الجمعة، 2 أغسطس 2019

بقلم درمضان الحضري

وما علمناه الشعر
الكلمة بين عالمي النحو والإبداع
******

( هُـبّي يا رياحَ الجنةِ ) كانت هذه كلمة السر لمولانا العظيم فارس العربية
بلا منازع الذي كان لا ينام ولا يترك أحدا ينام إنه خالد بن الوليد رضي الله
عنه وأخو الوليد بن الوليد بن المغيرة رضي الله عنه ،الذي قالت فيه بنت عمه
 أم المؤمنين السيدة أم سلمة رضي الله عنها وجعلنا من أبنائها يوم القيامة عند وفاته :
 يا عيـن فابك للوليد بن الوليد بن المغيرةْ.
قد كان غيثـاً في السنين ورحمةً فينا منيرةْ
ضخم الدسيعة ماجداً يسمو إلى طلب الوتيرةْ.
مثل الوليد بن الوليد أبي الوليد كفى العشيرة
 فكان خالد بن الوليد أكبر قادة الجيش العربي الإسلامي عبر تاريخه الطويل ،يبدأ معركته بهذا النداء والطلب ( هُـبي يا رياحَ الجنة ) ، فكانت الكلمة تجري في دم جنوده فتسلمهم النصر قبل بدء المعركة .

أشرت في قالة سابقة إلى أن النحاة نفعوا اللغة في مواقع وأضروها في أخرى، فالنحو كعلم لم يضف للعربية شيئا غير التقعيد ، واعتمد في تقعيده على الفلسفة والمنطق ، وفي ذات الوقت وضع سدودا وحدودا وأسوارا عالية أمام الابتكار وأمام حركة سليقة اللغة العربية ، وهو كعلم في حد ذاته لا بأس به ، لكن المشكلة في أولئك الذين يظنون أنه العلم وغيره فلا .
رغم أن سيد نحاة العربية الخليل بن أحمد الفراهيدي الأزدي العماني البصري رحمه الله تعالى رحمة واسعة حينما سأله طلابه عن فقه الإمام أبي حنيفة النعمان قال لهم : ( أرى جدا وطريق جدا ، أما نحن " يقصد النحاة " في هزل وطريق هزل ) ، ولم ينتبه النحاة لقول لسيدهم ، وقد روي عن ثعلب النحوي أنه قال متهكما على نفسه وتلاميذه : ( انشغل أهل القرآن بالقرآن تفسيرا وفقها ففازوا ، وانشغل أهل الحديث بالحديث فهما وتأصيلا ففازوا ، وانشغلت أنا بزيد وعمر ! )
رحم الله العظيم الدكتور يوسف عز الدين واحد من أهم طلاب عميد الأدب العربي وعميد الثقافة العربية وعميد الفكر العربي / طاها حسين ، قال يوسف عز الدين : ( سمعت الدكتور طه حسين يقول بحرقة على الملأ : ويلٌ للعربية من لابسي ثوب النحو وهواة اللغة ، الذين يظنون الفصحى حكرا عليهم ، فيوقفون نموها ، ويقطعون شرايينها ، ويمنعون عنها الماء والهواء ، ويظنون أنهم

 يحسنون صنعا ) ، وما وثقت في علم بعد كتاب الله وسنة رسوله الأعظم قدر ثقتي في فكر وثقافة وفقه البصير طاها حسين ، فها هم يفعلون ما قال حرفيا ، يظنون أن اللغة قد ورثوها من أب وأم ميراثا شرعيا ، ولا يحق لغيرهم أن يتحدث بها سوى بأمرهم ، وهم بها أدنى معرفة من الرضيع في أيامه الأولى بالنطق .
ويقول الدكتور حسين مجيب المصري: ( لا تأخذوا اللغة من نحويٍّ، بل خذوها من أفواه أهل الأدب، وزمرة الفنانين، والكاتبين الموهوبين . اللغة وضعها أحمد شوقي الفيلسوف، والعقاد العصامي بلا شهادات ، والرافعي حاجب المحكمة ، والزيات الصحافي ، والمازني الفنان ، والمويلحي العاشق ، والمنفلوطي البليغ ، وطه حسين الموسيقي ! فهؤلاء هم أهلها ، وأحرص الناس عليها ، وهم الذين سهروا من أجلها ، فرفعوا قدرها بإبداعهم الجميل ، ومؤلفاتهم الباهرة ، وليس النحاة، أهل الظاهر ، والقشور ، والمماحكات ، والتعقيدات ) . وغالبا لن يعرف النحاة من هو حسين مجيب المصري الذي كان يكتب بمعظم لغات العالم الحديث ، فكان يكتب بالعربية والفارسية والتركية والأردية والإنجليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية والروسية واللاتينية يكتب بها أشعارا ومؤلفات وترجمة للعربية وغيرها من هذه اللغات ، ( 1916م _ 2004 م ) وعمل رئيسا لقسم اللغات الشرقية بكلية الآداب جامعة عين شمس ، ولم يسعدني القدر بالجلوس بين يديه إلا مرة واحدة ، رحمه الله رحمة واسعة فقد كان طلابه في مكتبه من كل بلاد العالم تقريبا وأوربا وآسيا على وجه الخصوص
 .
وظن اللغوي محمود شاكر رحمه الله أن العقاد سوف يفرح حينما يقدح محمود شاكر في شعر أمير الشعراء أحمد شوقي ، ( ظن محمود شاكر أن شوقي قد حصل على إمارة الشعر من دولة الإمارات العربية المتحدة خلال مسابقتها شاعر المليون ) " من باب طرفتي "  ، فطعن محمود شاكر في شاعرية شوقي ، وفوجيء بأن العقاد انبرى للرد عليه  مُبيِّناً براعة شوقي الذي اختار كلمة (ضئيلا) قافية لبيت  قال فيه:
قطعوا بأيديهم خيوط سيادة
كانت كخيط العنكبوت ضئيلا
فقال العقاد دفاعاً عن شوقي: «إن (ضئيلا) في هذا البيت الذي وصف فيه شوقي سيادة بني عثمان ، لتحمل للإعراب العربي تلك الطمأنينة التي تستقر بها في موضعها ، فلا تضطرها الخيوط إلى الجمع ، ولا تضطرها السيادة إلى التأنيث ، وليس عليه أن يقول: (كانت ضئيلة) ، ولا أن يقول: ( قطعوا خيوطاً ضِآلا ) لأن لسان الحال هنا أصدق من لسان المقال! فقد صدق شوقي الشاعر في حسه اللغوي وتبحره على هذا النحو فقد أصاب شوقي وأخطأ النحوي .
وقد روى العلامة شوقي ضيف وهو صاحب رؤية في كتابه تجديد النحو ، أنه قال لمحمود شاكر : ( قرأت ديوانك الشعري ، فهل تعده شعرا وأنت تنتقد
شعر شوقي ؟ ) فقال شاكر : ( أسكت يا ضيف هي من فلتات اللسان والشباب فلا تقف عند كلامي هذا طويلا ) .
إن الذين يأمرون الناس أن يتحدثوا بنحوهم ، نقول لهم إن اللغة والحديث بها والتلفظ والنطق قد سبق النحو ، وكان النحاة السابقون وعلى رأسهم سيبويه إذا تحدثوا للناس لحنوا ، وكان بعض عامة العرب يصححون لهم ، وعلينا أن نعيد قراءة كتاب ( مراتب النحويين ) .
تخرج للناس بعض الفئات متمايزة أنهم حصلوا على كلية كذا التي تعلم اللغة العربية أفضل من بقية الكليات ، وهم يقصدون علم النحو ، فحصروا لغتنا كلها في النحو ، رغم أن النحاة أنفسهم وعلى رأسهم أبو الفتح البستي كان يقامر بالنحو من أجل محبوبته فأحب حبيبته أكثر من قواعد النحو حتى قال فيها :
   أَفدي الغَزالَ الّذي في النَّحوِ كلَّمَني
 مُناظِراً فاجتَنَيْتُ الشّهدَ مِن شَفَتِهْ
فأوردَ الحُججَ المقَبولَ شاهِدُها
 مُحَقِّقا لِيريني فضلَ معرِفَتِهْ
ثمَّ اتفَقْنا على رأيٍ رَضيِتُ بهِ
فالرَّفعُ مِن صِفَتي والنَّصبُ مِن صِفَتِهْ
وما أرق ابن الوردي حين يقول عن محبوبته نحوا شعرا أو شعرا نحويا
فيقول  :
قلت والشعر يشي في خدها
لام حسن سهلت لومي علي
بحياة الحب كوني للرضى
 (لام جر) لا تكوني (لام كي)
هذه تقدمة هادئة لقالتي التي سوف تأتي غير هادئة ، وختاما كما بدأت بقول خالد بن الوليد أختمها بقوله ( هبي يا رياح الجنة ) .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق