السبت، 5 سبتمبر 2020

على محمود طه / أحمد الطنطاوي

حيــن مســَّــتْ شـفتي أول قطـره
خِلتُهُ ذوَّبَ في كأســــيَ عِطــــره

" على محمود طه \ الجندول "

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

حين تتجسَّـــــــــد الصورة فيتحقق العبق , و تغدو
الأحرف رسومًا حية تتراقص  فى صفوٍ و بهاء ,
يردد الضياء نشــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــيده

( أحمد طنطاوى)

صلاح الفقيه /فلسطين

قلق.
حين دخلت النفق ، اعطاني جدي سبحته ، وأوصاني بالسلام.
وحده لاح من بعيد ، تتبعه زوجته ، التصقت زوجتي خائفةً بي؛ وارتجفنا.
مال يمينا ،ً ملت شمالاً ، تحسست خنجري ،  وحين اقترب ، طعنته.
لمحت في عينيه وهو يهوي ، أسئلتي كلها ، وفي يده سبحة جده.

نزار قباني في قصيدة سامبا

[    عندما يتحول البشر عصافير تسبح فى الهواء  ]
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

.....
.......

أي مغزل ؟
حاك أكتافاً عرايا
هي في الليل مرايا ..
تتنقل
**
حين أوما
مثلت بين يديه
رأسها في رئتيه
راح يغمي ..
**
بانفعال
نهدت كالمستفزة
مثلما ، تنشك .. أرزة
في جبالي ..
**
وبشدة
لفها .. وانعتقا ..
ليت هذا العنقا
لي مخدة
**
خلت لما
سلمت الوسطا
كبدين .. اختلطا
حين ضما ..
**
في ضلوعه
غرزت .. سكين فضه ..
نبضها أصبح نبضه
من ولوعه
**
من يمينه
تخذت زنارها
وأراقت نارها في جفونه
**
قلت ذابا
مفصلاً في لصق مفصل
وعظاماً تتغلغل ..
وثيابا ..
**
من رآها
وهي في قبضة نسر ..
خصرها .. أنقاض خصر
وقواها ..
**
ألف آهة ..
تتندى .. ألف خلجة
مهجة تمتص مهجة
بشراهة ..
**
تلك سامبا
نقلة .. ثم انحناءة
فالمصابيح المضاءة
تتصبى ..
**
شبه غفوة
فيميل الراقصان
وتغيب الشفتان
عبر نشوة
**
دمدميها ..
أنت هذي الأغنية ..
بدماء المعصية
كتبوها
**
ما علينا ؟
إن رقصناها معا ..
ودفنا الأضلعا
وانطفينا
**
ما علينا
لو رقصنا ..
ليلنا حتى التلاشي
وحملنا
كجنازات الفراش …

( من قصيدة سامبا \  نزار قباني )

معمار غلي حسن



يوسف إدريس.. ظل ثقيل أم موهبة لاذعة؟
د. عمار علي حسن
حين غاب يوسف إدريس عن دنيانا في  أول أغسطس من عام 1991 كانت أسطورته قد اكتملت، فما كُتب في تأبينه ورثائه والحزن لرحيله كان ملء الأسماع والأبصار والأذهان، واستمر أياما بل أسابيع. وكلما تجددت ذكرى الرحيل أو حتى الميلاد انفتحت أبواب الأسى ونوافذه على مصاريعها، وكلها حافلة بتمجيد كان قادرا طيلة الوقت أن يجرف في طريقه كل من وقفوا في الضفة الأخرى، أو ساروا في الاتجاه المعاكس، وعلى رأسهم الناقد الكبير فاروق عبد القادر، الذي امتلك ذات يوم جرأة يحسد عليها وقال في كتابه “البحث عن اليقين المراوغ: قراءة في قصص يوسف إدريس” عبارته الصادمة: “لن يبقى من يوسف إدريس سوى خمس قصص قصيرة”، بينما امتلك آخرون شجاعة أقل واكتقوا بتكرار هذا القول، متكئين على القاعدة التي تقول: “ناقل الكفر ليس بكافر”، أو مسوا إدريس وقصصه ومسرحياته ومواقفه السياسية والفكرية مسا رقيقا رفيقا، لم يصنع جرحا غائرا في ذاكرة الناس حيال رجل وُصف بأنه “تشيكوف العرب” أو “أمير القصة القصيرة”.
لكن الكاتب  والشاعر المهتم بالتأريخ للأدب الأستاذ شعبان يوسف كان الثاني بعد فاروق عبد القادر الذي تحمل مشقة النيل من هالة يوسف إدريس، إو إخضاعها للفحص والدرس، رغم أنه لم يتفق تماما مع ما ذهب إليه عبد القادر، ووجد أن الحصافة والكياسة والإنصاف تفرض عليه أن يقول صراحة في ثنايا كتابه الذي حمل عنوان “ضحايا يوسف إدريس وعصر” قولا واضحا في حق الرجل، حيث نجده يقول دون مواربة، بعد تناوله الأسباب الخفية والظاهرة التي دفعت إدريس إلى المقدمة، وصنعت سطوته وجعلته في دائرة الضوء المبهر زمنا طويلا: “وأؤكد بأن كل هذه الأمور لا تنقص من تقديري لموهبة يوسف إدريس العاصفة في القصة القصيرة على وجه الخصوص، ولا تنقص من صدقيته كذلك، فهو كان يفعل كل ذلك منطلقا من شعوره الطاغي بذاته الفنية والأدبية والثقافية، ذلك الشعور الذي جعله لا يرى أحدا قبله أو بعده أو أمامه، وراح يطيح بكل من سبقوه، وقال بأنه أول من كتب القصة المصرية، وهكذا ألغى جيلين أو ثلاثة”.
ويعرض شعبان يوسف بالتفصيل أسماء شخصيات من هذه الأجيال التي توارت تحت ظل يوسف إدريس الثقيل، ليظل بعضهم في خلفية المشهد إلى الآن، ويتحقق بعضهم بعد رحيله، أو ينال إبداعهم الأدبي الاعتراف. فنقرأ في الكتاب فصولا عن أبو المعاطي أبو النجا ومحمد سالم وعبد المعطي المسيري ومحمد صدقي، مثالا للحالة الأولى. أما الحالة الثانية فيمثلها إدوارد الخراط، الذي نال حظه من الأضواء في العقدين الأخيرين، ولطفي الخولي الذي ترك كتابة القصة ليتحقق ككاتب سياسي شهير ومؤثر، والدكتور مصطفى محمود الذي توقف عن كتابة القصص والمسرحيات وانشغل بالمسائل العلمية والدينية فجعله برنامج “العلم والإيمان” الذي كان ذائع الصيت في مصر خلال ثمانينيات القرن العشرين أكثر حضورا في أذهان عموم الناس حتى من يوسف إدريس نفسه. ثم يذكر الكاتب بعض الأسماء التي يرى أنها تأثرت سلبا بوجود يوسف إدريس من أبناء جيله مثل يوسف الشاروني وعبد الله الطوخي وسليمان فياض وبدر نشأت وصبري العسكري وعباس أحمد وغيرهم، أو ممن سبقوه والذين لحقهم ضرر من الزعم بأن القصة القصيرة قبل إدريس لم تكن على ما يرام مثل محمود ومحمد تيمور ومحمود طاهر لاشين وعيسى عبيد وسعد مكاوي ويحي حقي ومحمود البدوي ويوسف جوهر ومحمود كامل المحامي وغيرهم.
في هذا الكتاب ينتصر شعبان يوسف، كعادته، للمنسيين أو “المستبعدين”، سواء منهم الذين استمروا في نضالهم ضد الإقصاء، أو الذين انسحبوا من المشهد الأدبي قانطين أو قانعين أو مستسلمين، وهي مهمة أخذها الكاتب على عاتقه في الفترة الأخيرة، حيث راح يؤرخ لكل هؤلاء، محاولا إنصافهم والحدب عليهم، سواء في كتابه السابق “لماذا تموت الكاتبات كمدا؟”، أو مقالاته التي نشرها تباعا في جريدة “أخبار الأدب” عن بعض الشخصيات الأدبية التي لمعت وسادت ثم بادت في زمن وجيز واستقرت في قعر النسيان، أو حتى بعض الندوات التي يعقدها لكتاب لم ينالوا حظهم من الشهرة والاعتراف في ورشة الزيتون التي يشرف عليها منذ ربع قرن تقريبا.
وأعتقد أن هذا مسلك طيب ونبيل في حد ذاته، بل ومفيد في إطار تأريخ الأدب من خلال مبدعيه سواء على مستوى أدائهم أو ظروف عصرهم وتأثيره عليهم أو متون نصوصهم، لكنه أيضا مسلك يجب أن يكون معنيا ومدعيا أكثر للإجابة على سؤال مهم، يتصل بالطبع بالحديث عن يوسف إدريس وأمثاله من رموز الأدب الكبار، ألا وهو: لماذا يحصد بعض الأدباء الشهرة والمجد ولا ينال غيرهم هذا حتى لو كان إبداعهم قوي ولافت في حد ذاته؟
يحدثنا الكتاب عن أسباب محددة تتعلق بالأساس برغبة السلطة في دعم كاتب معين وتحمسها لها مقابل أن يؤدي دورا في خدمتها، لكن هذا الدعم لا يناله كل أحد، ختى لو سعى إليه، إنما من تختاره السلطة، وتتوافر فيه الشروط التي تريدها، وهنا يقول: ” لابد أن تتوفر في الشاعر أو الكاتب المدعوم والمبشر بالحماية من جناب السلطان صفات عديدة، أولها أن يكون موهوبا كبيرا كي يكون قادرا على الإقناع والإمتاع والمسامرة، وكذلك الدفاع عن الحاكم عند الطلب والقدرة على كتابة الخطابات العديد، وفي أوجهها المختلفة الاجتماعية والسياسية والدينية والثقافية، وأيضا الهجوم على خصوم الحاكم وتسفيههم والسخرية منهم لدرجة التمزيق، ولابد أن تأتي كل الخطابات في صياغات طبيعية، أو شبه طبيعية وهذا لا يمنع أن يثأر الشاعر أو الكاتب لنفسه عندما تدور الدوائر لإقصائه”.
وكي يثبت انطباق هذا الأمر على يوسف إدريس تحدث عن علاقته بالرئيس السادات، بل يتهم إدريس بأنه كتب للرئيس المصري الراحل بعض كتبه ومقالاته، بما جعل أهل الحكم يطلبون صراحة من الدكتور طه حسين أن يقدم مجموعته القصصية “أرخص ليالي”. وعلاقة السادات بيوسف إدريس باتت متفقا عليها، بل إن يوسف إدريس نفسه يعترف: “ظللت أعمل مع السادات حتى نقلني تماما من وزارة الصحة إلى المؤتمر الإسلامي لأتفرغ لكتابة ثلاثة كتب تحمل اسمه، واعتبرتها مهمة وطنية عليا إذ أن أحدها كان عن حرب السويس الوطنية والعدوان الثلاثي، وقع في خمسمئة صفحة وترجم ونشر باسم السادات في دار نشر هندية وزعته بالإنكليزية على العالم أجمع”.
.وهناك من يقول إنه قد اختفى من الساحة العامة، على أثر تعليقات له علنية ضد الوضع السياسي في عهد السادات ولم يعد للظهور إلا بعد حرب أكتوبر 1973 ليصFح أحد كبار كتاب صحيفة الأهرام. لكن ملفا صدر بجريدة “القاهرة” في 13 يوليو 2004 حتى عنوان” ” يوسف إدريس .. أمير الحكي”  حوى آراء مختلفة، حيث قال الكاتب السياسي محمد عودة: “يوسف إدريس لم ينقلب على اليسار .. هذا كلام مقاهي”، فيما أعلن شيوعيون في الملف نفسه براءته من تهمة الخيانة بعد نصف قرن من الحملة التي شنوها ضد روايته “البيضاء”، بل إن ميلاد حنا قال إن علاقة إدريس بالسادات كانت متقلبة.
أما الحديث عن دفع طه حسين أو إجباره أو حتى الإيجاء له من قبل السلطة السياسية بكتابة مقدمة المجموعة الأولى لإدريس فهو أمر يحتاج إلى تدقيق، فشخصية طه حسين تجعله عصيا على الطاعة بهذه الطريقة، كما أن ما كتبه لم يكن مدحا في هذه القصص، بل إنه عاب عليها عاميتها، وطلب من كاتبها أن يلتفت إلى مهنته كطبيب، وهو ما كان يُستخدم فيما بعد كمثال على فشل نبوءة بعض الكبار حيال الكتاب الشبان، بل إن يوسف إدريس نفسه ظل يتحدث عن هذا، ونقل في طبعة تالية تلك المقدمة إلى نهاية الكتاب باعتبارها “بركة”، وهي كلمة وضعها  إدريس في سياق ساخر، وظل طيلة حياته حانقا عل طه حسين.
وكتاب شعبان يخالف ذلك الذي ألفه الناقد الدكتور محمد فتحي قبل ست سنوات بعنوان “يوسف إدريس أبأس العباقرة”، والذي انطلق فيه من أطروحته للدكتوراه التي تناولت “تكوين المبدع وإبداع الأصالة وأصول النبوغ”، وقال فيه إن إدريس لم يكن من المتكسبين بقلمه، وأنه مات فقيرا رغم تفرده وموهبته اللاذعة، وهي الموهبة التي لا ينبو عنها شعبان يوسف نفسه حين يقول: “قراءتي تلك لا تمس قيمة يوسف إدريس من قريب أو بعيد”، أو يقول: “عبقرية يوسف إدريس لم تتكرر إلى الآن”.
وربما طغت رغبة الكاتب في إنصاف ثلاثة أجيال سابقة ولاحقة ومتزامنة مع يوسف إدريس، وهي مسألة معروفة عنه في السعي وراء المهمشين والتنقيب عن الجواهر المخبوءة في الأدب المصري، على رؤيته لموقع إدريس من هذا، فحمله أكبر مما فعله، اللهم إلا في حالتين ذكرهما عن فتور تلقي إدريس لنصوص يحيى الطاهر عبد الله ومحمد حافظ رجب، وهما لاحقين عليه، وقد ثبت فيما بعد أهمية ما أبدعاه، ولو أن أدريس قدمهما، وتحمس لهما، ما نقص هذا أو خصم من رصيده شيء، ولم يكن بوسع أي منهما أن يزيح إدريس من موقعه المتقدم ككاتب ذي موهبة طاغية في القصة القصيرة. وهاتان الحالتان في حاجة إلى تفسير آخر.
إن المقربين جدا من يوسف إدريس يعترفون بأنه كان “لا يثق في نفسه بقدر كاف” على النقيض مما يصدره للآخرين، وربما الغطرسة والاستعلاء والتطاوس الذي كان ينتابه هو نوع من الحيل الدفاعية، حتى لا تنكشف حقيقته، فينهشه الآخرون كما كان يتصور أو يتوهم، وهي مسألة يمكن أن نفهمها على وجه أعمق إن استعدنا تجربته في الطفولة والصبا، والتي أورثته عقدا لم تذب مع الزمن، وحتى بعد التحقق والشهرة. وبعض ما قاله عن نفسه، مبالغا في دوره، أو مقللا من أدوار الآخرين، هو جزء من هذا المسار، والذي دفع إدريس نفسه بعض أثمان له، لخصتها عبارة كاتبة عراقية كانت قد سعت إلى لقائه بأي طريقة بعد أن سحرتها قصصه، فلما تحققت لها أمنيتها وجلست إليه ونالها من تطاوسه الكثير قالت: “يا ليتني ظللت أقرأك من بعيد جدا”.
وفي ظني أن هناك عوامل أخرى مساعدة أو مصاحبة للموهبة الأدبية تساهم في ذيوع وشهرة وتسيد كاتب وانحسار الأضواء عن نظيره، رغم أن موهبة الأخير لا تكون أقل أو إنتاجه أضعف من الأول، مثل الدور العام للكاتب، وهي مسألة وعاها إدريس، الذي خاض معارك متعاقبة وكان يقول: “حين يكون عقل أمتي في خطر لا تسألني عن الأنواع الأدبية”، أو ما نقله عنه الأديب سعد القرش حين التقاه عام 1991 وقال له إدريس:“هل يمكنك، وأنت تمشي في مظاهرة، تضج بهتافات ومواجهات ورصاص، أن تميل لكي تجلس في ركن وتكتب قصة؟ ألتمس العذر للمبدعين العرب؛ لأنهم يكتبون في ظروف صعبة، يبدعون ضد تيار الواقع، ولا يستريحون من أزمات متوالية لا تتيح لهم تصور عالم آخر. هذه المتعة، راحة البال، لا يتمتع بها إلا الكاتب خارج الوطن العربي”.
ومن ركائز قوة الكاتب إلى جانب دوره العام اعتداده بنفسه، بحيث تصير قامته الإبداعية متناسبة مع قامته الاجتماعية والإنسانية، ومنها القدرة على التجدد والإضافة دوما، والتعامل الذكي مع دور النشر ومنابر الإعلام، ووجود قوى مبصرة أو عمياء، بفعل التدبير المقصود أو الحظ، لصناعة النجومية. لكن الكتاب يجعل ركيزة القوة أو النفوذ الوحيدة أو الأعلى للكاتب، بعد الموهبة، هي علاقته الجيدة بالسلطة، وهي مسألة لم تكن من طرف واحد بالنسبة ليوسف إدريس كما يقول هو ردا على اتهام نجيب سرور له بان السلطة قد عبثت به: “لم تعبث السلطة، أيّ سلطة، بي، العكس هو الصحيح، فقد عبثت بها كثيرا”. وبغض النظر عن صدق هذا من كذه فإن العلاقة مع السلطة لم تظل تعمل لصالح إدريس كل الوقت، بل انقلبت ضده في بعض سنوات حكم حسني مبارك حين كتب إدريس كتاب “البحث عن السادات”، ثم حين كتبت مقال “ليس صدام وحده المجرم” عقب الغزو العراقي للكويت في أغسطس 1990. وفي هاتين اللحظتين انهالت بعض الأقلام بنقد لاذع ليس على الموقف السياسي ليوسف إدريس إنما على أدبه، واتهمه هؤلاء بأن معينه قد نضب، ولم يعد لديه ما يكتبه، وأثر فيه هذا الهجوم كثيرا، لدرجة أن كتب يقول إن لديه كشكولا يحوي أفكارا لعشرين قصة على الأقل، وتحدث عن مسرحية يكتبها بعنوان: “يوم الحساب”.
ولو كان الأمر على هذا النحو لمات من تاريخ الأدب كتاب معارضون، ولكانت الدولة المصرية قد تمكنت من تحقيق رغبتها في فوز توفيق الحكيم ومن بعده عبد الرحمن الشرقاوي بجائزة نوبل، حيث كانت تعمل على ترشيح الأول حتى توفى فرشحت الثاني حتى في العام الذي فاز فيه بها نجيب محفوظ. ولو كان بوسع أهل الحكم أن يسدلوا ستائر العتمة فوق الموهوبين لما سمعنا بأمل دنقل الذي بنى مجده على قول “لا” أو نجيب سرور الذي بلغ في معارضته ورفضه حدا بالغا، ولما وجد صنع الله إبراهيم أي فرصة لنشر أعماله. ولهذا علينا أن نبحث عن أسباب أخرى في تحليل هذه الظاهرة إلى جانب قضية العلاقة بالسلطة، إيجابا أو سلبا، وهي مسألة لا يعجز عن فهمها والتمكن من الوصول إليها واحد من أكثر المشتغلين والمنشغلين بتاريخ الأدب المصري مثل شعبان يوسف، كما لا يعجز عن فهم حقيقة أن السلطة ليست فقط إدارة الدولة إنما هناك سلطة النقد، وسلطة الجمهور الذي يتحمس لكاتب ويهمل آخر، وسلطة “أولاد الكار” من المجايلين أو اللاحقين، وهي سلطات عملت وتعمل غالبا في صالح يوسف إدريس.
لقد ذهبت السلطة التي ساندت يوسف إدريس، بل ذهب هو نفسه، وترك أعماله القصصية لتدهش وتهز أعماق أجيال لاحقة، وهؤلاء في كتاباتهم وحديثهم وثرثرتهم جعلوا اسم الرجل لا يزال يتردد وبقوة، وربما كتاب شعبان يوسف يقع في قلب هذه الأحاديث والكتابات، التي تبرهن على أن الانشغال بإدريس لم ينته بعد، وقد لا ينتهي، ليس بوصفه أول من كتب القصة القصيرة في مصر أو العالم العربي، فهذا غير صحيح، ولا أن كتاباته أزاحت ما قبلها تماما، لكن لأنه كان الاكثر تميزا على هذا الدرب، أو أنه المغايرة القوية التي أحدثها في فن الكتابة القصصية قياسا إلى زمنه كانت واسعة، وحتى لو تجاوزها أو سيتجاوزها جيل لاحق فإن هذا ليس بوسعه أن يهيل التراب على الإضافة القوية التي جاد بها إدريس على هذا الفن الذي أصبح، على أهميته وجماله، مغبونا في وجه انتعاش وانتشار فن الرواية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*نقلا عن موقع “مصراوي”

رجاء بقالي

من الذاكرة  :
كتب احمد الطنطاوي:
ــــــــــــــــــــــــــــ
منعطف جديد فى كتابة رائدة القصة القصيرة جدًا
[ رجاء البقالى ]
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 بعنوان : ما لا نراه


عند نقطة خالية من ذلك الشارع الصخيب ، تقف و صغيرتها بعد طول مسير..
 تسند ظهرها إلى الجدار .. تتستر بصمتها و تشخص الى الأرض تلاحق المارين
 بين يمين و يسار، بينما الطفلة تترنح نؤومةً من تسكعها و بيدها دميتها المحطمة..
سيدة المكان أنتِ الآن فلتهنئي ..
ابسطي كفك و الدثار ، و ارقبي .. فغدا تزهر في موقدك النار .. غدا يلهو
 و طفلتك الفرح..
تحت بصرها الجزوع، تتراكض الأقدام.. تتكاثف ثم تتبعثر، تدهس ظلالها الهاربة
 الى الوراء، الى غريماتها تفترش الحرير ، و تُسقِط نظراتها الحجرية على الفراغ
عبر جدار من زجاج..
بين غفو و صحو ، تستجمع الطفلة أشتات المشهد..تحملق في الدمى الكبيرة المنتصبة في الواجهة ثم تستدير الى امها تغرس نظراتها في الأرض ، تحفرها شفرات في متاهات الانتظار ..تحتضن ساقيها الصغيرتين و أشلاء دميتها ، و تشرد في
بقايا أقدام و ظلال ، تعكسها الأضواء الراعشة المنبعثة من رؤوس أعمدة باسقات ،
على رصيف شارع طويل
شارع تتسول واجهاته العابرين .
ا

بقلم أحمد طنطاوي



[ الومضــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة ]
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1]

الومضة هى اقتناص المعنى كشـــــــهاب ..خطفة و ضربة سهم .
جدير بالذكر أنه فى مجال التجنيس  { الومضــــــــــــة } ليست هى
قصة قصيرة جدًا , الومضة بعكس زميلتها أكثر تكثيفًا _ و بشكل
 زاعق و صارخ _ و تكوينها  يختلف ,فهى عبارة عن :

سبب.. و نتيجة
شطر أول ... و شطر ثانٍ مقابل
سؤال الشرط ... و جوابه
صدر .. و عجز

تفصلهما علامة ترقيمية ( فاصلة منقوطة "؛" ) لتبيان هذه العلاقة
 بين الطرفيـــــــــن , هى محددة تحديدًا صارمًا بعدد محدود جدًا من
الكلمات لا يزيد على عدد أصابع اليديــن بأى حال .. طرفاها ككفتى
ميزان يجب أن يتعادلا ثقلا و توازنا بين القطبين   هكذا :

ــــــــــــــــــــــــ ؛ ـــــــــــــــــــــــ .
و ليس هكذا
ـــــــــــــ ؛ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ .

................
القصة القصيرة جدًا هاجسها اللحظة الحدثية , التفاف حركى ينتهى
بقفلة تســــــــــــتحث قوى التأمل الداخلى و عنفوانه , و الحكاية فيها
أساسية , بعكس الومضة الحكاية فيها هامشية , و هى شـــــكل من
 أشكال التضاد , و الثنائيات و طرفى المشهد , والمحك الأساســـــى
و محور الاهتمام فيها هو إظهار التناقض بين هذين الطرفين .
الومضة   إذن هى  من الإيماض و هو البريق الخاطف و الإشــــــارة
 العابرة الســــــــــــريعة كلمعة البرق , و معنى ذلك أن التكثيف فيها
 _ كجنس أدبى _ قد بلغ منتهاه , و إذا  كنا قد قلنا أن القصة القصيرة
 جدًا هى : كيف أجمع العالم فى قبضة يد , فإن الومضة هى علىَّ أن
 أجمع العالم فى نصف قبضة يد , ثم أضغطه لأقبض عليه بإصـــــبع
واحد فقط .... فمن يجرؤ...؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟

هى شعور مســـــــرف فى تركيزه و ضغطه , هى بريق خاطف يدهش
ليســـــت الحكاية فيها بذات الأهمية القصوى و ظهورها يبدو من بعيد
كأنه غيمة مطلة، هى موجودة _ لكن على مستوى معين غير متحرك
 أو محتدم _ من وراء ستار _ متوارية خجول... و هى بهذا جنس أدبــــي
 مســـــــــتقل يجب أن تنفصل _ تجنيسيًا _ عن القصة القصيرة جدًا حلا
للإشكال ... إشــــــــــكال مقارنتها و مطابقتها بها ,. يعنى يجب حين نقرأ
ومضة ما؛ أن نعرف أننا الآن فى مدينـــــــة أخرى , لها طبيعتها و جوها
 المناخى الخاص, و لغتها المختلفة. الحكايــــــــة فيها لا تحقق خصيصة
 التسلسل المتدرج ,  بل الاهتمام هو بالنهايات ...هى _ بعكس القصة القصيرة جدًا _ :

* ترفرف كطائر فوق المشهد و لا تندمج فيه توغلا و حسمًا
* هى كشهقة لحظية
* أنها أقرب لمعنى الآية ( فكشفنا عنك غطائك فبصرك اليوم حديد )
* هى تكتفى بلمعة الشهاب فى السماء و عليك أنت أن تبنى كامل
 التصور من عندك.
* الومضة لن تعطك الحدث الممتلىء, و لا حتى القفلة المتفجرة؛
هى تعطيك فقط الإشارة و عليك أنت  أن [ تؤلف ] القصة.
* هى تدخل الى الجوهر النهائى مباشرة كحكمة مستقاة
* الومضة الممتازة ليس من الســــــــــــــهل كتابتها ... و حتى كتابها
المعتمدون تختلف درجة الإجادة عندهم من ومضة الى أخرى؛ لأنها
أقرب الى الإلهامات، و ليس كل التجلي على نفس الدرجة من النورانية.
و ربما لم يتحقق هذا الى الآن إلا فى بعض ومضات قليلة للغاية؛
علىَّ أن أجمع نصف العالم فى قبضة يد ثم أضغطه لأقبض عليه
بإصبع واحد فقط .... فمن يجرؤ...؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
من يفعل _ بحق .. و أكرر ( بحق ) _ سينضم لأقطاب الصوفية.
* الومضة إذًا هى شعور مســــــرف فى تركيزه و ضغطه , هى بريق
 خاطف يدهش و ليست الحكاية فيها بذات الأهمية القصوى و ظهورها القوي كما أسلفت ، الحكاية فيها تبدو من بعيد كأنها غيمة مطلة، هى
 موجودة _ لكن على مســــــتوى معين غير متحرك أو محتدم _ من وراء
 ستار, متوارية خجول... قلت لصديق عنها :
"أنا أرمى إليك بالوهج فقط , ثم أمشى... قم أنت بتأليف القصـــــــــــــــة
بطريقتك استلهامًا من هذا الوهج" ,   و لهذا أراها جنسًا مستقلا.

هزلية

(    اقتحم الغابة ليصيد أسدًا ؛ صرعته لدغة عقرب.  )
 \ أحمد طنطاوى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تباين

استقام على الأرض الملتوية؛ اتّهموا ظلّه بالاعوجاج.

هذه الومضة تستحق الإشادة لتحقق المقومات بها بجدارة  , فالتناقض
 واضح شديد الوضوح { التناقض إذا صدقت إحدى الصفتين على شيء فالأخرى كاذبة حكمًا   الأسود واللاأسود مثلاً } ,و هى لامست بشــــــــــدة الجوهر النهائى و ألقت بالوهج , و السبب و النتيجة مجســـــــــــــــدان فى تصارعهما الحاد ,و الحركية متحققة ,و استخدام الالفاظ الموحية بأسلوب اللهاث أدى وظيفته و مسعاه التصويرى
استقام \أرض ملتوية\ إعوجاج
.. اتهام الظل
جاء كنقطة الارتكاز بين الحركة الاولى و الناتج الثانى المقابل
اتهام الظل ( و ليس الرجل نفسه ) هى براعة التعامل النصى و تجسيد
 العبث فى ردة الفعل على الأمر المستقيم ..
العنوان عتبة صلبة تستحق الإشادة لالتحامها العضوى بالمتن
هذه الومضة أنموذج بحق , لكنى للأسف لا أعلم اسم صاحبها .

( تكملة )

القصة بقلم سامية صادق وقراءة احمد طنطاوي

النص المشكلة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

Samia Sadek

توافق

يُقلّبُ لُعَبَهُ القديمةَ , يفتشُ عن واحدةٍ تُشْبِهُهَا,
تتشاكلُ عليه الملامحُ , يحقق فى التفاصيل .
يَسقط ُعن وجههِ قناعُها ؛ فيمتدُ ظلُها طويلا أمامه  .

( سامية صادق )
ــــــــــــــــــــــــــــــــ

أبعاد النص المتداخلة تجعله يتصف بالاحتشــــــــــــاد  الحائر ...
ما يستدعى الإعجاب النقـــــــدى عند النظر إليه  _ إجبارًا _ من
 زوايا   متعددة ,  هو يفـــــــــــــــــــتش فى ألعابه عما يَظن أنه
 مماثل  لها ,   و لا يفتش عنها كحقيقة _  بينما هى مختبئــــة
فى قنــــــــــــاعها    الذى يرتديه هو .

تخاتله ضبابات الحقيقــــــــــة و الوهم فيتوه و لا يصل إلـــــــى
مبتغاه .
حين يفتش فمعنى هذا  أنها ليســـــــــــــــت فى واقعه الفعلى
( الآن ) و الزمنية هنا أســــــــــاسية [ الزمن الحقيقى الفيزيائى
و الزمن النفســـــــــــــــــى الخاص , فهو يعانى  زمنين ,  يعيش
ماضيًا   بينما تعيش  هى  حاضره ] ,   لكنها  بواســـــــــــــــــطة
 حضورها الرامز المقنَّع  ( قناعها الذى يرتديه هو  ) موجودة
 بشكل من الأشكال  كمحايثة( أو إمكان ) ,  بدليل أنها ظهرت
فى خلفــــــــــــــــــــية ما لم يرها هو  ,  إنما ظهر له فقط  ظلها 
المشاكس كنقطة كشــــــــفٍ للخداع المستتر الذى قفز ممتدًا
أمامــــه ,   خداع  حقائق الحياة و أوهامها على العموم و ليس
 خداعها هى تحديدًا .

هو حائر أصــــــلا لا يعرف ماذا يريد أو ما الذى يجب أن يفعله
فكل الأمور ملتبسة أمامه حتـــــى ملامحها  قد غابت عنه فهو
 الآن يجلب الأشياء القديمة , فلاشــــــــــــــــك أن العمر قد  ولَّى ,
  ( و ربما تكون أيضًا  قد رحلت عن الحياة كفرضـــــــية محتملة
بشكل كبير )

النص كله يعالج الوهم بتداخله الزلِق مع الحقيقـــــــــــــة معالجة
إحداثيات هندســــــــية ,   نكاد نمسك بعنصر الواقع فيقفز فورًا
جانب الخيال و العكس  حتى نصـــــــــــــاب بالدوار  ... فنفكر فى
 واقعنا و الأشياء المحيطة بنا نحن أيضًا  بكل مفرداتها الموحية ...

إنه من هذه الناحية كــ " نركيسس " الذى راقب وجهه فى بحيرة الماء
فعاش لحظتها واقعين , و هو بهذا يلعب لعبة وجوديــــــــة  قد تكلفه
الكثير   لو ساير خدعتها و تبِعَ الظلال  . 

علينا أن نفكر جيدًا فى :

الألعاب ... و الأقنعة ... و الظلال

هى كلها رموز و دلالات لعبثيـــــــــــــة وجود نعيش فيه على الهامش :
نلعب و نتوهم و نمنى النفس و نكذب على انفسنا و نعتمد الخيالات
و تعجبنا الأقنعة _ ســــــــــواء ارتديناها نحن أم ارتداها غيرنا  , لا فرق _
الأمر كله إذن عبث فى عبث كما هتف مكبث فى نهايــــــة مونولوجه
الشهير :

"ما الحياة إلا ظل يمشي، ممثل مسكين
يتبختر ويستشيط ساعته على المسرح،
ثم لا يسمعه أحد: إنها حكاية
يحكيها معتوه، ملؤها الصخب والعنف،
ولا تعنى أى شىء "”
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

النص مكتمل تقنيًا كقصة قصيرة جدًا ...  دخول مباشـــــر إلى عمق
 المشهد   , و الحركية تشمل أركانه توترًا , و القفلة حققت مسعاها
بكسر أفق التوقع و استثارة عنصر ( ما بعد القراءة ) الذى سيقوم به
 القارىء تلقائيًا  مع هذا  الانفتاح ( لا الاغلاق) للقفلة ,  و الداعى إلى
 التأمل و   اســــــــــتدعاء المستويات الأخرى لتعاملات المخيلة  إزاء
العناصر  التى تخاطب أنواعًا أخرى من الواقع غير هذا الذى ألِفناه
 و نحياه  .