الأحد، 3 مارس 2019

بقلم الدكتور رمضان الحضري

قراءة نقدية لجمال الحروف في عيون الخوف


حينما مات الملك تحوتمس الأول والد الملكة حتشبسوت ، لم يكن هناك وريث شرعي له سوى هي وأخيها غير الشقيق تحوتمس الثاني ، وكاد الملك أن يضيع من أسرة جدها أحمس الأول الذي طرد الهكسوس من مصر ، فلبست ملابس الرجال ووقفت أمام مكائد الكهنة والمتربصين بمصر ، واستندت إلى المخلصين أمثال المهندس سنوت الذي كان يحبها حبا جما ، كما استندت إلى قيادات جيشها الوطني ، وحكمت مصر لمدة تصل إلى 22 سنة ، كانت أزهى عصور المملكة المصرية في الأسرة الثامنة عشر قبل الميلاد ، وهكذا سيدات مصر حينما يتحملن المسئوليات الوطنية والسياسية والاجتماعية والعلمية .
وفي العصر الحديث وقفت فاطمة بنت الخديوي إسماعيل أمام جبروت اللورد كرومر ووضعت حجر أساس جامعة القاهرة رغما عن أنف اللورد كرومر الذي هددها بالقتل ، لو وضعت حجر أساس الجامعة ، لكنها لم تأبه لتهديده وفعلت مايليق بها كسيدة مصرية وريثة لحتشبسوت ، وذا مافعلته قوت القلوب الدمرداشية وغيرها من سيدات مصر العظيمات .
وفي النهضة الثقافية الحديثة تشارك السيدة المصرية بفكرها وثقافتها إلى جوار الرجال حذو القدم بالقدم وحذو الكتف بالكتف ، فمن ينسى مواقف أم كلثوم مع بلادها ، ومن ينسى ثقافة سهير القلماوي ، ومن لم يتعلم من نعمات أحمد فؤاد ، ومن ينسى سميرة موسى وباحثة البادية وروز اليوسف وغيرهن الكثيرات .
تأتي هذه التقدمة وأنا أقرأ ديوان ( عيون الخوف ) للشاعرة المصرية الرائدة / أمل أيوب 

 التي تحاول أن تجد لها مكانا يليق بها بين شعراء مصر ، حيث جمعت في هذا الديوان عشرين قصيدة شعرية من شعر العامية المصرية الرائقة ، وتتخذ لنفسها خطا شعريا خاصا بها ، حيث إن الذين يظنون أن الشعر عروض وقوافٍ وأنغام وصور فأولئك لم يخبروا الشعر أو يدركوا ماهيته ، فالشعر لدى الشاعر الموهوب حياة ، وليس أقل من الحياة بشبر فما أقل ، ولذا فالشاعر الموهوب يعيش قضاياه في شعره ، ويعيش شعره في قضاياه ، ويدافع عن قيم الشعر كما يدافع عن قيم الأخلاق والسلوك وصحيح المنهج .
فالشعر وطن ، والوطن عند الشاعر الموهوب قصيدة جميلة وقيمة نقية وسلوك نبيل وعلو همة ، فالوطن والشعر هما مجد كل شاعر حقيقي ، وهذا مايتضح في ديوان الشاعرة أمل أيوب حينما تثور وتصرخ محبة في الوطن ، ومودة لترابه ، وشفقة عليه ، وتزلفا له ، فتقول في ديوانها بعنوان ( درويش ) : _
مانيش دافع خلاص مهرك
وهـ اطفي الشمعة لو والعة ف ليل سهرك
ومش باوعد .... انا ح ابعد
ولا هـ اسند فـ يوم ضهرك
ياعاشقة الواطي والمحتال
ما نيش خيال
ولا فارس ولا مهرك
تحبي الكدب والتهليس
وسامعة الكلمة لو زايفة 
ولو شايفة
ولو عارفة إنها تدليس
ما نيش قلمك ولا فاسك
ولا ف قلبك ولا ف راسك
ولا حسباني من ناسك
******
ديوان عيون الخوف ، صـ 54 .
شاعرة بطول نهر النيل ، خصبة الافكار ، وشفافة الروح ، وشاسعة الشعور ، تبدأ بتصوير من الخارج إلى الداخل ، فإذا دلفت إلى موضوعها دوى صراخها ، في منطقية فريدة ، حيث تقدم التعليل بألف دليل ، فتقنع عين القاريء قبل عقله ، وتقنع عقله قبل قلبه ، وتنزل الكلمات في القلب كحجر ملتهب يحدث ضجة في القلب ، وترسو القصيدة في القلب فيتسع القلب في دوائر ، حتى تصل القصيدة لعمق الشعور وتلتصق به .
فبدأت الشاعرة بعرس لن يتم ، لأنها لن تدفع مهر حبها ، وحينما يبدأ الشاعر من القمة فهو يقف على جبل مرتفع من الشعور ، وبعبارة أخرى فإن الشاعر الذي يبدأ نصه من القمة يكتب بعدما نفدت جميع أنواع التعبير البدني والفكري ، فهو مضطر أن يبدأ من أعلى نقطة في شعوره ، فتكون البداية عبارة عن صرخة مدوية للتنبيه ، والتنبيه هنا بحادثة واقعية ، وهي ذلك العريس الذي يرفض أن يدفع مهر عروسه لارتكابها أخطاء في حقه ، وهذه الاخطاء تتجلى في تقديم الواطي على العالي ، وتفصيل المحتال على الصادق ، ونسيانها لحب عريسها ، فكأنه لم يشغل لها بالا ، وهكذا تكتب أمل أيوب بفكرة جديدة ، ومشاعر فريدة ، فاللوحة الشعرية عندها لوحة من الحياة الواقعية ، بل هي لوحة أصدق من الواقع ، فالواقع مرير ، ودور الفن دائما أن يقدم صورة مخترعة تكون حقيقية لتصحيح الصوة الخاطئة في الواقع.
الغدر كان م القريب
طرح السنين بيخيب
شمس اللقا بتغيب
مركب هموم بتجيب
كل الحمول عندي
وأبص فـ مرايتي 
واهمس بصوت مكسوف
واقول لها ردي
يكنش آن الأوان
تكونش دي نهايتي
تشهق عيون الخوف 
تنطق ورافضة تشوف
تصرخ بكل سكوت
كل الزمن مايفوت 
كل البشر حـ تموت
ودي سنة الملكوت
أعمار وبتعدي
******
قصيدة عيون الخوف صـ 63 ، 64
هذه القصيدة التي أطلقت عنوانها على غلاف الديوان ، لتكون عنوانين في خارج الديوان وداخله ، حيث ترى فيها ذاتها محاصرة في هذا العالم ، فالجرح من سهم قريب ، جاء من شجرة زرعتها ، وشمس الضياء واللقاء امام عيونها تأفل وتنحدر تجاه المغيب والفراق ، وكأن الحياة تنتهي ، ولأن كل من حولها تغير ، فلم يعد هناك أمان إلا للمرآة ، فلربما كان الجماد أكثر حنانا ، وأرقى فيرد الكيد عنها .
دوما ينتج الصراع الدرامي في النص الشعري من التناقضات بين الذات والموضوع ، وبين الأنا والعالم ، وبين الطموحات والممكن ، فالنص هنا نص درامي من الدرجة الأولى ، فالشاعر ظنت الأمن في القرب ، لكن النتيجة كانت جرحا غائرا ، وظنت الياء في الشمس ، لكنها تغيب وتختفي ، وظنت الحياة في الطرح ، لكن الثمار ذابلة وميتة ، وظنت البشريات في المراكب ، لكن المراكب جاءت محملة بالأحزان .
فالصراع بين الأمنيات المتوقعة وبين المشكلات الواقعة صراع مخيف ، وهكذا تقوم أمل أيوب برسم نصوصها في لوحات تصويرية محددة في أطر من لهيب ، وترسمها في لوحات لفظية شفاهها من نيران .
فالتجربة الشعرية عندها تعني الحياة وتعني الذات ، فهي شاعرة متمردة على واقعها ، لاتستطيع التكيف مع الواقع ، حيث إن الواقع لايستطيع أن يتعرف على مواقع ألمها ومواطن أحزانها .
هذا ديوان فريد لشاعرة فريدة ، يأخذ القاريء لرحلة داخل روح الشاعرة ، في مدارات غريبة وصورة مستطرفة وحياة رائعة .

د / رمضان الحضري 
القاهرة في 3 من مارس 2019م 
****************

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق