعبد الحكيم قاسم، ومحمد كشيك، وسعيد الكفراوي.

لست أدري من أين جاءت حالة الفصام التي أصابت الرواية العربية في وقتنا الحالي، فلم يعد هناك كاتب يستطيع أن يقدم مقترحات جديدة في السرد والحكي والشخصيات والأحداث، كما كان يقدمها نجيب محفوظ، وربما السبب الرئيس (من وجهة نظري) الذي أدى إلى ذلك هو عدم وضوح ماهية الفن الروائي ووظيفته بالنسبة لكتاب الرواية الحديثة حيث أنهم يعتمدون التسويق والتجارةولا يعتمدون الفن كمؤثر اجتماعي في بناء الشخصية. 

وحينما حصل الكاتب الكبير / نجيب محفوظ على جائزة نوبل عام 1988م، قدمنا من العريش بتفويض من اللواء / منير شاش محافظ شمال سيناء وقتئذ لتهئنة كاتبنا الكبير، وكنتُ برفقة شاعر مصر الكبير المرحوم / محمد عايش عبيد، والناقد / حاتم عبدالهادي السيد والكاتبة / سهير الشحات، والتقينا نجيب محفوظ _ رحمه الله رحمة واسعة _ بمكتبه بجريدة الأهرام بالطابق السادس ، ولحسن حظي دخلت المكتب المجاور لمكتب نجيب محفوظ فوجدت الكاتب الكبير الدكتور/ لويس عوض ، ولست أدري لماذا طلبت منه أن يحضر اللقاء ! ولا أدري لماذا وافق دون نقاش !.

وانتظرت حتى يفرغ رفاقي من حديثهم لأنفرد بنجيب محفوظ ولويس عوض ، وقد كان لي ما أريد ، هناك ألفة للقلوب لاتأتي بمال أو منصب ( لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم ) ، لكنني تيقنت أن الكاتب الكبير يحب بلاده حبا جما ، وخاصة أهل سيناء التي جرت على أرضها 

النكسة والنصر وسمعته يتمنى لو أنه استطاع أن يعيش هناك ليتعرف على طبيعة الحياة ليكتب عنها وبدأت استفساراتي بسؤال من أول من كرَّم نجيب محفوظ وتنبأ له أنه سيكون مستقبل الرواية العربية ؟ 

فقال الكاتب الكبير : السيدة قوت القلوب الدمرداشية ، هذه السيدة كانت غنية في كل شيء ، فكانت أديبة كبيرة وكتبت أعمالها بالفرنسية وترجمت هذه الأعمال إلى الانجليزية والإسبانية والألمانية واليابانية وكانت غنية بالمال بل إنها كانت من بين أغنى عشرة في مصر كلها ، لدرجة أن الأستاذ / محمد عبدالوهاب كان يداعبها ويقول لها (مش عندك عزبة قديمة ياهانم ليا) ، وكان لها صالون أدبي يحضره كبار المثقفين من  مصر والكتاب الفرنسيين ، وكانت تقدم محاضرات بجامعة السوربون ، وأجرت السيدة قوت مسابقة في الرواية عام 1940 م فتقدمت للمسابقة برواية (رادوبيس) وتقدم مئات الشباب المصري، لكن رواية (رادوبيس) هي التي فازت بالمركز الأول مناصفة مع رواية (واإسلاماه) لعلي أحمد باكثير ،وكانت لجنة التحكيم من أعضاء مجمع اللغة العربية برئاسة طه حسين ومعه أحمد أمين ومحمد فريد أبو حديد ، وكانت الجائزة 40 جنيه وكان نصيبي منها 20 جنيه وكان هذا مبلغ ضخم عام 40 .

وطلب مني التعرف على أعمال قوت القلوب الدرمرداشية الاجتماعية ، حيث إنها تبرعت لمستشفى الدمرداش بمبلغ 50 ألف جنيه ذهب ، وتبرعت بمساحة 100 فدان لبناء جامعة عين شمس و100ألف جنيه ذهب لمباني الجامعة ، كانت مصرية محبة لأبناء الشعب المصري .

وكان سؤالي الثاني لكاتبنا الكبير : ماالموقف الذي يتكرر دوما وتضحك لرؤيته ؟ .

فأجاب : كلما زرت صديقي الحبيب ( م . ل ) في مكتبه أنظر إلى لوحة خشبية موضوعة على مكتبه ومكتوب عليها ( هذا من فضل ربي ) وانا أعلم مصدر ثروته جيدا .

وجاء السؤال الثالث: هل ترى أن هناك كُتّابا يستحقون جائزة نوبل قبل نجيب محفوظ؟

فأجاب مسرعا: نعم سيادة العميد الدكتور/ طه حسين، والأستاذ/ توفيق الحكيم، وصديقي العزيز الدكتور/ يوسف إدريس، ولو جاءت هذه الجائزة وكان طه حسين وتوفيق الحكيم على قيد الحياة سأكون في حرج شديد فهم أساتذتي وخاصة توفيق الحكيم الذي كنت أعرض عليه كتاباتي أولا بأول حيث كان دائم التشجيع لي والثناء على أعمالي ويقدم لي دفعات كبيرة إلى الأمام بل كان من أهم المعجبين بأعمالي (شوف بقى لما أعمالك تعجب الأستاذ توفيق الحكيم الذي قرأ معظم الأدب الغربي، يكون شعورك ايه).

وتوجهت بالسؤال إلى الأستاذ الدكتور لويس عوض فقلت له: تعلمت أنت وكاتبنا العالمي نجيب محفوظ على يد عميد الأدب العربي طه حسين، فما الشئ الذي فاتكم ولم تتعلموه منه؟

فأجاب الدكتور لويس عوض: وكأنك كنت تحضر معنا جلسة من جلسات الدكتور طه حسين، حيث كنت في زيارة له أنا ومجموعة من الكتاب المصريين منهم أنيس منصور والشرقاوي ونجيب محفوظ فسألته، يا سيادة العميد لقد تعلمنا منك الكثير، فما الشئ الذي لم نتعلمه منك؟ فأجاب العميد: لم تتعلموا أن تثوروا على ما على كل ما قدمته لكم من معلومات، فهذه المعلومات إذا ظلت ثابتة، فإنها تقدم مجتمعا متخلفا ولكن نحصل على المعلومات لكي نبني عليها أفكارا جديدة وعلوما جديدة وحتى لغة جديدة.

وكان سؤالي الأخير لنجيب محفوظ: من الشخص الذي تخاف منه؟ فقال: كثيرون فالمجنون إذا تكلم كلاما منطقيا أخاف منه، والشرير إذا تكلم كلام ناعما أخاف منه، واللص إذا تحدث عن الشرف أخاف منه؛ لأنه في هذه الحالة (بيدبر ليا مصيبة).

رحم الله نجيب محفوظ عميد الرواية العربية وربما العالمية على حدود ما قرات، فقد قدم حياته كلها لمجتمعه المصري والعربي لقاء أن يجد مكانا ليدفن فيه، وأظنه لم يجد راحة سوى في حضن القبر.


بقلم د.رمضان الخضري

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق