الجمعة، 18 ديسمبر 2020

عمر الاشقر

 التباعد الاجتماعي ( la distanciation sociale ) !


كثر الحديث واللغط عن طرق الوقاية من عدوى كوفيد 19 إلى حد التخمة والغثيان ...

سنة كاملة  من الوعظ والإرشاد بلغات ولهجات ومنهجيات مختلفة ...

سنة كاملة أو ما يقاربها ،  تضاربت فيها الأقوال ، وتناطحت فيها الأفعال ، وتناقضت فيها الأبحاث والدراسات ، وتاه فيها البشر واحتار ولم يعد يدري فيها ما يختار ...

كل نصب نفسه خبيرا في الفيروسات والأمراض المعدية والسياسة الصحية والتغيرات الجينية والبيلوجية ، ومن حقه أن يفتي في هذا الموضوع فتاوى صحيحة تقطع الاختلاف والخلاف !

فيديوهات تدعي العلمية غزت مواقع التواصل الاجتماعي .

شهادات للمرضى المصابين أو للمدعين والكذبة والنصابين .

شعوذات وخرافات واقتراحات علاجية بالأعشاب وأوراق الشجر ودخان التعقيم والتطهير ...

فإذا كان الفيروس واقعا يحصد أرواح البشر حقيقة ، وينتشر بالعدوى بسرعة النار في الهشيم ، ويقاوم معظم الإجراءات المتخذة ، ويصر على البقاء معنا مدة طويلة لتطهير الأرض من البشر ، فإن كل ما دار حوله من فلسفات وتحليلات ودراسات وتأويلات يبقى بلا يقين ثابت ، ولا حقيقة قاطعة ...

ومن الطرق التي جعلوها وسيلة للوقاية من عدوى هذا الفيروس اللعين ، الذي فاجأ البشر بعنفه الشديد ، طريق التباعد الاجتماعي ( La distanciation sociale ) .

وهذه العبارة ليست دقيقة في الدلالة على المقصود .

إنها تثير قضية الطبقية في المجتمع ، وتعني في عمقها وجوب التباعد بين طبقات المجتمع .

فالأغنياء طبقة مجتمعية ، والفقراء طبقة أخرى ، والأعيان طبقة ، وعموم الشعب طبقة أخرى ، والمثقفون طبقة ، والأميون طبقة أخرى ، وكبار السن طبقة ، والشباب طبقة أخرى ، والتجار طبقة ، والحرفيون طبقة أخرى ... وهكذا .

والدعوة إلى التباعد الاجتماعي تعني الدعوة إلى التباعد بين طبقات المجتمع ، فلا ينبغي لطبقة الأغنياء أن تخالط طبقة الفقراء ، ولا ينبغي لطبقة الأعيان أن تخالط طبقات الشعب ، ولا ينبغي للطبقة المثقفة أن تخالط طبقة الأميين ...

وهذا الإجراء إذا طبق بهذا الشكل ستنتج عنه تراجعات مكتسبة على مستوى التطور الذهني والحضاري في تصور المجتمع وبنياته وتماسكه ومساواته ...

إن العبارة التي أراها مناسبة للتعبير على المقصود بالتباعد الاجتماعي ، هي :

التباعد الصحي ( la distanciation  sanitaire ) .

هذه العبارة تعني وجوب احترام المسافات الصحية بين الناس تفاديا للعدوى بالرذاذ أو الأنفاس التي قد تحمل بعض العناصر الميكروسكوبية للفيروس .

وهذا الإجراء الصحي يجب احترامه حتى إذا انتفى وزال كوفيد 19 وانتهى زمن كورونا ، لأن حميمية الأشخاص لا ينبغي الاعتداء عليها .

 فليس من الوقاية الصحية ولا الأخلاقية ولا التربوية الالتصاق الذاتي بالناس لأجل الحديث معهم ، ورشهم بالرذاذ المنبعث من الفم أثناء الكلام ، وإضرارهم بأنفاس قد تكون كريهة ، وتقليل فضاء الراحة النفسية عنهم ...

إنه من سوء التربية عدم احترام المسافات الحميمية عند الحديث مع الناس ، والإصرار على الالتصاق بهم حتى في الفضاءات الواسعة .

أحيانا بقدر ما تتراجع إلى الوراء لتحتفظ بالمسافة الحميمية بينك وبيك شخص ، بقدر ما يتقدم نحوك حتى يلتصق بك . وهذه عادة مرضية نتمنى أن يقضي عليها هذا الفيروس ، بعد عجزت التربية والثقافة  عن القضاء عليها .

وطالما سمعت كرد على موقفي من الاحتفاظ بالمسافة الحميمية أثناء الحديث ، قبل كورونا بكثير :" كتهرب مني بحال إلا في الجذام " !!!!

خلاصة القول أن التباعد الاجتماعي ليس إجراء سليما ولا حضاريا ، إنما المقصود هو التباعد الصحي مع بقاء التقارب الاجتماعي ...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق