شاعرية الاستبطان
في
رواية " امرأة الليل " للروائية // فتحية نصري
*********
إذا كان الإصرار على الصغيرة كبيرة فما بالنا بالإصرار على الكبيرة التي
يقترفها النقد الأدبي العربي منذ مايزيد عن نصف قرن ، وبالتحديد
منذ ترك طلاب العميد منهجه وركنوا إلى استيراد النظريات المعلبة
من أمريكا والغرب دون ترويضها لملائمة طقس اللغة العربية ، فنجد
معظم النقاد العرب لايقدمون نقدا سوى تفسيرات للنظريات الغربية
فلن يخلو كتاب في النقد العربي من ذكر جنيت أو بارت وجولدمان
ولوكاتش وجويس وباختين وتشومسكي ودوسوسير وجاكبسون
وغيرهم ، وهذا لايعني إلا شيئاً واحداً ألخصه في جملة واحدة هي
( لايوجد نقد عربي ) ، على الرغم أن الإبداع العربي متفوق كثيراً
في شتى مجالاته ، فالشعرية العربية مؤثرة في العالم حتى اللحظة
وهناك شعراء منذ شوقي وحتى اللحظة لاحصر لهم ، أسسوا
لشعرية عربية عالمية ، وفي الرواية يعترف العالم كله بروايات
قوت القلوب والحكيم ونجيب محفوظ وإدريس وغيرهم ، وفي
النقد الأدبي اعترف العالم كله بالعميد وإبراهيم أنيس والمقدسي
وغنيمي هلال وتليمة وغيرهم ، حتى جاء نقلة النقد الأوربي
وقاموا بدورهم في تسويق الثقافة الغربية على حساب الثقافة
العربية ، فضيقوا رقعة النقد العربي ومهدوا الأرض للنقد الغربي
فحدث مانراه ، فأصبح المبدع العربي يحب أن يكون اسمه تابعا
لأي ناقد غربي أو نظرية غربية .
ليست هذه نقدمة منطقية لما أريد ، لكنه زفرة مهموم وعبرة مكلوم
يشتم منها الناقد العربي الحقيقي رائحة كبد يحترق ، فلم تعد الرواية
العربية في مفترق طرق ، بل لها تعالقات بالسرد العالمي ، وتسبق
الرواية العربية مثيلاتها في النوع بأن أداتها لغة مغرقة في التاريخ
واسعة في المفردات ، لها إمكانات خرافية لمن يتمكن منها .
ويبدو هذا جليا في رواية ( امرأة الليل ) للروائية العربية / فتحية
نصري ، حيث تعزف الكاتبة على وتري شعرية اللغة وشعورية
الإنسان ، وهذا ماجعلني أختار عنوان الدراسة ( شاعرية
الاستبطان في رواية امرأة الليل ) ، فالكاتبة لا تتبع أحداثاً
قصصية بقدر تتبعها لشعور امرأة منشطرة إلى نصفين ، وعقلها
يقففي المنتصف تماما بين ماوقع وما يجب ، وبين ماكان وما ستفعله
فعقلها في قمة الشرف ، وجسدها في حثالة التدنيس ، أما اختيار
اسم ( نجمة ) فهو قمة الوعي لحظة الكتابة ، فالنجوم مكانها مرتفع
لايصل إليها أحد إلا بالنظر أو بالميكرسكوب الفلكي الجبار ، بينما
أشعتها تتساقط على لماء الطهور وفي الوحل العفن ، والفتاة مكانها
عقلها وضياؤها سمعتها التي نزلت في الماء وفي الوحل .
قد أكون ظلمت نفسي ، ولكن عندما أستجمع ذاكرتي المتقرحة
أتأكد من أن أمثالي قد خلقوا ليضيئوا ليل أرقكم ببقايا النبض
وبتلف األعصاب.
ماذا تعرفون عن قسوة الفقر وألم الجوع؟ هل جربتم الصراع
الطويل مع شبحه القاتل ؟ إنه لا يترك من الجسم سوى ظلال رقم
منسي في المستشفيات المهملة.
تباً َّ لهذه الدنيا تدير ظهرها للمتعبين، وترقص طرباً على طبول
الفرح لكل ظالم اعتنق الفساد مذهباً سرياً َّ يتعبد داخل ليل أرقه
ويعد قتلاه .
هل أبصق على كل يوم لم أضع فيه حداً لحياتي ؟ حتى لا أجعلها
تغرز في أحشائي أنيابها البغيضة . َّ ككل المتعبين انتظرت طويلا
سويعات فرح مغمـوسة بدموع اليتم وقهر الأحزان، وطال انتظاري
على وقع كلمات عابرة طالما رددتموها :
سنزرع البسمة على قسمات الوجوه البريئة
وسينبلج صباح ال مكان فيه المتهان األطفال وسـ ..
بينما تموت البسمات الحالمة خلف الأبواب المقفلة .
سأنتقم من تواطئي ضد نفسي حتماً .
لماذا أخفيت ُمعالم الجريمة وانسحبت في هدوء ؟ لماذا لم أجعل
كل من طمس أدلة برائتي يدفع الثمن باهظاً ؟! ُ لقد تمكنت من
امتلاك رقابكم ولن تفلتوا من شرنقتي هذه المرة .
ستطلبون الصفح والغفران، ولكن هيهات فات أوان الندم الكاذب
الذي تدعونه حتى تفلتوا من العقاب. هل تسامحتم يوماً مع
طفولتي المذبوحة على شرف خطاياكم؟ هل يمكن للزمن القاسي
أن يغفر انحطاطكم ؟ أي قسوة تعايشت معها يا نجمة؟ ولماذا اجترار ذكريات تفتح جراحاً متقرحة ما اندملت أبداً.. ِ لماذا عليك التعايش
مع نيران المنفى والذكريات . ُ ألا كم تمنيت أن أفيق ذات صباح على
وقع كارثة تجرف هذه الربوع . ألا من بركان خامد يلتهم قرية الجبن
والانحطاط؟!
أي حياة تُعاش في بلدة قاحلة طبعت النفوس بقسوتها وجبروتها فتطبعوا بجفاف الطبيعة الحاقدة ، فلتذهبوا إلى جحيم
الموت والاندثار لربوع الأشباح التي هامت أرواحها في منفاها.
ولمدينتي ألف منفى ، فلماذا تستقبلون الكوارث في صمت
وتصرون على التعايش المقنع مع ربوع تنكفئ على جراحها،
وتجترون فروسية جبل عليها الأجداد بينما تبرأ من ذكراها
الأحفاد؟ حاولت أن أتصالح مع ذلك الماضي اللعين ، وأن أعيش
دون حقد أو انتقام لكنكم طاردتم خطاياي وملأتم الآفاق بالأكاذيب
التي لا تنتهي فعاهدت طفولتي المذبوحة داخل دكان قديم
بالانتقام.. تغذون حياتكم بالشائعات والأحقاد)، الرواية صـ 17،18.
ويعتبر منهج الاستبطان في علم النفس من أقدم المناهج
المستخدمة فقد بدأ منذ أفلاطون ولم يتجلى إلا عند عالم النفس
فونت في القرن الثامن عشر، ويقصد بالاستبطان الكشف عما دار في
النفس من أحداث بعيداً عن أية مؤثرات خارجية، وهذاما قصدت به
شعور الإنسان، فالكاتبة شاعرة بنفس مستوى الروائية، حيث
تستخدم اللغة الشعرية في السرد لتقديم الأحداث، فمنذ الكلمة
الأولى في المقطع حين تقول (الآن أستجمع ذاكرتي) هذا حديث
وحدث استبطاني ، وتضم بعدها كلمة ( المتقرحة ) ليتحول الحدث
إلى شعر ، فكلمة المتقرحة تعني الذاكرة التي تمتلك أفكارا جديدة غير
مسبوقة لتدل على حالة سمو الكاتبة ، وكلمة المتقرحة تعني الذاكرة
المجروحة والتي تختزن آلاما وعللا ، فتدل على الحالة النفسية
السيئة للكاتبة ، فيظهر لنا الصوت الثالث للكلمة ، وهذا مادفعني
للقول بأن فتحية نصري شاعرة وروائية بدرجة متساوية ، فلايغلب
سردها شعرها ولا العكس ، ولذلك فإنها تعمل على توهج المفردة
بحيث تستخدمها في أرقى استخدام لها ، محاولة أن تجعل من النص
الأدبي بيانا أدبيا ، يقدم توجهات جديدة ، مبنية على أحداث سابقة ،
والبناء على أحداث بضمير ( الأنا ) بناء لايحتمل التشكيك ، وبالتالي
فهي ذات قدرة على صناعة الإيهام بالتصديق .
كان بودي أن أقدم تفصيلات عن الشخصيات والاحداث في الرواية
بيد أن الرواية لازالت تحت الطبع ، وقد شرفتني الكاتبة العربية /
فتحية نصري بقراءة الرواية قبل الطبع ، وذا يستحق شكرا كثيرا مني
لها على ثقة نبيلة من عربية أصيلة ، فوجدت أن تقديم تفصيلات
عن حركة الرواية وعلاقات الاتصال والانفصال في النص والرؤية
والتبئير ووجهة نظر السارد قد تتسبب في أضرار ما للنص وكاتبته
ففضلت أن يكون الحديث خاصا باللغة ؛ حيث إن اللغة مشاع ومادة
خام لكل من يريد أن يستخدمها ، باعتبارها أداة لكل ناطق بالعربية ،
وكذا لمحة صغيرة عن ربط الحالة الشعورية باللغة الشعرية .
ويستحق الشاعر العربي الكبير / فايز أبوجيش شاعر سوريا والعرب
من تحية خاصة لحسن اختياره للنصوص التي يتفضل بنشرها في
المركز العربي للمراجعات والاستشارات الأدبية وخدمات ماقبل الطباعة، فجزيل شكري له .
د / رمضان الحضري
القاهرة في 15 من يناير 2021 م .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق