تطور الخطاب الشعري في الجزيرة
رؤية في شعر أحمد آل مجثل الغامدي
************
سيطر الهجامة على معظم المنابر الشعرية في وطننا العربي ،
وحجبوا قناديله ودره عن عيون العامة ، وماكان الوطن العربي
في حاجة للشعر عبر تاريخه الطويل كما هو حاله الآن ، فالمواطن
العربي يحتاج الشعر في الوقت الحالي أكثر من حاجته للطعام
والشراب ، حيث إن الشعر هو الميزان الحقيقي لاتزان الشعور
والوجدان ، فحينما يصلح حال الشعر لن نجد أغنية ضارة بالذوق
، ولن نسمع كلمة خادشة للحياء ، ولن يثير جدال بين متجادلين
ترى كيف كان يعيش العربي حينما يسمع حسان مادحا للرسول ،
ويسمع ابن أبي ربيعة يتغزل مازحا وضاحكا ، ويسمع جميل بن
معمر يتغزل ملتاعا ومشتاقا ، ويسمع المتنبي مفاخرا بعلو همة .
إن الشعر البليغ ، حالة من حالات التسامي حيث تتحول المفردات
الصلبة إلى حالة من حالات النشوة الغازية دون المرور بالحالة
السائلة للمفردة .
والخطاب في أبسط تعريف عالمي له هو طريقة التقديم ، فالخطاب
السياسي طريقة تقديم معلومات سياسية ، والخطاب الديني طريقة
عرض الدين بصورة مفهومة ، والخطاب الإشهاري طريقة عرض
السلعة ووصفها للمشتري ، والخطاب الشعري طريقة تقديم الشعر
للمتلقي .
وقد أخذت كلمة الخطاب في لغتنا العربية معناها من استخدامها
اللغوي المتعارف عليه ، فيرى ابن منظور في تعريف الخطاب
( مراجعة الكلام ، وقد خاطبه بالكلام فهما يتخاطبان ) ،
وقريبا منه ماجاء به الكفوي في معجم الكليات حينما عرّف الخطاب
بقوله ( الكلام الذي يقصد به الإفهام ) ، فمن شرط الخطاب أن
يكون مفهوما .
فالخطاب الشعري يكون متواليات شعرية صادرة من مرسل
( الشاعر ) إلى مستقبل ( السامع / القارئ ) .
فالخطاب الشعري = شاعر + شعر + قارئ/ سامع .
والشعر = نثر + موسيقا ، فإذا أردنا استطراد المعادلة
الخطاب الشعري = شاعر+ نثر + موسيقا + قارئ/ سامع
وللشعرية تعريفات قديمة من ابن طباطبا العلوي وقدامة بن جعفر
ومن بعدهما الجرجاني والقرطاجني وغيرهم ، ومعظمهم يقول عن
الشعر أنه الكلام الموزون المقفى المفهوم ، ما عدا الجرجاني الذي
أضاف لهم أن يكون الشعر مؤثرا في نفس سامعه .
وجاءت التعريفات الجديدة للشعرية على يد أدونيس ونازك الملائكة
والحق أن تعريف أدونيس للشعر لايمت للشعر بصلة رغم شهرة
هذا التعريف واندفاع بعض أساتذة الجامعات خلف التعريف تفسيرا
وتنظيرا ، مما جعل النقد الأدبي لازال غرّا لا يمكل مقومات الحكم
على القالات ، بل يأخذ الكلمات المرتبطة بأشخاص معروفين أو
أصابتهم دولهم ومكنتهم بشهرة لا ترتبط بواقع الإبداع ، يقول
أدونيس في تعريف الشعرية ( الشعر رؤيا والرؤيا بطبيعتها
قفزة خارج المفاهيم القائمة ) ، وهذا القول ينطبق على السباكة
والسياسة والتجارة وكل العلوم والفنون .
فأزعم أن النقد العربي الحديث لم يقدم شيئا سوى ما قدمه عميد
الأدب والثقافة العربية الدكتور طه حسين ، وغنيمي هلال وياسين
المقدسي الفلسطيني ومحمد مندور وأخيرا عبدالمنعم تليمة .
ويظل النقد العربي من المحيط للخليج مرهونا بمجموعة من
المعلبات النقدية الغربية التي لاتصلح أن تقدم شيئا لأدبنا
العربي إلا كما تقدم إسرائيل للشعب الفلسطيني .
فالخطاب الشعري العربي القديم لم ينتبه لعميد الفكر العربي القديم
أبو عثمان عمرو بن بحر بن محبوب بن فزارة الليثي الكناني
البصري ، الذي عرف الشعر بأنه القول البليغ المؤثر ، والذي
يستخدم فيه كاتبه البيان والدلالة ، فيقول الجاحظ : _
( على قدر وضوح الدّلالة وصواب الإشارة، وحُسن الاختصار،
ودقّة المدخل، يكون إظهار المعنى، وكُلّما كانت الدّلالة أوضح
وأفصح، وكانت الإشارة أبين وأنور، كان أنفع وأنجع ) .
وقد اعتمد الخطاب الشعري العربي القديم على الغنائية في
الموسيقا والدلالة والتشكيل ، وعلى رصد الحياة بتمزقها وتعدد
موضوعاتها في النص الشعري ، فكانت المتواليات اللغوية في
القصيدة تتحدث عن موضوعات متعددة وربما متناقضة ، فلا رابط
بينها سوى الموسيقا المتواترة أو موسيقا الروي والقافية أو
موسيقا الحروف والتقابلات .
وقد وقعت عيني على شعر من لم أره ولم أعرفه إلا من خطابه
الشعري ، وهو شاعر الجزيرة / أحمد آل مجثل الغامدي السعودي
تعرفت على شعره منذ سنوات قصيرة لا تتجاوز أصابع اليد ،
وحاولت مرارا أن أفتش في سطوره لتميزها عما يدور في ساحة
ما نطلق عليه مشهد الشعر العربي الحاضر ، فالنصوص به تمكن
من استخدام الأدوات ، ولا تستطيع الأدوات ان تقيم فناً شعر سوى
على أرض شعرية هي الموهبة ، فالموهبة أرض الشعر التي يمكننا
أن نؤسس عليها نصا ، والذين يؤسسون نصوصا على غير موهبة
فهم يقيمون قصرا من الوهم ، فمن سمع كأنه لم يسمع ، ومن رأى
كأنه لم ير ، كمن يستقبل الريح وهو مختبئ في استوديو عازل
للصوت ، وهذا مايحدث حينما نسمع كلاما موزونا يظنه كاتبه
أنه شعر ، فإذا ماقال فرح من هم على شاكلتي حينما يصمت ،
وصفقوا لصمته لا لكلامه .
يقول الشاعر / أحمد آل مجثل في قصيدة له بعنوان :
مَصارع العُشّــاق ) )
**********
طربَ الفــؤاد بلهـفـة المشتــاق
وتذكرت بَعضُ الحروف رفاقي
وتسارعت نحو القَريض أناملي
كي تـكـتسي أبـيـــاتـهـا أوراقي
وتجـمّلت ورداً وبعـض جِـنانها
ظمأى تبيــتُ فهـــاكــمُ أحـداقي
يا حــضرةَ الأحباب إني عاشق
مثل السنابل نبضها أشـــــواقي
يا أعذب النّغــمات في قاموسها
ردّوا إليّ مصــارع العُـــــشاق
ردّوا إلى قــــلب المُتيّم روحه
وتأملوا عــــــند البُعــاد فراقي
ما كنت أحسب أنّ مَن أحببتهم
يوماً تضـــيق بحـالهم آفـــاقي
فلطالما أسرجت ليل همومهم
ورتـقـت من بعـد الوصـال فتاقي
ولطالما أبكت حُروفُ قصائدي
بعـض العـيون فزادها إشفاقي
لو كان قـلبي جُـنّةً لوهــــبتها
دمعي وإن ضنّوا عليّ رفاقي
********
ولقد ذكرتني القصيدة بقصيدة حافظ إبراهيم التي قال فيها :
كم ذا يكابد عــاشـــــق ويلاقي
في حب مصر كثيرة العـــــشاقِ
إني لأحملُ في هواك صـــــبابة
يامصر قد خرجت عن الأطواقِ
حافظ إبراهيم من أوائل الذين حاولوا أن يعيدوا الشعر العربي
لمكانته القديمة في العصر العباسي أزهى عصور الشعر العربي
القديم ، ولذا فهو يعود بالشعرية العربية إلى واقعها القديم ،
بينما أحمد آل مجثل يخترع واقعا جديدا للشعرية العربية من خلال
محاولاته أن يجعل الشعرية العربية بخصوصية عربية وصفات
وصور إنسانية ، فإذا ترجمنا قصيدة حافظ إبراهيم للغة غير
العربية فلن يهتم أو يطرب لها أحد ، بينما إذا ترجمنا قصيدة
أحمد آل مجثل للغة أخرى حتى لو كانت اللغة الصينية فسوف
يجد فيها القارئ فهما للحياة ، ليست لحياة العربي فقط ، بل
لحياة الإنسان عامة على الكرة الأرضية ، وهذا الوعي في
نص آل مجثل يرتبط بحياتنا التي اختلفت عن حياة حافظ إبراهيم
فلم تعد هناك فكرة خاصة بوطن ، ولا ثقافة خالصة لمجتمع ، بل
ربما انتهي من صلاتي وقيامي لأقرأ ما درا في العالم كل من حولي
حيث أصبح العالم كله محدد بمساحة 6 بوصة تقريبا ، وهو حجم
الهاتف الذي يحمله الإنسان في يده ، فكل منا يحمل في يده العالم
كله ، فحينما اشتاق حافظ إبراهيم لمصر وهو شوق يدل على
الانتماء والحب لوطنه ، تشتاق حروف أحمد آل مجثل ، وشتان
بين شوق الحروف الذي نتج عن شوق قائلها ، وبين شوق القائل
الذي ربط الحياة بذاته ، منكفئا على داخله .
والصورة الجمالية عند حافظ إبراهيم مرتبطة تماما بالشعور العربي
والواقع المعيش ، فهو يفرح من الصفات الكريمة ، كما يفرح
الغريب بعودته إلى دياره ، نعم صورة جميلة واقعية ، لكن شاعر
الجزيرة يفصل هذا الواقع ، فلم تعد العموميات مشكلة الشعر ، بل
التفاصيل الصغيرة التي يلتقطها الشاعر من حوله أو من ذاته ،
فأنامله تجري تجاه الشعر ، وكأن الأنامل قد وعت وشعرت بما
يشعر به صاحبها ، فأصبحت شاهدة وسامعة ، وعليها أن تتحرك
بوجدانها عسى أن يتطابق الوجدنان ، وكذا الروح ليست في الجسد
كله لكنها في القلب ، وتحديد الروح للقلب شيء مثير للغاية إذا ما
وعينا أن القلب موقع الشعور وأن الروح موطن الحياة ، فالشعر
عند آل مجثل هو حياة القلب أو شعور الحياة أو حياة الشعور .
حتى مفردات القافية والروي أكثر صوتية عند حافظ إبراهيم ،
ولكنها أكثر ألما وتوجعا عن أحمد آل مجثل شاعر الجزيرة .
*********
يقول الشاعر السعودي / أحمد آل مجثل في نص بعنوان
( علّ وربما ) نشره أمس على صفحته الخاصة بموقع
التواصل الاجتماعي
*******
ويَموتُ
بينَ شِفاهِنا من عشقنا
وَلَـهٌ يحاكي الوَجنتَين مِن الظّما
وتنامُ
في أوجاعِنا بجراحنا
لُغةُ : لعلّ المُتعَبينَ وربّـمـــا
وأكونُ
يومَ رواحِنا في شوقنا
قمــحاً توضــأ ديمـةً وتَيمّــما
وتَعودُ
بَينَ حصادِنا ضحكاتنا
عــطـراً تَنفّسَ مـرّةً أو همهَما
وأصوغ
حين غنائنا ببواحنا
لحــناً تخــضّب رقّــةً وتبــسّما
وتتيه
في آفاقنا تنهيدة
فتسابق الغيث العَميم إذا همى
تمضي
بنا الأرواح تولد شهقةٌ
تلقى الذي تحت الرماد تفحّمـا
**********
لازالت الدرب في أولها عسى الله أن يقدرني لاستكمل وجهة
نظري في شعر هذا الشاعر العربي المؤثر في المشهد الشعري
تأثيرا حقيقيا ، وسوف أتم الدرس في اللقاء القادم فقد أطلت
على أحبابي القراء وهم أغلى عندي مني .
***********
د / رمضان الحضري
القاهرة في 19 من فبراير 2020 م
********
رؤية في شعر أحمد آل مجثل الغامدي
************
سيطر الهجامة على معظم المنابر الشعرية في وطننا العربي ،
وحجبوا قناديله ودره عن عيون العامة ، وماكان الوطن العربي
في حاجة للشعر عبر تاريخه الطويل كما هو حاله الآن ، فالمواطن
العربي يحتاج الشعر في الوقت الحالي أكثر من حاجته للطعام
والشراب ، حيث إن الشعر هو الميزان الحقيقي لاتزان الشعور
والوجدان ، فحينما يصلح حال الشعر لن نجد أغنية ضارة بالذوق
، ولن نسمع كلمة خادشة للحياء ، ولن يثير جدال بين متجادلين
ترى كيف كان يعيش العربي حينما يسمع حسان مادحا للرسول ،
ويسمع ابن أبي ربيعة يتغزل مازحا وضاحكا ، ويسمع جميل بن
معمر يتغزل ملتاعا ومشتاقا ، ويسمع المتنبي مفاخرا بعلو همة .
إن الشعر البليغ ، حالة من حالات التسامي حيث تتحول المفردات
الصلبة إلى حالة من حالات النشوة الغازية دون المرور بالحالة
السائلة للمفردة .
والخطاب في أبسط تعريف عالمي له هو طريقة التقديم ، فالخطاب
السياسي طريقة تقديم معلومات سياسية ، والخطاب الديني طريقة
عرض الدين بصورة مفهومة ، والخطاب الإشهاري طريقة عرض
السلعة ووصفها للمشتري ، والخطاب الشعري طريقة تقديم الشعر
للمتلقي .
وقد أخذت كلمة الخطاب في لغتنا العربية معناها من استخدامها
اللغوي المتعارف عليه ، فيرى ابن منظور في تعريف الخطاب
( مراجعة الكلام ، وقد خاطبه بالكلام فهما يتخاطبان ) ،
وقريبا منه ماجاء به الكفوي في معجم الكليات حينما عرّف الخطاب
بقوله ( الكلام الذي يقصد به الإفهام ) ، فمن شرط الخطاب أن
يكون مفهوما .
فالخطاب الشعري يكون متواليات شعرية صادرة من مرسل
( الشاعر ) إلى مستقبل ( السامع / القارئ ) .
فالخطاب الشعري = شاعر + شعر + قارئ/ سامع .
والشعر = نثر + موسيقا ، فإذا أردنا استطراد المعادلة
الخطاب الشعري = شاعر+ نثر + موسيقا + قارئ/ سامع
وللشعرية تعريفات قديمة من ابن طباطبا العلوي وقدامة بن جعفر
ومن بعدهما الجرجاني والقرطاجني وغيرهم ، ومعظمهم يقول عن
الشعر أنه الكلام الموزون المقفى المفهوم ، ما عدا الجرجاني الذي
أضاف لهم أن يكون الشعر مؤثرا في نفس سامعه .
وجاءت التعريفات الجديدة للشعرية على يد أدونيس ونازك الملائكة
والحق أن تعريف أدونيس للشعر لايمت للشعر بصلة رغم شهرة
هذا التعريف واندفاع بعض أساتذة الجامعات خلف التعريف تفسيرا
وتنظيرا ، مما جعل النقد الأدبي لازال غرّا لا يمكل مقومات الحكم
على القالات ، بل يأخذ الكلمات المرتبطة بأشخاص معروفين أو
أصابتهم دولهم ومكنتهم بشهرة لا ترتبط بواقع الإبداع ، يقول
أدونيس في تعريف الشعرية ( الشعر رؤيا والرؤيا بطبيعتها
قفزة خارج المفاهيم القائمة ) ، وهذا القول ينطبق على السباكة
والسياسة والتجارة وكل العلوم والفنون .
فأزعم أن النقد العربي الحديث لم يقدم شيئا سوى ما قدمه عميد
الأدب والثقافة العربية الدكتور طه حسين ، وغنيمي هلال وياسين
المقدسي الفلسطيني ومحمد مندور وأخيرا عبدالمنعم تليمة .
ويظل النقد العربي من المحيط للخليج مرهونا بمجموعة من
المعلبات النقدية الغربية التي لاتصلح أن تقدم شيئا لأدبنا
العربي إلا كما تقدم إسرائيل للشعب الفلسطيني .
فالخطاب الشعري العربي القديم لم ينتبه لعميد الفكر العربي القديم
أبو عثمان عمرو بن بحر بن محبوب بن فزارة الليثي الكناني
البصري ، الذي عرف الشعر بأنه القول البليغ المؤثر ، والذي
يستخدم فيه كاتبه البيان والدلالة ، فيقول الجاحظ : _
( على قدر وضوح الدّلالة وصواب الإشارة، وحُسن الاختصار،
ودقّة المدخل، يكون إظهار المعنى، وكُلّما كانت الدّلالة أوضح
وأفصح، وكانت الإشارة أبين وأنور، كان أنفع وأنجع ) .
وقد اعتمد الخطاب الشعري العربي القديم على الغنائية في
الموسيقا والدلالة والتشكيل ، وعلى رصد الحياة بتمزقها وتعدد
موضوعاتها في النص الشعري ، فكانت المتواليات اللغوية في
القصيدة تتحدث عن موضوعات متعددة وربما متناقضة ، فلا رابط
بينها سوى الموسيقا المتواترة أو موسيقا الروي والقافية أو
موسيقا الحروف والتقابلات .
وقد وقعت عيني على شعر من لم أره ولم أعرفه إلا من خطابه
الشعري ، وهو شاعر الجزيرة / أحمد آل مجثل الغامدي السعودي
تعرفت على شعره منذ سنوات قصيرة لا تتجاوز أصابع اليد ،
وحاولت مرارا أن أفتش في سطوره لتميزها عما يدور في ساحة
ما نطلق عليه مشهد الشعر العربي الحاضر ، فالنصوص به تمكن
من استخدام الأدوات ، ولا تستطيع الأدوات ان تقيم فناً شعر سوى
على أرض شعرية هي الموهبة ، فالموهبة أرض الشعر التي يمكننا
أن نؤسس عليها نصا ، والذين يؤسسون نصوصا على غير موهبة
فهم يقيمون قصرا من الوهم ، فمن سمع كأنه لم يسمع ، ومن رأى
كأنه لم ير ، كمن يستقبل الريح وهو مختبئ في استوديو عازل
للصوت ، وهذا مايحدث حينما نسمع كلاما موزونا يظنه كاتبه
أنه شعر ، فإذا ماقال فرح من هم على شاكلتي حينما يصمت ،
وصفقوا لصمته لا لكلامه .
يقول الشاعر / أحمد آل مجثل في قصيدة له بعنوان :
مَصارع العُشّــاق ) )
**********
طربَ الفــؤاد بلهـفـة المشتــاق
وتذكرت بَعضُ الحروف رفاقي
وتسارعت نحو القَريض أناملي
كي تـكـتسي أبـيـــاتـهـا أوراقي
وتجـمّلت ورداً وبعـض جِـنانها
ظمأى تبيــتُ فهـــاكــمُ أحـداقي
يا حــضرةَ الأحباب إني عاشق
مثل السنابل نبضها أشـــــواقي
يا أعذب النّغــمات في قاموسها
ردّوا إليّ مصــارع العُـــــشاق
ردّوا إلى قــــلب المُتيّم روحه
وتأملوا عــــــند البُعــاد فراقي
ما كنت أحسب أنّ مَن أحببتهم
يوماً تضـــيق بحـالهم آفـــاقي
فلطالما أسرجت ليل همومهم
ورتـقـت من بعـد الوصـال فتاقي
ولطالما أبكت حُروفُ قصائدي
بعـض العـيون فزادها إشفاقي
لو كان قـلبي جُـنّةً لوهــــبتها
دمعي وإن ضنّوا عليّ رفاقي
********
ولقد ذكرتني القصيدة بقصيدة حافظ إبراهيم التي قال فيها :
كم ذا يكابد عــاشـــــق ويلاقي
في حب مصر كثيرة العـــــشاقِ
إني لأحملُ في هواك صـــــبابة
يامصر قد خرجت عن الأطواقِ
حافظ إبراهيم من أوائل الذين حاولوا أن يعيدوا الشعر العربي
لمكانته القديمة في العصر العباسي أزهى عصور الشعر العربي
القديم ، ولذا فهو يعود بالشعرية العربية إلى واقعها القديم ،
بينما أحمد آل مجثل يخترع واقعا جديدا للشعرية العربية من خلال
محاولاته أن يجعل الشعرية العربية بخصوصية عربية وصفات
وصور إنسانية ، فإذا ترجمنا قصيدة حافظ إبراهيم للغة غير
العربية فلن يهتم أو يطرب لها أحد ، بينما إذا ترجمنا قصيدة
أحمد آل مجثل للغة أخرى حتى لو كانت اللغة الصينية فسوف
يجد فيها القارئ فهما للحياة ، ليست لحياة العربي فقط ، بل
لحياة الإنسان عامة على الكرة الأرضية ، وهذا الوعي في
نص آل مجثل يرتبط بحياتنا التي اختلفت عن حياة حافظ إبراهيم
فلم تعد هناك فكرة خاصة بوطن ، ولا ثقافة خالصة لمجتمع ، بل
ربما انتهي من صلاتي وقيامي لأقرأ ما درا في العالم كل من حولي
حيث أصبح العالم كله محدد بمساحة 6 بوصة تقريبا ، وهو حجم
الهاتف الذي يحمله الإنسان في يده ، فكل منا يحمل في يده العالم
كله ، فحينما اشتاق حافظ إبراهيم لمصر وهو شوق يدل على
الانتماء والحب لوطنه ، تشتاق حروف أحمد آل مجثل ، وشتان
بين شوق الحروف الذي نتج عن شوق قائلها ، وبين شوق القائل
الذي ربط الحياة بذاته ، منكفئا على داخله .
والصورة الجمالية عند حافظ إبراهيم مرتبطة تماما بالشعور العربي
والواقع المعيش ، فهو يفرح من الصفات الكريمة ، كما يفرح
الغريب بعودته إلى دياره ، نعم صورة جميلة واقعية ، لكن شاعر
الجزيرة يفصل هذا الواقع ، فلم تعد العموميات مشكلة الشعر ، بل
التفاصيل الصغيرة التي يلتقطها الشاعر من حوله أو من ذاته ،
فأنامله تجري تجاه الشعر ، وكأن الأنامل قد وعت وشعرت بما
يشعر به صاحبها ، فأصبحت شاهدة وسامعة ، وعليها أن تتحرك
بوجدانها عسى أن يتطابق الوجدنان ، وكذا الروح ليست في الجسد
كله لكنها في القلب ، وتحديد الروح للقلب شيء مثير للغاية إذا ما
وعينا أن القلب موقع الشعور وأن الروح موطن الحياة ، فالشعر
عند آل مجثل هو حياة القلب أو شعور الحياة أو حياة الشعور .
حتى مفردات القافية والروي أكثر صوتية عند حافظ إبراهيم ،
ولكنها أكثر ألما وتوجعا عن أحمد آل مجثل شاعر الجزيرة .
*********
يقول الشاعر السعودي / أحمد آل مجثل في نص بعنوان
( علّ وربما ) نشره أمس على صفحته الخاصة بموقع
التواصل الاجتماعي
*******
ويَموتُ
بينَ شِفاهِنا من عشقنا
وَلَـهٌ يحاكي الوَجنتَين مِن الظّما
وتنامُ
في أوجاعِنا بجراحنا
لُغةُ : لعلّ المُتعَبينَ وربّـمـــا
وأكونُ
يومَ رواحِنا في شوقنا
قمــحاً توضــأ ديمـةً وتَيمّــما
وتَعودُ
بَينَ حصادِنا ضحكاتنا
عــطـراً تَنفّسَ مـرّةً أو همهَما
وأصوغ
حين غنائنا ببواحنا
لحــناً تخــضّب رقّــةً وتبــسّما
وتتيه
في آفاقنا تنهيدة
فتسابق الغيث العَميم إذا همى
تمضي
بنا الأرواح تولد شهقةٌ
تلقى الذي تحت الرماد تفحّمـا
**********
لازالت الدرب في أولها عسى الله أن يقدرني لاستكمل وجهة
نظري في شعر هذا الشاعر العربي المؤثر في المشهد الشعري
تأثيرا حقيقيا ، وسوف أتم الدرس في اللقاء القادم فقد أطلت
على أحبابي القراء وهم أغلى عندي مني .
***********
د / رمضان الحضري
القاهرة في 19 من فبراير 2020 م
********
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق