الأحد، 10 ديسمبر 2017

بقلم ادريس الحنبالي

إسراء
بعد الغياب يحل بالبيت من جديد، مآذن المساجد تصدح بالتكبير و التهليل؛ وفرحة عارمة تلوح من وجهه الباسم و قد تدرج بحمرة قرمزية كأنها الشروق؛ خرج من رحم السماء ..وكلما نظر إليهم مغتبطا يرتدي جلبابه الأبيض تتحول سمرته الخفيفة إلى نحاس يخالطه  الذهب..هَا قَدْ عاد "مشماش" بَعْدَ طُولِ غِيَاب..كذا كان يُلقَّبه أهل قريته كلّما رصدوه يَجِدُّ السّيرَ؛ إليهم بعد طول غياب ..كان قوي البنية متوسط القامة عالي الهمة كريم الفؤاد؛ وكسيرَه!..حين كان يَحْمَى الوطيس على أرض الكُرْسِ والطّليان..تشتدّ لوعة الاشتياق و تَعْتَمِلُ في ضميره أهوال الأحزان..يذكر هناك والده وأمه البديلة! حين اقتفيا أثره إلى ثكنة فرنسية بهامش مدينة فاس؛ يستجديان عودته إلى البيت؛ لكن الأوان كان قد فات..ويذكر زهرته و أخته الصغيرة رقية؛ إذ تخَطّفَ بصرَها داء الجذري الفتاك ؛ فينطلق إِثْرَ كلّ موت زؤام لا يبالي ولا يَجِلُ..و أجمل الأوقات كانت هدوءً حذرًا يُخيّم على جبهة القتال؛ يركن فيها إلى رفيق سلاح يُمْلِي عليه ما تيسّر من سلام؛ يزفُّهُ إلى أحباب اسْتَبَدَّ بهِمُ الشّوق وأحاطت بهم صُنوفُ آلام ..كان يُحْيِي ذكراه بلقب "الفقيه"..وهو تشريف لمن تعلّم القراءة و الكتابة في أحد كَتَاتيب "الدّوار" .
 في أيامه الأخيرة كان يبكي بحُرْقة كلما تذكّرَ كيف أجهزت عليه  نار صديقة! ..كان يُسْدِل كفَّيه الذّابلتين على عينيه ثم يجهش بالبكاء. كيف لا يحزن لفراقه وهو بالنسبة له و لغيره حارس أمين  للأحلام؟..ذات مرة؛حين قصّ عليه رؤياه، بشّره أن الحصان الأدهم الذي يمتطيه؛  لا يعدو أن يكون وليا صالحا شريف النسب يقيم ببلدته؛ فينقلب إلى نفسه قرير العين؛ ولحيته النافرة الكثة تتخضّب بالدموع..أحيانا؛ كلّما استولى عليه شغب الأولاد  ..يفزع إلى كاسحة مياه المنزل بعودها الخشبي؛ ثم يقف مستقيما كطفل حديث العهد بالمدرسة؛ ثم يرفع هامته و تراه ينقها إلى كتفه الأيمن رافعا عقيرته للسلام تارة، يستنهض الهِمَمَ تارة أخرى..  ينكفئ على بطنه في لمح البصر ويفرق رجليه إلى الخلف،  ثم يقطر كاسحة المياه إلى كتفه مستعدا لِرَمْي العَدُوّ و إصابته في مقتل؛ فترى كلّ واحد منهم ينهار في ركنه يستبد به المشهد البادخ بالبطولة و الفرح الضاحك...ذاك البياض الذي يَرْفُل فيه يقصد إلى المسجد و عند الإياب..كلّما ارتقى السّلم يأخذ بيده شوقه إلى متكئه، وولعٌ  بأباريق  الشاي.. يُدَاهِمهم بطرقتين صاخبتين يحثّهُم على فتح الباب دون إبطاء..و أخرى كان صخَبُه فيها أكبر و ثورته أعنف حين زف لهم ذات مساء أخبارا تتحدث عن استدعائه و أقرانه من قدماء المحاربين للذهاب للقتال على جبهات فلسطين..ثم لا يفتأ يعود إلى صوابه مستسلما؛ حين تلوح له منهم  بوادر فكاهة و كبير استغراب..كانت أحب مناه رحلة إلى بيت الله الحرام   وكلما ذكره؛ يأخذه العجب ممن يستطيع فيأبى..أو لمن يطير إلى مكة دون أن يعرج على أم الأنبياء  وقدس الأقداس..وفي القيروان كانت فرحته عارمة لما التقى بأهل بلدته يكابدون تعب السفر و حَرّ الشوق إلى مكة و المدينة؛ هنالك أكرم نُزُلَهُمْ وَطَافَ بزملائه بالثكنة يستزيد العطاء وبعدها تراه يُشَيّعُ ضيوف الرحمان و هم راضون يلهجون بالدعاء..كثيرا ما ردد على مسمعي: " قَرْوَان" حج المسكين؛ و كُلّ مَنِ انطلق ساعيًا إلى أرض الحجاز ثم أدركها مُفْتَقِرًا للزّاد و المال؛ تُقَيَّد في صحيفته حجّةٌ كاملة..وركن أركان الحج؛ نزولٌ بِأَرْضِ  فَلَسطين.
ادريس حنبالي
المغرب

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق