الأحد، 31 ديسمبر 2017

الكاتب محمد حسن عبد الحافظ

بعد ربع قرن قادم، بماذا أجيب أبنائي – الذين لم يولدوا بعد –
 إذا وضعوني تحت مجهر المساءلة  بـ ليل؟ وإذا فجَّر أصغرهم سؤالاً حارقًا في وجهي: لماذا سمحتم يا أبي بأن نولد مختنقين؟
قد أفصَّل لأبنائي وقائع ولادتنا في ظروف موحلة، وربما أكدت لهم أننا سبقناهم في وراثة ما ورثوا من هزائم، لكن رؤوس أبنائي حتمًا ستنحني وهم هازؤون، وأكبرهم يردد: أُكلنا يوم أُكِلَ الثور الأبيض.
سوف يكون أمام أبنائي - وأبنائكم – بيان جليّ لتاريخ من المجازر والإبادة المنهجية في غيبة من الضمير الإنساني والشرعية الدولية (هل عرفت شعوبنا إنصافًا من الشرعية الدولية يومًا؟). سيكونون عارفين بـ"فكرة إسرائيل"، بدءًا من الجغرافيا المزعومة، ووعود رب اليهود في التوراة والتلمود، مرورًا باستبدال شعبٍ بشعب وثقافةٍ بثقافة، وانتهاءً بتحقق "إسرائيل الكبرى" التي تفتح فمها الآن – بعد ربع قرن – لالتهام أبنائي.
تُرى، هل نظل ننتظر ذلك المستقبل الذي نموت فيه بـ الحَيَا عندما يحاسبنا أبناؤنا على النكبات التي صنعناها لهم؟ أم لايزال في الوسع مقاومة ذلك القدر الذي يرسمه قطب الشر الوحيد في هذا العالم، وقد سبق أن أقام حضارته - قبل زهاء خمسمائة عام - على جماجم السكان الأصليين؟
لقد عانى أباؤنا المصريون من بريطانيا العظمى يومًا، لكنهم قاوموا، ودافعوا عن وحدتهم وحريتهم. ودار الزمان دورته الدائرة، لتتحول بريطانيا العظمى إلى ذيل لامبراطورية أمريكا العظمى.
هل في إمكاننا الانتباه – قبل فوات الأوان – إلى أن مصر تمثل هدفًا رئيسًا للمغول الجدد، مثلما مثَّلت مطمعًا للمغول القدامى، بعد تدمير العراق والشام؟
باتت سياسات "خنق مصر"، وتحييدها، فاشلة،  ولا مناص من مواجهة سياسات بديلة أكثر ضغطًا. إن العدوان العسكري المباشر مستبعد في هذا السيناريو، قد يكون الحصار، والمزيد من الخنق، هما وسيلتان أكثر فعالية.
قدرنا الحقيقي أن نفهم، دون الاتكاء على راعٍ غير نزيه يرضعنا الفهم بمعرفته وبمصالحه. قدرنا أن نكون صوتًا للعدل في هذا العالم. قدرنا إعادة إنتاج المعنى لوجودنا، ووجود أبنائنا من بعد. ومثلما سقطت روما القديمة، تسقط روما الجديدة، حتمًا، عندما تصل إلى ذروة توحشها، فلا خيار لها غير السقوط السريع. وليس لديّ ما أقوله لأبنائي، قبل ربع قرن، إلا: ثقوا بدمكم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من مقدمة كتاب "ذاكرة لأطفال لم يولدوا بعد"
فبراير 2003

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق