الجمعة، 1 مارس 2019

بقلم الدكتور رمضان الحضري

الفنون
تغيّر الماهية والوظيفة 

في الثلث الأول من القرن الثامن عشر كانت أكبر أحلام الشعب الأمريكي أن يحصل على استقلاله عن بريطانيا ، وفي نهاية القرن الثامن عشر كانت أحلامهم أن يزرعوا أرضهم لتكفيهم المحاصيل ، وبدأت نهضتهم بزراعة التبغ وتصديره ، ثم زراعة المحاصيل وتصديرها ، ولم تكن هناك خطة للعلوم ولا للتكنولوجيا ، فكانوا ينتظرون القادمين بالعلوم من أوربا وبخاصة بريطانيا وألمانيا وفرنسا .
ومع مطلع القرن العشرين انتبهت الولايات المتحدة الأمريكية للعلوم والفنون والآداب إلى جانب الزراعة والصناعة حتى أصبحت أكبر دول العالم فى التكنولوجيا والأقتصاد والقوة العسكرية ، وربما تعتبرالقضب الأوحد فى العالم خاصة بعد إنتهاء فترة الحرب البارده التى استمرت حوالى 46 سنة ، حيث إنهار الإتحاد السوفيتى عام 1991 ، مما جعل الولايات المتحدة أكثر سيطرة على مستوى الكرة الأرضية .
هذه تقدمة تتعلق كثيرا بموضوع الفنون ، حيث إن الفنون شأنها شأن المجتمعات تتطور وتتغير حسب الأهداف والوظيفة الجديدة المنوطة بها .
فكان الرسام يرسم وجوه الأشخاص قبل إختراع كاميرا التصوير ، فلما ظهرت الكاميرا أصبح التصوير من خصائص الكاميرا وليس من خصائص الرسام ، وكان الخطاط إلى وقت قريب هو الذى يزين الحروف والكلمات حتى جاء الكمبيوتر فأصبح دور الخطاط محدودا ، وكانت الفرقة الموسيقية تؤدى بكاملها لحن الأغنية ، بينما الأن يمكن تسجيل صوت كل ألة موسيقية منفردا .
 ماقلته سابقا محض معلوم لدى عامة المثقفين ، بيد أن خيالي يرى أن أول من رسم شجرة على الرمال ظل يحرس رسمه طويلا وربما بنى كوخا حتى لايمر أحد فوق رسمه ، وربما بنى فوقها كوخا حتى لاتمسحها الرياح ، وربما من رسم طائرا كان يخاف أن يمسك بجناحه ظنا منه أنه سوف يقع على الأرض ، رغم أنه مرسوم على الأرض ، ويؤيد كلامي هذا ماحدث في بعض معارض الفنون التشكيلية حينما قالت سيدة لرسام معلقة على صورة امرأة ، إن ذراع المرأة الأيمن أطول من ذراعها الأيسر ، فقال لها الرسام ياسيدتي هذه صورة وليست امرأة ، وكذا ماحدث من أحد أباطرة الصين ، حينما قال لرسام قصره : امسح صورة النهر التي رسمتها على هذا الجدار ، لأنني من يوم أن رأيتها لا أستطيع النوم جيدا من صوت خرير الماء في هذا النهر .

نعم الفنون مؤثرة جدا في حياة الناس ، بل هي الجانب الأكبر من حياة الناس ، حيث تتعامل الفنون مع الحواس والوجدان والشعور ، والروح والإحساس ، وهي الجوانب الأهم في الشخصية البشرية ، فمرض الجسم سهل أن يشفى بسرعة أكبر من مرض الروح والشعور .
فالجسم الجريح حينما يكون متفائلا ويملك قابلية للشفاء فغالبا يصل للشفاء بسرعة ، بينما الإحباط والخوف والاكتئاب والهلع والقلق والصراع والفصام وغيرها من الأمراض النفسية يكون الشفاء منها عسيرا بدرجة كبيرة ، وقد ضرب العرب مثلا لذلك واضحا جليا حينما قالوا : لو أن هناك شاة مجروحة فالعناية بجرحها وطعامها سوف يجعلان الشفاء أمرا سهلا وسريعا ، بينما لو أتينا بشاة قوية وربطنا أمامها ذئب فسوف تخاف 

وتمتنع عن الطعام وتموت ، إذا كانت هذه مشاعر الحيوانات ، فما بالنا بمشاعر الإنسانية .  
وتاريخ الفنون هو تاريخ البشرية تماما ، فقد أرخ لها البعض بحوالي أربعين ألف سنة قبل الميلاد ، والبعض الآخر أوصلها إلى مائة ألف سنة قبل الميلاد ، وتم الكشف عن رسوم على جدران الكهوف تصل إلى ثلاثين ألف سنة قبل الميلاد ، وقد تحدث ديورانت _ في كتابه الشهير ( قصة الحضارة ) والذي ترجمه الفيلسوف المصري العظيم / زكي نجيب محمود _ عن هذه التواريخ بالتفصيل في الجزء الأول من كتابه .
فحضارة البشرية بدأت بالفنون غالبا وهذا ظني ، ولم تبدأ بالعلوم أبدا ، لأن حاجات الإنسان النفسية تفوق حاجاته العلمية ، وسعي الإنسان خلف الجمال يفوق سعيه خلف الاختراعات والاكتشافات ، ولذا فكل الأمم المتقدمة تتقدم فنيا وثقافيا قبل أن تتقدم علميا وتكنولوجيا ، وقد قامت الحضارة الأوربية الحديثة على آراء جوتة شاعر ألمانيا العظيم ، وتلميذه النجيب الفيلسوف / هيدجر ، وكان تأثير شكسبير وموباسان وكاييم وغيرهم أكبر من تأثير العلماء في أوربا ، حيث إن الفنون تمثل قوة الدفع النفسي والإنفعالي ، وهي المحرض الرئيس على الإبتكار والاكتشاف .
وتنقسم الفنون إلى فنون تشكيلية مثل :
 الرسم والتصوير والتصميم والمونتاج والنحت 
والعمارة والخط والإضاءة .
وفنون تعبيرية وحركية مثل : 
الرقص والسيرك والتمثيل والدمى والإلقاء .
وهناك فنون تطبيقية مثل :
الديكور والسجاد وتصميم الأزياء والخزف والحلي
والتطريز وصناعة الأثاث والمجوهرات .
وهناك فنون الكتابة مثل :
الشعر والرواية والمقال والتحرير الصحفي وغيرها .
وهناك فنون صوتية مثل :
الإذاعة والغناء والموسيقى والترتيل .
لست مهتما هنا بالتأريخ للفنون ، ولكنني مهتم بمحاولة إثبات أن الفنون تعيد تشكيل نفسها حسب العصر الذي تعيش فيه ، وربما العكس كذلك ، فأعني أن الفنون هي التي تقوم بتشكيل العصر ، فليس شعر المتنبي كشعر امريء القيس ، وليس شعر شوقي كشعر المتنبي ، وليس شعر نزار قباني كشعر شوقي ، وليس شعر عبدالعزيز جويدة كشعر نزار قباني .
هي حركة الحياة التي تحركها الفنون ، أو حركة الفنون التي تحركها الحياة ، وفي جميع الأحوال فإن ماهية الفنون تتغير حسب تغير الأهداف ومفردات الحياة ، فقد كان هدف الشاعر العربي قبل الإسلام أن ينتصر لقبيلته ، وتحول بعد الإسلام لينتصر الشاعر لدينه وعروبته ، وتحول في العصر الحديث لينتصر لدينه وعروبته  ودولته ، فتغيرت الأهداف .
وكان الشاعر العربي ينتظر محبوبته في أماكن الرعي أو عند عيون الماء ، أو يدخل عليها خدرها وخيمتها .
بينما الآن ينتظر الشاعر محبوبته في موقف باص أو مقهى أو ملهى أو في شارع ما ، فتغيرت الأدوات .
كان الشاعر قديما فارسا يدافع عن قبيلته بالسيف والدرع والخيل ، بينما الشاعر الآن يدافع بالكلمة عبر وسائل الاتصال المرئية أو المسموعة او المقروءة ، ولذا لم يبق من السيف إلا رمزيته فقط ، فقد انتهى دوره في الحروب للأبد .
أما ماهية الفنون ووظيفتها في الوقت الحالي ، فهذا موضوع اللقاء القادم بأمر الله تعالى .

بقلم الذكتور رمضان الحضري

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق