إدارة النص
مريحٌ جداً للمثقفين العرب أن يمارسوا عادة تدخين حشيش المؤامرة
لأنها تظهر المثقف العربي بطلا منتصرا دوما ، كما تظهره أنه غير
مسئول عما حدث من نكبات سياسية واقتصادية ودينية واجتماعية
داخل مجتمعه .
وتدخين حشيش المؤامرة شائع في جميع أوساط المجتمع ، فالغرب
يريدنا متخلفين ، والشرق يريدنا مستهلكين ، وجميعنا مستسلمون
للفكرة جداً ، فإما أن نلقي التهم على الأنظمة سواء كانت ملكية أو
جمهورية أو نلقيها على الغرب والشرق ، مع العلم أن الأنظمة جاءت
إما بإرادتنا أو بسلبيتنا ، ففي الحالتين نحن _ الشعوب _ من جئنا
بالأنظمة ، ولم نحمل أنفسنا مسئولية النهوض بالمجتمع ، واكتفينا
بأن نحمل جهلنا وتخلفنا للحكومات والأنظمة ، ورضينا بما يسمى
بالعقد الاجتماعي المبدئي بين الفرد والدولة ، وهو عقد قديم ولم
يوثق حتى اللحظة ، لأن توثيق العقود بين الفرد والدولة لايتأكد
إلا باستجابة الطرفين للمشاركة في العمل أولا وصياغة العقود ثانيا
والعمل بها ثالثا والمحاسبة بالثواب والردع أخير .
والإجابة عن السؤال تكفي لكي لانتحدث إلا عن أنفسنا : هل
استطاعت ألمانيا واليابان أن يتجاوزا محنة الانكسار والتقسيم
وفرض العزلة والتدمير غير المسبوق في تاريخ البشرية أم لم
تستطع شعوب البلدين أن يتجاوزوا هذه المحنة حتى أصبحتا
في مقدمة الدول المتقدمة ؟ .
كانت المؤامرة على ألمانيا واليابان واضحة جدا ومحسومة ومفروضة
وكان البلدان مدمرين تماماً ، قام الشعبان بإعادة البلدين بقوة وذكاء
وأصبحت اليابان أكبر دولة متقدمة تكنولوجيا واجتماعيا واقتصاديا
وكذا ألمانيا أصبحت أهم دولة في أوربا كلها ، أو ليس كذلك ؟! .
فمهما كانت المؤامرات قوية فإن موقع المتآمر عليه يكون أقوى
حينما ينهض بمسئولياته المجتمعية أولا .
إن الذين همشوا دور الشعر في المجتمع هم الشعراء أنفسهم ،
والذين أضعفوا فن الرواية العربية في وقتنا الحالي هم الروائيون
فحينما لايدافع مبدع عن فنه فهو متخاذل ، ولايستحق أن نصفه
مبدعاً لأنه لم يتحمل مسئوليات منتجه ، تماما مثل الدولة التي
تركت حدودها مستباحة لاتستحق أن توصف بأنها دولة .
ومن الغريب أن ينادي في بلاد المتنبي والبارودي وشوقي وحافظ
ومحمود حسن إسماعيل وهاشم الرفاعي وإبراهيم ناجي وأحمد
رامي وبيرم التونسي وفؤاد حداد وجاهين ونجيب سرور وعبدالرحمن
الشرقاوي وصلاح عبدالصبور ومحمد آدم وعبدالعزيز جويدة وعلي
عمران وفارس خضر وأحمد مرسي وأحمد المريخي وعادل جلال وفاروق جويدة وزينب أبو سنة وبكري جابر ومحمد العبادي
ومحمود حسن عبدالتواب وثروت سليم وعاطف الجندي وعماد قطري ومحمد جاويش وعصام
بدر وعطية شواش ومحمد عبدالهادي وعباس الصهبي وشريفة
السيد وفوزية شاهين وإلهام عفيفي وأمل أيوب ودرويش السيد
ومحمد جمعة وعادل عبدالموجود وعلاء عبدالظاهر وأشرف البنا
وفولاذ عبدالله ومحمد الشهاوي وأحمد سويلم وعبده الزراع
وعبدالقادر عيد عياد وجمال ربيع ومحمد ناجي وعبدالكريم الشعراوي
وياسر قطامش ومصطفى رجب ومحمد سرور وناصر دويدار ومصباح
المهدي ورشا الفوال وهيثم منتصر ومحمد فكري وسيد زكريا وفريد
طه وعبدالرحمن حجاب وسعد عبدالرحمن وأحمد بخيت وعزت
الطيري ,وإبراهيم رضوان وأحمد العميد وعلاء شكر ومحمد الشحات
ووفاء علي وهاني النجار ودرويش السيد وخالد الشاعر ونورا جويدة
وياسمين عبدالعزيز ومحمد الشحات محمد والسعيد عبدالكريم
وهبة الفقي وشيرين العدوي وهاجر عمر وسكينة جوهر وأمير
صلاح وإبراهيم طاحون وعبدالخالق عبدالتواب وحامد عبدالسميع
ومحمد إبراهيم ومحمود السيد وطارق زيادة وكثير جدا غيرهم .
ورغم ذلك نجد من يعلن أن مصر تعيش في زمن الرواية متجاهلا
هؤلاء الشعراء جميعهم ، وهناك أعداد تزيد عليهم بكثير ، وعند
الترشيح للجوائز يرشحون من لايجيد الشعر ، ويصمت الشعراء
جميعهم خنوعاً أو جهلاً أو ما لا أدريه .
هذه مقدمة لإدارة الشعر في مصر ، فالشعر في مصر ملقى على الطرق
والشعراء الحقيقيون في غرفهم المغلقة ، يلقون بنصوصهم من
شباك أمسية أو محرمة ورقية أو همسة على شاشة تلفزيونية ، ثم
يعودون ليستكملوا نومهم الذي لم يكتمل منذ ولادتهم .
هم لايدركون أن حدود القصيدة هي حدود دولة ، وأن محتواها
ثقافة مجتمع وتوجهه ، وأن شكلها ملامح كاتبها وسط مجتمعه ،
وكذا ستطول بي المقدمة ، فالعقبات فوق الحصر ، والدرب طويل
جدا في بلادي مصر ، ورغم ضعف المتربصين تكمن القضية في
صمت الشعراء المظلومين .
كأني لم أقل شيئا ، لأسرع إلى نص الشاعر عباس شكر والذي
يقول فيه : _
كذّابةٌ قد دافت مواعدَها
ما بين معسولٍ ضيفَ واحترقا
وبين مرٍّ على مضاضتهِ
أحلى من الصدق عند من صدقا
مطبوخةٌ بالعينين دعوتها
ما زادت النارُ عندها مرَقا
سقيتها ملحاً كي تكاسره
حلاوةً بالشفاه ..فانطبقا
مذاقها من عبيدِ أحرفها
أدمنت منها الأقلامَ والورقا
شهيّةٌ بالنفوس قد بعثت
ما يشبه الغيمَ فيهِ والبرَقا
عباس شكر عميد الشعراء العرب ، هكذا أطلقت جامعة لبنان وكلية
اللغة العربية جامعة الأزهر بالمنصورة اللقب على الشاعر ، وليتفق
معهما من شاء ، ويعترض معهما من أراد ، لكنه عندي شاعر أكبر من
الألقاب ؛ لأنه يقوم بدور الشاعر المسؤول عن شعره وعن شعر
الوطن العربي جميعه ، يحاول أن ينشر اللغة العربية بأصالتها ليبعد
عنها ما أصابها من أمراض الركاكة والسفاهة والتقعر وغيرها .
ولذ فهو يقدم في نصه كلمات قديمة باستخدامات جديدة ، مثل
كلمة ( داف ) بمعنى اختلط ، ولا يتوقف الشاعر عند حدود دفع
الكلمات من القاع لتبرز في القمة ، بل يستحدث المعاني من المفردات
القديمة ، فالبرق والرعد مخيفان ( أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ
وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ ۚ
وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ ) ، سورة البقرة ، الآية 19 .
لكن الشاعر جعل البرق من محبوبته شهيا ومرغوبا ، فهنا حول
كلمات العذاب إلى كلمات محبة ورحمة ، فالشاعر يؤمن أن الكلمة
حرة ومادة خام طيعة التشكيل ، ويمكن أن نستخدم كلمات الحب
في الكراهية وكلمات العذاب في الرحمة .
بينما الشاعر النجم محمود حسن عبدالتواب يقول في قصيدته
المعنونة بـ ( سفر التوسل ) ، وأظنها أكثر نصوصه شهرة لأنه
دفعها كثيرا ونافح عنها طويلا : _
عشتارُ بينَ فيَافِي الأرضِ تنْتَقِلُ
خمْسونَ قرْناً ولمْ يفتِكْ بهَا الملَلُ
راحتْ غُنَيْماتُهُ الرَّاعِي بِلَا ثَمَنٍ
لِحِضْنِ عِشْتَار خُبْزُ الأرضِ يرْتَحِلُ
أَلَمْ يَكْنْ رَاهِبُ الرُّهْبَانِ يَعْرِفُهَا
حتَّى تَلَعْثَمَ لَا حَرْفٌ ولَا جُمُلُ
يَا فِتْنَةَ عَرَجْتِ بِالقَلْبِ جامِحَةً
والوهْمُ هَاءَ وحُورُ العينِ تَكْتَحِلُ
أَوْهَمْتِهِ أنَّهُ سُلْطانُ مَمْلَكَةِ
حتَّى اسْتُفِيقَ فَلَا نُوقٌ ولَا جَمَلُ
غَذَوْتِهِ سُحُباً كالشهْبِ مُحْرِقَةً
والآنَ يْمْسِي ولُبُّ الوَحْىِ يَشْتَعِلُ
يَا كِسْرَةَ الخُبْزِ هلْ يمْضِي بِطاوِيَةٍ
سيفُ المُعزِّ وتَبْنِى مجْدَهَا الدُّوَلُ
أوْ يذْبَحُ العَرَبِيُّ الآنَ نَاقَتَهَ
تِلْكَ الوَحيدَة مضْيافاً ويَرْتَجِلُ
فِى مَنْجَنِيقِكَ يا حَجَّاجُ أسْئِلَةٌ
تَلهُو بِثَابِتِنَا ليلاً ...... وَتَغْتَسِلُ
يا أيُّهَا القَلَمُ المغْروسُ فى رِئَتِي
اكْتُبْ فَإنَّ سُجُونَ القَهْرِ ترْتَحِلُ
إنَّ المُلُوكَ وقدْ كانُوا أَكَاسِرَةً
رَاحُوا وكَانَتْ جَمُوعُ الشَّعْبِ تَبْتَهِلُ
محمود حسن عبدالتواب أمير القوافي كما يلقبه بعض النقاد ، وهو
شاعر موهوب بطبعه وصاحب تقنية لا يشابهه شاعر فيها ، يدرك
أن التاريخ ليس ماضيا وإنما التاريخ معلم مخلص وصادق ، فيرتكز
في نصه على ملحمة تاريخية هي ملحمة جلجامش أو كلكامش كما
يريد البعض ، ونصه زفرة مهموم ، فقلمه مغروس في رئته ، فلازال
منجنيق الحجاج يضرب في عقولنا أسئلة ليست لها إجابة ، فالحجاج
بن الدنيا كعشتار ، والسيطرة للأقوياء دون عقل ضيعت عقول
الجموع من الشعوب ، وحينما يموت السيد يتأسف العبد على
زمان المذلة ، وكأنه يقول بلساني ولسان الجموع ، دوما نندم على
من ضيعوا عقولنا ، فالنص يسكب حبر التاريخ على ورق الحاضر
ويخبرنا أننا لم نتغير منذ أكثر من خمسين قرن من الزمان ، فهل
سنتغير ؟ إننا لازلنا نبتهل مع الشعوب .
ويأتي نص الشاعر عبدالعزيز جويدة كراهب في صومعة العشق
حيث يقول : _
في كلِّ طَيفٍ يا حياتي ألمحُكْ
بالرَّغمِ مِن صَخَبِ الوجودِ
وهذه الضوضاءْ
نَغَمًا جَميلاً يَستَبيحُ مَسامعي
نَبعًا تَفجَّرَ أغرقَ الصحراءْ
تأتي طيورُكِ كي تَحطَّ بأعيُني
وعلى شِفاهي تَعزفُ الأصداءْ
ما كنتُ أعرِفُ كيفَ إحساسٌ بَرَقْ
أو أنْ أُخاطِبَ زهرةً حسناءْ
حتى نَزَلتِ بكلِّ حبِّكِ داخلي
فنطقتُ باسمِكِ أوَّلَ الأسماءْ
طوفي علىَّ وزَمِّليني داخِلَكْ
أنا قادمٌ مِن ألفِ ألفِ شِتاءْ
رَجْعُ الصقيعِ بداخلي يَغتالُني
عَصْفُ الرياحِ مَرارةُ الأشياءْ
لا تُغلِقي الأبوابَ إني قادمٌ
طيفًا يَضُمُّكِ في كِيان كِياني
عجزي عنِ التعبيرِ ليسَ جِنايةً
أغلى الحديثِ إذا مَنعتُ لساني
يا بُؤرةَ الضوءِ النَّديَّةَ حاولي
لو مرَّةً أن تَسكني شِرياني
ذوبي بهِ ..
سيري بِدمِّي طفلةً
في داخلي البَدَنُ العليلُ الفاني
أرجوكِ لا تتمهَّلي وتأمَّلي
كي تَرقُبي مِن داخلي بُركاني
وتَحسَّسِي في داخلي ظَمئي
شعوري وَحشَتي حِرماني
كلُ الذي أخشاهُ في دنيا الهوى
هو أنَّ قلبَكِ مرَّةً يَنساني
عبدالعزيز جويدة سيد شعراء العرب ، وهو لقب من وجهة نظري
صغير على الشاعر ؛ حيث إن قصيدته العصماء في مدح سيد
الرسل وخاتم الأنبياء ( أحبك يارسول الله ) قد تجاوزت في المشاهدة
عدد الثلاثين مليون مشاهدة ، وهذا العدد لم تحصل عليه قصيدة
عربية عبر تاريخ الشعر العربي ، بالإضافة إلى أن موسوعة الشعر
العالمي الرسمية قد سجلت له أكثر من أربعمائة وثنتين وأربعين
قصيدة في سجلها العالمي ، وهذا رزق نغبطه عليه .
وهذا النص من نصوص العشق الرمزية التي تجاوزت مرحلة التصوف
في الحب ، فالتصوف في العشق والحب ذائب في محبوبته ، ثاو في
محراب عشقها ، بينما تصوف عبدالعزيز جويدة يفتح شاريينه
لتدخل محبوبته وتسري في دمه لتتأمل براكين العشق داخله ،
والغريب أنه لا يطالبها أن تطفئ هذه البراكين ، بل سيسعده أن
تراها ليطمئن قلبها فيمطئن قلبه ، لأن كل قلق الشاعر يتمثل
في خوفه أن تنساه محبوبته في يوم ما .
تلكم إشارات تغني عن العبارات وليس تحليلا لهذه النصوص ، لكنه
جهد المقلين ، وعلى الله السداد .
دكتور رمضان الحضري
القاهرة في الخامس من فبراير 2021 م
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق