الثلاثاء، 5 مارس 2019

قراءة نقدية بقلم بكري جابر في قصيدة (اوقدي) للشاعر عماد على قطري


طفل الندي وترانيم الغياب

استخدام أسلوب المفارقات


لكل مغنٍ نايُه الخاص الذي يعزف به، وقيثارته المحببة لقلبه، فكل زفرة داخل النفس البشرية تنتقي آلتها التي تعزفها شجنا وآهات، تحملّها ما يهيج داخلها طربا ولوعة، رسالة حب وثورة تعري ما بالنفس من هموم، وعند الشاعر الحق نجد القصيدة تختار نايها وقيثارتها التي تعزفها، حروفا وثورة ورؤى، وهذا ما نراه في قصيدة (أوقدي) للشاعر عماد علي قطري، فقد اختارت قصيدته ثوب التفعيلة رداءا لها وإزارا، لما بنفسه من طوفان مشاعر، وهيجان داخلي، وثورة وجدانية لا يقوي ثوب الخليل العمودي علي احتوائها، فعمد عن قصد إلي إطار التفعيلة واختار بحرا من أرقي بحور الشعر العربي (الطويل) بتفعيلاته الهادرة الثائرة، ليتفق وحالة الثورة والتمرد عنده، فهذا البحر الهائج المائج الأمواج والمضطرب دوما، يلائم تلك الحالة الشجنية والثورة الوطنية لحالة (عماد قطري) الذي يتشظي في ثنايا قصيدته يِمنةً ويسرةً، عروجا وهبوطا بين مشاعر مضطربة ومتباينة، لا يقوي علي تلجيمها أو الحد منها، فيضمنها بحره التفعيلي (الطويل) علِّه يحوي بعض ما به، من شجن وألم وحب واغتراب.
و مفتاح القصيدة عند عماد قطري، مفتاح لا يُجهد القارئ أو يرهقه في البحث عنه داخل محيط النص، فنجده يعتمد منذ اللحظة الأولي علي اللفظة المباشرة، دون افتعال أو التخفي وراء أيقونة الرمز المفتعل، فتطالعك لفظة (أوقدي) لتضعك بذلك الأسلوب الطلبي (الأمر) ملتمسا منها أن تضيء له ولبني وطنه وجيله معالم الطريق، ورغم مباشرة اللفظة، نجده متضمنة ضمير الغائب الحاضر (هي)، فهي ذلك الوطن الظاهر الخفي، دون تصريح ممجوج ، فلا يمكن أن ينصرف الذهن إلي غيرها ؛ ولنقف برهة عند ما نسميه (اللفظة القصيدة) أو (القصيدة اللفظ) فذلك اللفظ وحده قادر تفجير مضامين ومضامين عدة، أو كما يقول نقاد القصة القصيرة (القصة الومضة).
يلجأ الشاعر عماد قطري إلي أسلوب (الإجمال الذي يعقبه تفصيل)،ثم يرتحل بنا علي جناح قصيده وبحره الصاخب الثائر، سابحا بنا في أمواج وأشجان الوطن، بين أمواج غربته وأحلامه المؤجلة والتياعه، ليرصد لنا تفاصيل حقبة زمنية قد اعتري ضبابها وجه الوطن وغربت طيوره، إنْ غربة داخلية، أو غربة خارجية سفرا وارتحالا، يقول عماد قطري :
 أوقدي شمعة في ظلام الفؤاد
لا تقولي :
لماذا الفتي القروي استحل البعاد؟
أوقديها لعل الذي سطّرته المنافي يذوب
عاند القلب ريح التشظي
ولكن أيجدي مع الريح همس النسيم؟
فها هو الأسلوب الإنشائي يطالعك منذ الجملة الأولى، ما بين الأمر الإلتماسي (أوقدي) والنهي التمنيّ (لا تقولي)، ثم يعقبه الإستفهام الثائر المعاتب (لماذا الفتي القروي استحل البعا ؟)
ويضعك الشاعر منذ البدايات،أمام استخدام أسلوب التضاد ليكون التئكة التي سيعتمد عليها في قصيدته، ليميط اللثام عن لحظتين، الحلم واليأس (شمعة ظلام الفؤاد) وبين حالتين لهذا الفتي القروي، الذي من سماته التمسك بالأرض ورفض الهجرة والسفر والإغتراب، وبين المنافي المفروضة عليه قهرا وقسرا (الفتي القروي، المنافي، عاند القلب، ريح التشظي) ثم المواجهة بين نسيم الوداعة والسلام الفطري، وبين ريح الاغتراب (الريح، همس النسيم) ؛ فمذ الدفقة الأولي لميلاد القصيدة، تأتيك الدفقة الشعورية ثائرة هادرة صاخبة بين متناقضات عِدة، واصفة بدقة حال الشاعر وما يعتريه من حب ورفض وثورة، ومن خلال تلك الدفقة الشعورية، يشحن الشاعر قصيدته منذ البدايات بكم من الأساليب الإنشائية، تستطيع من خلالها أن تتعرف علي أمواج النص والمناحي التي سيعرج بنا فيها؛ ولنقف أمام بعض الألفاظ الدالة علي ثورة الوجدان في جملة (ولكن أيجدي مع الريح همس النسيم ؟) نجد لفظتي (الريح) ثم (همس النسيم) فنجد الشاعر بثقافته القرآنية الواسعة يعي المدلول الجيد للفظة (الريح) وليست (الرياح) فالريح تكون مدمرة وعاصفة ومهلكة، أما الرياح فدوما تأتي بالسحب والخير والري والنماء ؛ وكذلك المفارقة النفسية والمعبرة جدا في استخدامه لـ (همس النسيم) بعد كلمة الريح، ليبين مدي قسوتها علي أبنائها والقهر والجبرت.
ثم ينتقل بنا الشاعر إلي ما أصابه من جراحات وهموم، واغتراب ووجع وهلع، فهو ذلك الفارس المثخن بالوطن والحب والإنتماء، وكثيرا ما عاودته طبيعته البشرية، كغيره من البشر، من وهن ووضعف، وأن يبيع الوجد ويركن إلي الهدوء والراحة أو ما يظنه راحة وهدوءا واطمئنان، لكن هيهات لمثله أن يبيعها ويشتري لنفسه لحظة هدوء، فنلحظ وهو يركن إلي لحظة هدوء (هدوء المحارب) نجده يحارب القبح والطغيان البشري والتوحش والتغول الإنساني، فعندما يترك سيف الثورة والنضال، يركن إلي سيف الإنسانية والحب في محاربة الجمود والجحود والبرد، فهو كله فارس ، إن لم يكن بسيف النزال السياسي، فبسيف النبل والإنسانية، وكلاهما وطن، يقول :
 فالفتي مثخن بالوطن
بالجراح التي علمتنا الرحيل
بالدموع التي لوثت وجه أم البلاد
مثخن والخيول التي أسرجتها الشموس
اعتراها الهوى
واستقال الصباح
مرة تلو مرة
يقسم القلب أن يستريح
يشتري خبزه والجريدة
يشرب الشاي في ركن مقهي بلا لافتة
يمنح البحر عند العصاري نسيما
يكور صدر البنات
يمسح الحزن عن طفلة في رصيف وحيد
يسكب الفرح في خطوة مستحيلة
يسكب الصمت زهوا أمام الجمال
ما أصعب ما يحمله الشعراء من هموم وأحلام فوق كواهلهم، فعندما يتعب المحارب ويلجأ إلي صخرة، كي يستريح من عناء الوطن والنضال، وتعتريه لحظة يأس واستسلام أمام ريح التشظي والإغتراب، لا يتخلي عن مهمته الإنسانية كفيلسوف وقديس صوفي، فيمارس إنسانيته كمصلح اجتماعي ومتصوف إنساني، ليجلّي الحزن عن وجه الطفولة، ويمنح الفرح لخطوة حيرى؛ فهل تلك الطفلة الحزينة التي يمسح عن صدرها الحزن، ويمنح خطوتها لحظة فرح، ومن تلك، غير ذلك الوطن الذي هو مُسخنٌ به؟
ثم تسكتين النفس الشاعرة برهة، فيُيُمم وجهه نحو الماضي، في قداسة وخشوع، يهيم في النور الذي أضاءته سلفا، فيهيم كقديس في معبد الأمس ليمنح روحه رشفة من حياة من وحي وعبق الأمس،و كأنه الراهب يتماهي مع ترانيم معبدها المقدس ، يقول عماد قطري :
أوقدي شمعة
أمس أوقدتها ما سري الضوء
أو عادني طعم فرح قديم
ربما في الترانيم يهوي الفتي والدعاء
ثم سرعان ما تثور داخل ذاته بعد لحظة صمت واستراحة محارب متأمل ريح الثورة، وكأنه قد شحذ روحه من سراج الأمس، فيهب ثائرا علي جناح القصيدة قائلا :
أوقدي...
لا تبالي بما أرسلت سكة الآه
من عاديات الغواية
مثقل بالبلاد التي شردتنا
بالحنين الذي يسرق الوقت
من ساعة لا تجيد الكذب
جاء صوت المذيع استعدوا
وما قال هذا الغبي الطريقة
وما قال كيف استطعنا اجتياز المضيق
ويجيد عماد قطري العزف علي لغة المفارقات الدالة، والتناقضات الموحية، ولنقف أمام لوحتين الأولي تشكلها حروف (سكة الآه، عاديات الغواية، شردتنا، يسرق الوقت) وبين لوحة أخري تشكلها تلك كلمات (لا تبالي، مثقل بالبلاد، الحنين) لوحتان في ظاهرها التناقض والتضاد، وفي باطنهما الحب والوجد والعشق والسهاد، فرغم عاديات الغواية وسكة الآه إلا أنه مثقل بها ، ينبض بالتحنان والحنين ؛ ثم بين ثنايا حروفه يؤصل للحظة الثورة ، وكهنة الإعلام الغبي، للذين قد غمّوا الأعين وضللوا الطريق (جاء صوت المذيع استعدوا / وما قال هذا الغبي الطريق) وإن كنا نعاتبه بحب وهو العليم أنهم ما قالوا يوما، ما الطريق، ولن يقولوا أيها الفارس النبيل.
 ونسير مع العزف علي لغة المفارقات وبكل لون، فهي مزمار الشاعر الشجي والناي الثائر الذي يعزف به، إنْ عن طريق التضاد الإيجابي بين الألفاظ كما سبق، أو عن طريق المقابلات في الصورة التشكيلية المتقابلة، ليرسم لوحة درامية وهادرة علي أمواج الثورة والعتاب، والعزف الروحي والفكري، ولنتأمل رسم تلك اللوح التصويرية في ذلك المقطع :
كنت ذاك الفتي المنتمي للبلاد الوطن
والبلاد استراحت من الفجر
والشمس
والمتعبين
لا يفيد البكاء اللعين
لم تعد هذه الأرض حبلي بغير الوداع
والغزاة اللذين امتطوا صهوة النيل
قالوا : لنا المجد
قلنا : آمين
فالعيون التي أدمنت جوعنا
لم تزل مقفلة
قال طفل الندي : ربما مثقلة
قال ذاك الذي عنده بعض علم
عيون المدي من حجر
فافقئي كل حين عيون الوشاة
وافقئي كل صبح
عيون اللذين ارتدوا وجهنا
كي يبيعوا البنات
اصرخي في وجوه الملاعين باعوا البياض
واضربي الظلم بالنيل حتي اخضرار الوريد
وامنحي الوقت وقتا ليمحو الزبد
ربما لا تجيء النبوءات لكن
هي الأرض شوقا تتوق المياه
فنحن هنا في هذا المقطع أمام أربع لوحات شعرية ، وهي مقاطع موحية لصور تعبيرية، ومشاهد حركية تأتي متقاطعة ومتوازية، لتبرز الصراع الداخلي للشاعر، والواقع الراهن .
 اللوحة الأولي : كنت ذلك الفتي المنتهي .... فتي منتمي كلية للبلاد الوطن، متغرب وماهجرن وتلك البلاد قد استراحت، انتابها السكون والصمت، واستراحت من الفجر والشمس، فصار متعبا دامع العينين حزينا، يائسا فاقدا للأمل وإنْ تحبل الأرض بجنين الحرية والشمس .
اللوحة الثانية : ترسم هؤلاء الغزاة، الذي الجموا فرسانها الجمود والصمت، واحتلوا وجه النيل وسرقوا المجد، وقالوا لنا المجد، والكل قال بعجز وقهر، آمين .
اللوحة الثالثة :
مايزال فتي الندي يحلم ويلتمس لها الأعذار، رافضا فكرة الموت، فهو عنده عِلم بحقيقة التاريخ، وديدن الحياة ودورتها، فيري ما هي إلا كبوة وستعود، وسيزول الزيد وتنبت الأرض مرة آخي بالحياة
اللوحة الرابعة : فتي ثائر، يستصرخها أن تصرخ وتثور، وأن تفقئ أعين الليل والوشاة، الذين تحدثوا باسم النيل وسرقوا وجوههم، طالبا منها أن تخلع رداءها العذر، فما هو إلا الوقت وستتحقق النبوءات .
أربع لوحات شعرية متقابلة ومتوازية في آن واحد، تعبر بمشهدية الصورة والتعبير الحركي النابض، عن الثورة الداخلية والإضطرابات النفسية من صراع داخلي، ليرصد ما يعترك النفس، ويرصد تلك المرحلة الآنية من عمر الوطن، فأجاد استخدام الصورة الكلية في لوحات شعرية منسوجة بعناية .
وفي نهاية القصيدة، يعود الموج الثائر إلي الهدوء والسير الهامس، فكأنه البحر يتجه نحو المصب هادئا، رغم ما يعتريه بعض النوات في تكرار كلمة المفتتح (أوقدي) فهي أيقونة النص وجوهره، فهو ذلك الفارس الذي قد أُجهد وبُح صوته علي أمواج الثورة والوجد والعتاب،، فلم يعد لديه إلا حفنة من دماء الحُر الأبيّ، وبعض ضلوع من شوق وانتماء، يصلحون ليكونوا سيفا وإن ضعف في رمال الغربة لتحارب به الليل والظلم والإغتراب ، يقول عماد قطري المجهد علي راحتي قصيدته هامسا قبل الختام:
أوقدي شمعة من دمي
أوقديها
فلا شيء عندي سوي قبضة من دماء
حفنة من ضلوع
تصلح الآن سيفي قصاص
مزقة من شرايين قلبي
وهذا الحنين
أوقدي إنّني طفلك المستحيل
أ
و
ق
د
ي
نحن إذاً أمام قصيدة شكلتها لغة المفارقات بعناية ؛ مفارقات لغوية، وأسلوبية، وتصويرية، وحالات نفسية متضاربة، ولكن تلك المفارقات البلاغية،رسمت لنا لوحة شعرية تمتلئ بزخم تصويري من كافة النواحي، بداية من الأساليب الإنشائية والتضاد والمقابلة والتصوير الإستعاري،والتصويري الكلي، والبحر الشعري الهادر، واللغة الحية النابضة، والبناء الدرامي المتماسك الذي يتصاعد ويتهامس، متماشيا مع أمواج الحالة النفسية، والصراع الداخلي بدقة واعية، ناهيك عن الموسيقي الداخلية والخارجية التي تتفق ورح القصيدة وماهية الصراع

بقلم بكري جابر

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق