الخميس، 15 أغسطس 2019

بقلم سميرة مسرار

في مملكة والدي

كثيرة هي الأوقات التي كنت أهرب فيها من حاضري إلى طفولتي ،أبحث عن أحلام طفلة صغيرة. لم أكن أعرف لذلك سببا، ربما كانت لحظات التعب تجعلني أحن لفترة  اللهو واللامسؤولية   وتدفعني إلى الفرار بجلدي من ضغوط الحياة والتملص من النفاق الذي يحيط بنا، أو هو الاشتياق لأب محب سرقه الموت !
 عدة تساؤلات تطرق باب العقل دون القدرة على الوصول لجواب مقنع.

حنيني لطفولتي ذو ارتباط قوي ومباشر بأبي. فمنذ صغري وأنا لا أفارقه حتى أصبحت أفضل عالم الرجال على عالم النساء الذي اقترن دائما في مخيلتي الصغيرة بالضعف والعمل اللامتناهي في المطبخ والتربية والخضوع لكلمة الرجل الأقوى. فضّلت عالم الرجال لأنني أعجبت دائما بقوة أبي القيادية في المنزل ذلك أن الكلمة الأولى والأخيرة كانت له . كنت إلى جانبه  باستمرار حيثما كان يجلس مع إخوته أو أصدقائه، يعجبني حديثهم وتضحكني طريقة تناولهم   لذكرياتهم و تلك المواقف الساخرة المضحكة التي كانوا يقيعون  بعضهم البعض  في شراكها ...

كانت جلسات أعمامي كثيرة ومتواصلة ومنتظمة ، غير أنها لم تكن تستهويني مع أنني ما زلت أحفظ كل حكاياتهم عن ظهر قلب. كانت الطفلة التي تسكنني تشعر بتفاهتها لأنها لم تكن إلا مناسبات للتفاخر في النسب والأموال والأبناء والأحفاد وأمجاد العائلة. ومع ذلك كانت تراقبها وتستأنس بها لأنها كانت تفتح لها فضاءات واسعة للدخول شيئا فشيئا إلى عالم الكبار.

وأنا الآن في رحلة هروبي إلى زمن ولّى وانتهى، أتذكر أنني عندما كنت في سن السابعة من عمري ذهبت مع أبي لحضور عرس كان يقيمه عمي  على شرف باقي أعمامي والعائلة بمناسبة زواج ابنته .

كان عمي صاحب العرس يحب الدنيا والهزل  بشكل كبير، وكانت له أساطير في المزاح والمقالب التي كان يمارسها على إخوته. بينما عمي الكبير كان رجل دين وأخلاق زاهدا في الدنيا بشكل لم أعرف له مثيلا، كان وسيم الوجه، ذا لحية بيضاء، دائم الابتسامة ومحبّا للعطاء والصدقة.

خلال مأدبة هذا العرس الشهير، والذي ما زلت أتذكره إلى يومنا هذا، حاول عمي (صاحب العرس) أن يخلق حدثا للمرح على حساب عمي "الزاهد" الذي اتخد  لنفسه زاوية وعزل نفسه فيها فصار لا يعرف من الحياة سوى العبادة والدين.بما انه  كان حاملا للقرآن الكريم، فقد كان حديثه كله استشهادات بالآيات الربانية. كان يُشهد له بالتقوى والاستقامة ومع ذلك رغب أخوه المستهتر في أن يورطه لارتكاب خطأ يشبه أخطاءه أو يزيد عليها. آنذاك كانت الأعراس تعتمد في تنشيطها على فرق" اللاعبات" أو ما يسمى بـ«فرقة شيوخ المرساوي». وحتى يصل إلى هذفه المتمثل في الاحتيال على  عمي الزاهد وأسقاطه في فخ الفتنة، فقد طلب  من إحدى الشيخات، وكانت الأجمل وذات قوام رشيق وشعر طويل، ان تثيره وتحتك  به وتغريه بجميع الوسائل حتى توقع به في فخها  حتى يضحك الجميع ...بخاصة وأن الارتباط بالشيخات بصفة شرعية أو غير شرعية أنذاك  هو نزول إلى الحضيض في ذهن المجتمع  المحافظ جدا الذي يعتبرهن نغزا من الشيطان يجتمع فيه الرقص والغناء والخمر. هكذا كان ولا زال ظن المجتمع بالشيخات وإن كان لا يقام عرسا إلا وكن حاضرات فيه بجمالهن الفتان ولباسهن الكاشف لأجسامهن  المتمايلة على أنغام الموسيقى .
أصر عمي ان تحاصره في فضاء يصعب عليه الخروج منه. كان هدفه  الإيقاع به ليستسلم لغوايتها حتى يخرجه من مدينته الفاضلة بعيدا عن رفقاء السوء فوق هذي الأرض، الآن وانا اتذكر ذلك الحدث استرجعت  لحظة خجل عمي وندمه  لضعف امام انثى ، أما العم العربيد فقد أشفى غليله إذ وجد في فتنة أخيه مبررا لكل لياليه الساهرة  فمضى على حاله لا يُعير اهتماما لنصيحة احد ،قد وقع تحت سلطة  الملذات وجاذبيتها التي انسته كل شيء، حتى نفسه...

وقع كل هذا ليلة ذلك العرس البهيج الذي لا زالت موسيقاه ترن بذاكرتي. لم أكن أعي شيئا مما كان يحاك في عالم الكبار، ولكني كنت أحس بعمي الزاهد فريسة في فخ   إخوته المتفقين  على الإيقاع به 
وهو بدون سلاح أمام حسناء فاتنة تتقن فن الإغراء والملاعبة.

لم يكن صِغر سني يسعفني لفهم ما كان يجري، بل لم أكن أعير له اهتماما كبيرا لأن الأهم بالنسبة لي كان هو مرافقة أبي. ومع ذلك فقد كنت أشاهد الحدث كما لو أنني كنت أمام مشهد من مشاهد السينما يكثر فيه الاعتداء والمقاومة، ويظل المشاهدون مشدوهين أمام هزيمة البطل. لم يستوعب عقلي الصغير في ذلك الوقت ما كان يحصل؛ كنت فقط أستمع لضحك الكبار جالسين في حلَقة وهم يركزون على تسلسل الأحداث.

كنت أتابع كل هذا وأنا طفلة، وأتعجب الآن من حياة الناس التي يمكنها أن تنقلب رأسا على عقب لمجرد لسعة ضمير، بل  أحاول فهم نفوس خلق الله وهي تركض نازفة تحت ثقل الندم حينما يعترف المرء بخطيئته، فيبكي ويتأسف ويتحسر ويطلب المغفرة. ذاك ما حدث لهذا العم الزاهد الذي لم يستطع التحرر أبدا من ماضيه، ولعله كان يلازم المسجد ليهرب من الناس ويتقرب أكثر من خالقه. ولعله كان يحجّ لهذا السبب مرارا، فكنت أتخيله ــ وأنا صغيرة ــ يطوف بالكعبة وهو يبكي أو يتنقل حافيا بين الصفا والمروة ليحس بألم المشي رغبة منه في نسيان ضعفه أمام جمال وإغراء الأنثى، هل كان الخطأ هو السبب  أم فتنة المرأة الشيخة وجاذبيتها التي جعلت المجتمع يرفضها باعتبارها فتنة ؟ لكم تعجبتُ من قوة الرجال التي كانت تستهويني ولكم أشفقت لضعفهم، ولكم تحيرت أمام ضعف المرأة وقوتها الخارقة في الوقت نفسه، ذلك أن المجتمع المتسلط جعلها تبدع في امتلاك الحيلة والجاذبية اللتين جعلتا منها الأقوى في عالم قد يبدو أنه لا زال تحت سيطرة الرجال !

وسط كل مشاهد هذه المسرحية لم ينتبه أحد لتلك الطفلة التي كانت تسكنني والتي كنت أشاهد من خلال نظراتها ما كان يجري وأنا عاجزة عن مقاومة إحساسي بحالات الرعب القاتل التي كانت تتشكل خفية عني ثم تنكشف أمامي كابتسامة مولود جديد.


سميرة مسرار 

.........يتابع

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق